مهداة إلى الأستاذ الفاضل
إبراهيم الزيبق
سامحني إذ أبتدئ كليماتي هذه بعبارتك المعتادة التي أحسها غيمة هطلاء تحمل مع دفء صوتك معاني المودة و الألفة المتناهية .
أستاذي الكريم أبا أويس .....
قرأت مقدمتك لكتابك أبي شامة ، فأخذني شعوري الذي اعتدته في قراءة أي قطعة أو قصة أو مقدمة تكتبها ،و قذف في صدري أن أسرع للتعبير عن ذلك ، و أنقل صدى كلماتك إلى وريقاتي كلمات تجيب أخواتها ، فيلتئم الشمل و تغدو الأجزاء كلاً ، فقد آن الزمن الذي ينبغي أن يعرف فيه حق أديب ناقد محقق مؤرخ جمع الصفات كلها و لم يدع إحداها تغلب الأخريات ، فكان بحق الرجل الكبير الذي يأبى إلا أن يبقى مستعصماً وراء مكتبه ، غارقاً في عالمه الخاص ، لائذاً بعزلته الشاعرية التي يتفوق بإدراكه لذتها على كثير من الشعراء و أدعياء الشعر .
أبو أويس شاعر كبير و إن لم يكتب الشعر ، و أديب كبير و إن أخفى ما يكتب في كراريسه ، و محقق عظيم أخرج ما حقق للناس فحسب من لا يعرفه أنه أمام محقق كبير فحسب ، و إن كان المدقق ليلمس بين سطور تحقيقه وفي تضاعيف حواشيه روح الشاعر الدافئ .
الدفء .... كلمة تحكي الصفة الغالبة في شخصية الأستاذ أبي أويس ، و من بعد في أدبه ، إذ يحس قارئه نفسه عائماً في بحر من المودة و الصفاء تبعثه كلمات الرجل الودود الذي يكفي مثلاً على صحة المدرسة النفسية في النقد و الأدب ‘ فإن كل كلمة بل كل حرف من أدبه بل من كل ما يكتب ليشف عما في صدر صاحبه من مودة و حنو و دفء .
و أبو أويس لعله الرجل الوحيد فيمن أعرف الذي يكتب في القديم فيجعل شخوصه أناسيَّ بيننا ، و يشعرنا حرارة نفوسهم و صدق أحاسيسهم ، و لا ينقلنا إلى عصرهم ، بل يجعلهم هم بيننا ‘ وهو في هذا الجانب مبدع حقيقي ، يجمع التاريخ في أخباره و أحداثه ، و الأدب في تعبيره و تأثيره ، و يصوغ من الطرفين اللذين عجز أغلب الكتاب عن الجمع بينهما دون تغليب أحدهما على الآخر كائناً ذا حياة و شعور .... هو كتابة الأستاذ إبراهيم الزيبق .
و لست أبوح بسر إن قلت إنني لا أكاد أستسيغ التاريخ إلا مما تخطه أنامل الأستاذ الفاضل ، فهو وحده من يشعرني أنني أقرأ سيرة بشر من البشر ، لكنني حين أطالع كتب الأقدمين و أغلب المحدثين أشعر أنني أعمل سابغات أو أجوب الصخر بالواد .
و ما وراء ذلك في ظني إلا الإخلاص الذي أراه هالة تحيط ذلك الرجل الكبير ، فإخلاصه في عمله و ما يصنع هو ما يجعله يكتب في سير الآخرين كأنما يكتب في سيرة نفسه ، أو يقدم للقارئ قطعة من روحه ، و يسرد التاريخ بعلمية متناهية دون أن يشعر القارئ بأي خلل في توازن العناصر الأدبية .
هذا أبو أويس في نظري ، و تلك كتابته كما أرى ، و أشهد الله أني لم أبالغ ، و لكني أكتب ما أراه فيما يحقق و يؤلف و ينشئ ، فهو عندي المؤرخ الأديب و الأديب المؤرخ ، و المحقق الدافئ كاتب المودة ، و من يصنع العلم روحاً بحبه و حنانه .