النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: مِشكاةُ نور

العرض المتطور

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #1 مِشكاةُ نور 
    طبيب وشاعر سوري الصورة الرمزية الدكتور طاهر سماق
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    الدولة
    سورية
    العمر
    61
    المشاركات
    40
    معدل تقييم المستوى
    0
    قليلاً ما تستأثِرُ بكَ طلعَةُ أحدٍ ما..!

    ويومَها ..

    كانتْ طلعتُها تُشِعُّ بالنورِ.

    عندما دخلتْ بصُحبَةِ والِدِها، وعلاماتُ الإرهاقِ تعلو وجهَها المُضيءِ كمشكاة
    الأبيضِ كاللجينِ
    الرقيقِ كبتلةِ ياسمين.


    تلَقَّيتُها بغِبطةٍ ملأتْ عليَّ قلبي، قبلَ أن تتجاوزَ مدخلَ الغرفة.


    بادرتُ بالنُّهوضِ عن مقعدي مرحِّباً ..


    صافحتُ والِدَها، وربَّتُّ على كتفِها، وابتسمت ..

    لكنَّها ..
    كأنما لم تعبأ بشيءٍ مما يجري حولَها ..


    كانت ساهِمةَ النَّظراتِ مُجفِلَةً كأنَّما أرنبٌ برِّيٌّ انبرى لهُ صيَّاد.


    كانتْ تتوهَّجُ كأنهُ الجمرُ من تحتِ الرماد.


    كلُّ ذلك .. حتى قبلَ أن أسمع شكايتَها ..


    أجلستُها، وسألتْ:
    خير؟!

    ردَّ والدُها:
    لا ندري .. !! هي محومةٌ منذُ أيامٍ، ولم تستجِبْ لأي علاج!


    لم يكنِ الأمر يحتملُ المزيدَ من الاستفسارات! فالطفلةُ ذاتُ الأعوامِ العشرةِ كانتْ مُرهَقةً حدَّ الإجهاد.


    وعلى سرير الفحص .. كانت حرارتُها شديدة .. تزيدُ عن الإثنتين والأربعين درجةً مئوية.
    حُمَّى لمْ يسبِقْ أن واجهتُ مثيلاً لها رُغمَ قِصَرِ حياتيَ المهنيَّةِ بعد.


    أصغيتُ قلبها ..
    فكانَ كقلبِ عصفورٍ من شدَّةِ تَسَرُّعِه ..


    فحصتُ البلعوم، فلم أشاهدْ سوى احتقانٍ بسيطٍ لا يُفَسِّرُ كلَّ ذاك الكمِّ من الدعثِ والتعبِ الباديَين.


    كانَ لا بُدَّ من حِقنَةٍ عضليَّةٍ لخفض الحرارة ..

    ثم ..


    استدرتُ لأكتبُ وصفتيِ التي قدَّرتُ أن أُرَكِّزَ فيها على الصَّاداتِ الحيويةِ ونحنُ في تلك البقعةِ الريفيةِ النائية.


    " نَهَشَها كلبٌ منذ حوالي شهرٍ يا دكتور "


    ألقيتُ قلمي وكأنما القدَرُ تغيَّر.


    كأنما كنتُ أتحسسُ درباً في الضَّبابِ الكثيفِ فإذا به ينقَشِع.


    ينقَشِعُ فجأةً فأرى الوضوحَ ..

    وأيَّ وضوح!!؟


    وضوحٌ فيهِ من الألمِ أكثرَ مما فيه من اليقين.
    وقعتُ على حقيقةٍ تمنَّيتُ لو أنني ما قاربتُها ..


    قلتُ له:
    والكلب؟؟


    قال: هرب .. ولم نعثُرْ لهُ على أثرٍ بعدها..


    فقمتُ إليها بجرعةِ ماء .. تلقَّفتها بلهفةٍ.


    لِمَ لا؟؟ ..
    فلقد كانَ الظَّمأ استولى عليها ..
    ولكنْ ..


    ما إن وصلتْ أوَّلُ قطرةِ ماءٍ إلى بلعومِها حتى تشردَقتْ، وبدتْ وكأن الموتَ باغَتَها.


    تورَّدَ وجهُها البريءُ، وجحظتْ عيناها المترعتانِ طفولةً، وانتابتها حالةٌ من الذُّعرِ كأنما تواجهُ تنِّين ..


    أبْعَدَتِ الكأسَ عن فمِها بِهَلَعٍ، فقدَّمتهُ ثانيةً .. فبدا منها الرُّهاب، وبدَتْ منِّيَ الصَّدمة.

    خَنَقتني العَبْرَة .. واستدرتُ إلى طاولة مكتبي، ومزَّقتُ وصفتي .. وتمالكتُ نفسي، وهمستُ لوالِدِها:


    سيدي .. إنَّ ابنتَكَ مصابةٌ بالسُّعار.
    وإنَّ الأوانَ يا سيِّدي قد فات.

    ولم يعدْ هناك من تدبيرٍ سوى تدبيرِ الله.
    ثلاثةُ أيَّامٍ أو أربعة .. و ..


    ينقضي الأمر.


    ثمَّ استَدَرتُ إليها ومسحتُ على وجنتَيْها مواسياً وابتسمت:
    صغيرتي .. لا تجزعي .. ولا يهمُّكِ .. ها!؟


    بصمتٍ .. باختناق ..

    تحاشيتُ أن تنسكب دمعتيَ يومَها ..

    لكنَّني ..


    أهرَقتُها الآن
    التعديل الأخير تم بواسطة طارق شفيق حقي ; 24/12/2010 الساعة 09:10 PM سبب آخر: حجم الخط
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,620
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    يا الله

    كم ألمتني

    ربما تكون هذه القصة من واقع الخيال
    لكنها تروي قصصاً كثيرة من الواقع المعاش

    طفلة بعمر الزهور تموت من السعار

    كثيراً أو قليلاً ما نسمع هذه القصص لا يهم
    لأن قليلها كثير

    القصة تجبرنا أن ننتقل من حبكتها الأدبية
    لتدخلنا في تفاصيلها الواقعية
    وحجم الأسى الذي دخل قلوبنا عبر قلب الطبيب
    ليعبر عنا ما ألم بفتاة صغيرة في منطقة ريفية
    تفتقد لأبسط مقومات الحياة

    وهذا لعمري أسمى وظيفة للأدب
    أن يعري الواقع
    ويفضح ظلمته

    أشكرك أيها الإنسان الطبيب لما قدمت لنا من جرعة ألم
    و لا شفاء من دون ألم
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3  
    مشرف الصورة الرمزية محمد يوب
    تاريخ التسجيل
    Nov 2009
    الدولة
    الدار ابيضاء المغرب
    المشاركات
    944
    مقالات المدونة
    21
    معدل تقييم المستوى
    15
    قصة جميلة بدلالاتها وبانزياحاتها اللغوية وبتمفصلها الصوتي في اتجاه النص الشعري,
    مودتي
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4  
    شاعر سوري- مشرف الصورة الرمزية مصطفى البطران
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    الدولة
    في بساتين القلوب
    المشاركات
    1,133
    مقالات المدونة
    5
    معدل تقييم المستوى
    19
    قصة من واقع مؤلم ومرير وقد تقع مثل هذه الحوادث في ريفنا كثيررررررا
    هذا دور الأدب تنبيه وتذكير وإرشاد ونصح وهذا ما لمسته في هذه القصة الواقعية الصادقة
    اللغة البسيطة السهلة والموضوع المؤثر المؤلم والشخصيات المنسجمة مع أحداث القصة
    تجعل من القصة لوحة جرح وألم منقطعة النظير أين نحن مما يلم بنا من مصائب ... شكرا لأنك
    أمتعتنا وشوقتنا وعرفت كيف تسير بنا إلى نهاية القصة بكل لطف ويسر ... شكرا لك ودمت مبدعا
    بكم
    أحيـــــا

    رد مع اقتباس  
     

  5. #5  
    شاعر عباسي،،،، الصورة الرمزية الناصري
    تاريخ التسجيل
    May 2008
    الدولة
    الكون ..
    المشاركات
    510
    معدل تقييم المستوى
    18
    جمالٌ في السرد وإبداعٌ في الإخراج والخط.......هل نذهب بعيداً ونسقطها على واقعنا العربي.........شكراً أيها الكاتب
    إذا ترحلتَ عن قومٍ وقد قدروا.....ألا تغادرهم فالراحلون هُمُ
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6  
    كاتب مسجل الصورة الرمزية سوسنة الكنانة
    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    المشاركات
    83
    معدل تقييم المستوى
    15
    أحسست بحروفها حية !
    كانما تسطر واقعا ...

    لتضمني إلى قائمة المتألمين
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7  
    كاتب الصورة الرمزية عبد الله نفاخ
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    الدولة
    سوريا دمشق
    العمر
    38
    المشاركات
    829
    مقالات المدونة
    3
    معدل تقييم المستوى
    15
    لامست عمق الإنسانية بمنتهى الشاعرية أديبنا الطبيب ....
    و آه من الإنسانية المتوجعة دوماً كأم ثكلى ......
    و يا للأدب حين لا يكون ناقلاً و معبراً عن ذلك ....
    يا لسطحيته يومها ....
    خرجت كلماتك من القلب فتلقفتها القلوب أيها الكريم ...
    بورك يراعك الناضح بالحب ...
    لك كل تحية
    ربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل ، ولكن الخير كذلك . وبأنه مخالف ، ولكن الحق كذلك ، وبأنه محير ، ولكن الحسن كذلك، وبأنه كثير التكاليف ، ولكن الحرية كذلك
    إمام الأدب العربي (الرافعي)
    رد مع اقتباس  
     

  8. #8  
    طبيب وشاعر سوري الصورة الرمزية الدكتور طاهر سماق
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    الدولة
    سورية
    العمر
    61
    المشاركات
    40
    معدل تقييم المستوى
    0
    أحبتي
    كل عامٍ وأنتم بخير .. في كل أصقاع الوطن من رأس مسندم على مضيق هرمز إلى الرأس الأبيض على الأطلسي

    كل الحب لكم

    وأود أن أعلِّق أولاً بالشكر لكل من مر .. وثانياً . أنني كتبت قصتي من واقعٍ عشتُهُ بحذافيرِه ..

    وهذا دأبي في أعلب الأحيان .. إلا ما ندر
    مودَّتي
    رد مع اقتباس  
     

  9. #9  
    قاص مربدي الصورة الرمزية خليد خريبش
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,114
    مقالات المدونة
    2
    معدل تقييم المستوى
    20
    قصة واقعية درامية،تذكرني بقصص أدب أوروبا أيام أيام سعيها للخروج من التخلف،تحياتي الأخوية.
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مقال: مِشكاةُ نور
    بواسطة الدكتور طاهر سماق في المنتدى مجلة المربد
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 25/12/2010, 07:34 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •