و هبوني ساعة في ليل الصالحية ....
و هبوني لحظة في فجر الصالحية .....
و خذوا مني كل ما فيَّ .....
و لا تعطوني غير صلاة في جامع في الصالحية ...
ليست الصالحية أرضاً ككل أرض .... بل أرض تمتد روحها في ثناياها أكثر مما يمتد ترابها ، الصالحية سماوات روحية امتزجت بتراب من الجنة قليل شاء الله أن يكون على هذا الجبل فكان .
تلك الأرض التي منَّ الله علي فخلقني فيها ، و جعل مسقط رأسي في بعض من أرضها ، و جعل روحي تنتشق عبير خلودها من هوائها ، و جعل عينيًّ ترنوان أول ما ترنوان إلى دمشق مرتسمة وادياً من علاها .
و لئن كانت ولادتي في الصالحية ، فلقد شاء رب السموات أن تبقى روحي محومة في زواياها ، و حاراتها الضيقة ، و مزارات أوليائها المزينة بالقباب ، و مآذنها الرانية إلى سمائها ، الباحثة عن المدى غير المنظور القائم وراء المدى المنظور .
عندما بنى أولئك المهاجرون الفارون بدينهم من بطش الصليبيين أبنية قليلة على ذلك الجبل الأجرد ، شاؤوا أن تكون جامعاً و مدرسة و منازل تؤويهم ، جامعاً يربطهم بربهم ، و مدرسة يتعلمون فيها كيف يرتبطون به ، و منازل تقيهم الحر و البرد و البأس ، فيؤتون أنفسهم حقها كما شاء ربهم .
و على هذا قامت أولى مناراتي الروحية و آخرها ، منارة التقاء السماء بالأرض ، منارة الجبل الذي أوى إليه أهل الكهف ، و الربوة التي لجأ إليها المسيح و أمه من طغيان الطاغين و عتو العاتين ، و منارة المجاهدين الذين صدوا الفرنجة و المغول فما هانوا و لا لانوا و لا نكصوا على أعقابهم .
و كأن الله أراد أن تكون تلك البلدة الصغيرة النائمة وادعة على كتف قاسيون مأوى للمؤمنين بدين الله الذي ارتضاه لعباده ، و مهبط وارداته على أوليائه بعدما انقطع وحيه عن أنبيائه ، فتكون بها آخر صلات السماء بالأرض و الأرض بالسماء .
و كأن هذه البلدة التي ينظر إليها المرء ليلاَ فتبهره أضواؤها و شاعرية مشهدها ، تقذف شعوراً في النفس يقول : قد حباني الله جمال روح يفوق كل جمال ، إن حبا غيري أشياء يحسبها الظمآن ماء ، و ما هي إلا سراب في سراب .
فيا لك من أرض اجتمعت بها عناصر الكون كلها ، لتصنع الكون الأصغر الذي ليس إلا .... أنت .