البحث عن جرار .. 1 .
قبل البرهان على مدى الدقه في مطابقة جغرافيا التوراة العبريه لجغرافيا غرب شبه الجزيره العربيه , لابد من ايراد الدليل , ولو بجمله واحده من الامثله , علىمدى الضعف في مطابقة تلك الجغرافيا لجغرافيا فلسطين . وهذا يتضح تماما من النظر في الطريقه التي عالج فيها علماء التوراة حتى الان مسألة " جرار " / جرر / , وهي بلده توراتيه يفترض أنها ازدهرت في القدم في جوار غزة بساحل فلسطين , في موقع غير بعيد عن بئر السبع .
هناك اربع مقاطع في التوراة تتحدث عن " جرار " .
يذكر سفر التكوين 10 : 19 " جرار " هذه بالترافق مع / صيدن / ( التي أخذت على انها صيدون أي صيدا الفينيقيه ) ومع / عزه / ( التي أخذت على انها غزة الفلسطينيه )
يذكر سفر التكوين 20 : 1 وما يلي , يرد ذكر " جرار " بالترافق مع / ءرص ه-نجب / , وهي في الترجمه " أرض ال نجب " التي تؤخذ على انها تعني صحراء النقب الفلسطينيه . ويضيف النص هنا بأن " جرار " تقع بين " قادش " / قدش / و " شور " و
/ شور / , وبأن ملكها كان يسمى أبيمالك / ء بي ملك / , دون أن يأتي أي ذكر ل / عزه / .
في سفر التكوين 26 يعرّف ابيمالك بأنه " ملك الفلسطينيين " بالعبريه / ملك فلشتيم / .
ويرد ايضا ذكر " وادي جرار " / نحل جرر / بالترافق مع اسماء أربعة آبار هي " عسق " / عسق / و " سطنه " / سطنه / و " رحوبوت " / رحبوت / و " شبعه " أو " بئر السبع "
/ شبعه , بءر شبع / , وهنا ايضا لا يأتي على ذكر / عزه / .
وفي سفر أخبار الأيام الثاني 14 : 8 وما يلي ( 9 وما يلي في " السبعونيه " وفي الترجمه العربيه وغيرها من الترجمات الحديثه ) تظهر " جرار " بشكل بارز في قصة الحرب التي جرت بين " زارح الكوشي " أو " زارح الحبشي " / زرح ه-كوشي / وآسا ملك يهوذا ,
( 908 – 867 ) ق.م . وفي هذه الحرب غزا " الكوشيون " أو " الحبشيون " / ه-كوشيم /
يهوذا ووصلوا الى " مريشه " / مرشه / . وهناك ألحق الملك آسا بهم الهزيمه قرب " وادي صفته " , / جيء صفته / , ثم انبرى يلاحق فلولهم حتى " جرار " حيث نهب البلده وما حولها من زراعه ورعي . ويفهم من ذلك أن " جرار " وجوارها كانت تشكل في ذلك الوقت جزءا من الأراضي " الكوشيه " , ولذلك اقتصّ الملك آسا منها .
وفي بحثهم عن " جرار " , لم يكن أمام الباحثين التوراتيين وعلماء الآثار ما يسترشدون به غير الاشارات الوارده اعلاه , ولم يكن لديهم غير هذه الماده التوراتيه لتحديد موقع اراضي الكنعانيين أو أراضي الفلسطينيين ناهيك عن اراضي الكوشيين .
عندما قام علماء الآثار لأول مرّة باجراء الحفريات في بئر السبع في فلسطين , كانت اقدم البقايا التي عثروا عليها هناك تعود الى أواخر العهد الروماني أوالى العهد البيزنطي .
وهناك دليل معتمد للجغرافيا التوراتيه ( كريلينغ , ص 80 ) يلخص البحث عن " جرار بين غزة وبئر السبع في فلسطين كما يلي :
" ما زال الموقع الصحيح للمكان الذي كانت جرار تقوم فيه غير أكيد , وهو يعتمد على كيفية تحديد مواقع البلدات الأخرى في المنطقه عموما ... "
وباختصار , فان تحديد علماء التوراة لموقعي " قادش " و " شور " في جنوب فلسطين ما هو الا تكهن واه لا يستند الى أية معطيات ثابته .
يتبع ....
ملاحظه : قمت باختصار هنا , احاول ان الفت الانظار الى هذا الكتاب , وكل ما اكتبه لا يغني عن قرائته , وانما يحفّذ عليها , ولكن عن طريق كتابته , كما في دراسة مواد جامعيه , وليس ككتاب عادي , كما ان الخرائط هامه وضروريه .
البحث عن جرار ..2 .
وتبرز مشكله أخرى من خلال ذكر " جرار " في أخبار الايام الثاني 14 , حيث تبدو البلده وكأنها تخص " الكوشيين " / ه-كوشيم/ . وقد عرف الكوشيون هؤلاء تقليديا بكونهم " حبشيين " , وذلك لأن النصوص التوراتيه كثيرا ما تربط بين / كوش و مصريم / , التي تؤخذ دائما على أنها " مصر " ( مع اعتبار أن بلاد الحبشه هي الجارة الجنوبيه لمصر ) . وفي " السبعونية " تسمّى كوش احيانا باسمها هذا كما يرد بالعبرية , وفي أحيان أخرى تسمّيها باليونانيه أيثيوبيا أو أيثيوبس ( أي الحبشه ) , وهذا ما زاد في تشجيع علماء التوراة على تعريف المكان بكونه الحبشه , واذا سلمنا بأن الكوشيين كانوا بالفعل حبشيين , يبقى هناك السؤال : كيف تيسر لهؤلاء الحبشيين أن يسيطروا على أرض هي أرض " جرار " , ويفترض انها كانت في فلسطين ؟
هل كان هؤلاء الحبشيين مصريين من عهد الأسرة الخامسه والعشرين , أي " الاسرة الحبشيه " ؟ وهذا غير معقول , باعتبار ان سيطرتهم على " جرار " علىما تفيده التوراة , كانت في عهد آسا ملك يهوذا الذي توفي قبل عهد الاسرة الحبشيه بحوالي قرن ونصف .
ومما رأينا حتى الان يمكننا استنتاج ما يلي :
1- ان موقع جرار التوراتيه في فلسطين لم يحدد بعد بصورة مرضيه , او بصورة نهائيه , وما من مكان في فلسطين استمر في حمل اسم مشابه .
2- يفترض علماء التوراة ان موقع جرار هو في جنوب فلسطين لأن سفر التكوين 10 يذكر المكان بالترافق مع / عزه / التي يعتقد انها غزه الفلسطينيه , في حين أن سفر التكوين 26 يذكر المكان نفسه بالترافق مع / شبعه / او / بءر شبع / التي يعتقد أنها بئر السبع الفلسطينيه .
3- مع التسليم ان " قادش " التوراتيه قد تكون عين قديس , قرب وادي العريش , وبأن موقع " شور " قد يكون في مكان ابعد غربا في سيناء , قرب برزخ السويس , يبقى هناك الواقع بأن بئر السبع وغزة هما من فلسطين , وليس في سيناء . وبناء على ذلك , فلا يعقل أن يكون موقع " جرار " في الوقت ذاته بين بئر السبع وغزة , وبين قادش وشور , وهو ما يؤكده سفر التكوين .
4- اذا كان الكوشيون التوراتيون حبشيين بالفعل , وكانت جرار في جنوب فلسطين , فان سيطرة الكوشيين على جرار الملمّح اليها بوضوح تام في أخبار اليوم الثاني 14 , لا يمكن تفسيره بسهولة .
ولحل هذا اللغز الغامض المحيط بجرار , قد يكون من الأفضل الانطلاق من الدليل الوارد في أخبار اليوم الثاني 14 , ومحاولة تحديد الهوية الحقيقيه للكوشيين المذكورين في النص .
لقد سبق القول بأن / بءر شبع / العبرية ربما تعني " بئر امتلاء " , ولكنها تؤخذ خطأ على أنها تعني بئر سبع , وفي حديثه عن عودة القائد الروماني ايليوس غالوس من حملته العسكريه في شبه الجزيره العربيه في سنة 24 قبل الميلاد , يصف الجغرافي اليوناني " استرابون " , بدقة فائقه المراحل اتي قطعها غالوس في طريق عودته من " نيغرانا " وهي ( نجران ) , الى " نيغرا " وهي ( النجيره ) قرب ميناء أم لج الحالي على ساحل البحر الاحمر , حيث ركب جنوده السفن التي اقلتهم عائدين الى مصر .
ويفيد استرابون أنه بعد أحد عشر يوما من مغادرته نجران , وصل غالوس الى مكان يسمى " الابار السبعه " ويفيد استرابون بأن رحلة غالوس من " الابار السبعه " الى " نيغرا " استغرقت اربعين يوما , ويصف نيغرا بانها قرية عند البحر . وفي طريقه مرّ غالوس في مكان اسمه " كالا " و آخر اسمه " مالوثاس " يقع على ضفة نهر . والواقع هو ان الطريق من خميس مشيط الى الساحل يتبع " نهر " وادي الضّلع في منطقة رجال المع , حيث توجد حتى اليوم قريتان تسميان , القلعه " كالا " و الملاذة " مالوثاس " .وتستمر هذه الطريق نزولا حتى تصل الى بلدة الدرب , وهناك تلتقي بطريق أخرى تتابع مسارها شمالا عبر الصحراء الساحليه لغرب شبه الجزيره العربيه حتى تصل الى أم لج والنجيرة ( نيغرا ) .
والمسافه بين جوار خميس مشيط وأم لج تقدر بحوالي 1100 كم , وهي مسافه يمكن قطعها سيرا باربعين يوما .
يتبع .........
-----------------------
ملاحظه : يجب الانتباه جيدا الى ان المؤلف لا يبتكر طريقه جديده في البحث , هو يراجع البحوث التي قام بها العلماء التوراتيون , ويلاحظ النقص والضعف والغموض , في محاولاتهم تطبيق جغرافية التوراة على جغرافية فلسطين , ويعتمد في ذلك على قدرته وتمكنه باللغه العبريه القديمه , لمراجعة النصوص التوراتيه القديمه , ليعيد تقديم جغرافيا جديده اكثر واقعيه مما افترضه علماء التوراة واصحاب المصلحه الدينيه والسياسيه في ذلك .
كنت مضطرا للاختصار , في عدة فقرات مما قدمته اتمنى ان لا اكون ضيعت المعنى , فانا اقصد التبسيط , ودفع الزملاء الى العوده الى الكتاب , ودراسته .
البحث عن جرار .. 3
باختصار , فان " الكوشيين " ( وبالتأكيد أولئك الوارد ذكرهم في أخبار الايام الثاني 14 ) لم يكونوا " حبشيين " , بل أهل قبائل من جوار الكوثة ( أي مرتفعات خميس مشيط ) , في الأجزاء العليا من وادي بيشة , غير بعيد عن الانحدار من الشباعة , والتي هي / بءر شبع / أو " بئر سبع " التوراتية . وأما " يهوذا " التي غزاها هؤلاء " الكوشيون " فهي المنحدرات الغربية لعسير الجغرافية .
وأستنادا الى سفر التكوين 20 , فان " جرار " كانت تقع بين " قادش " و " شور " . " وجرار " هذه لا بد أنها كانت القرارة الحالية وليس الغريرة , في جوار خميس مشيط , باعتبار أن القرارة هذه تقع على أمتداد الطريق الرئيسي بين الكدس ( قارن بالعبرية قدش) في رجال ألمع , وال أبو ثور ( ثور قارن بالعبرية شور ) في وادي بيشة .
وليس هناك أي التباس في الاحداثيات هنا , ولا حتى في تعريف " قادش " و " شور " باسميهما , من دون أي لجوء الى الحدس أو البراعة , أو الى التأويل المصطنع لا كتشافات أثرية لا علاقة حقيقية لها بالأمر .
وأكثر من ذلك , فان هنالك في اصحاحي سفر التكوين 20 و 26 ذكر لملك ل " جرار " يدعى أبيمالك / ءبي ملك / وصف في سفر التكوين بأنه ملك " الفلسطينيين " ( فلشتيم والمفرد فلشتي , نسبة الى فلشت او فلشه ) . وهنا لا بد من ابدأ ملاحظتين , الاولى هي أن كامل المنطقة التي تقع على جانبي الشق المائي شمال غرب خميس مشيط , بما فيها الجزء من وادي بيشه حيث توجد القرارة , يحمل الى اليوم الاسم القبلي " بني مالك " / ملك / . وهناك قرية ايضا تسمّى " بني مالك " في المنطقة نفسها . وهذا يمكنه ان يعني أن " أبيمالك " ( التي تعني حرفيا " والد مالك " ) الواردة في اصحاحي سفر التكوين 20 و 26 لم تكن بالضرورة أسم لشخص معين, بل ربما كانت لقبا أطلق قديما في المنطقة على زعماء قبيلة بني مالك الذين كانوا ايضا " ملوك " القرارة .
واذا أخذنا تفاوت الاجيال في الاعتبار بين القصص الواردة في الاصحاح 20 والاصحاح 26 من سفر التكوين , فانه يصعب أن يكون " أبيمالك " في القصتين هو الشخص نفسه .
والملاحظة الثانية تتعلق ب " جرار " ( أو القرارة ) , و " الفلسطينيين " .
فالى الشمال من القرارة , في حوض وادي بيشة , مازالت هناك قرية تدعى الفلسه ( يقابلها بالعبرية فلشه ) , ولو اطلق هذا الأسم العبري على سكانها لسموا / فلشتيم / ( جمع النسبة بالعبرية الى / فلشه / , أي الفلسه ) .
وكان يمكن بسهولة للفلسه هذه ان تكون جزءا من الأرض التابعة للقرارة في زمن معين او آخر , وهو ما يفسر لماذا وصف " أبيمالك " , حيثما ذكر في سفر التكوين , بأنه ملك " جرار " , وكذلك ملك ال / فلشتيم / , أي أهل / فلشه / أو " الفلسطينيين " .
وهكذا اصبحت القضية واضحة الان , فليست هناك أي " جرار " قرب غزة في فلسطين . وبين الكثيرات الموجودات في عسير , فان واحدة ( القرارة , قرب خميس مشيط ) هي جرار المذكورة في سفر التكوين 20 و 26 وفي أخبار الأيام الثاني 14 , وأخرى ( أي من غرار والجرار وغرار والقرارة , بين جبل بني مالك وسراة بلّحمر ) هي تلك المذكورة في سفر التكوين 10 .
واخيرا لا بد من ملاحظة أن تعريف " جرار " الأولى يسير جنبا الى جنب مع تعريف / " كوش " , و " فلشة " , و " بئر سبع " , و " عسق " , و" سطنه " , و " رحوبوت " , و" قادش " , و " شور " , و " مريشة " , " صفته " , و " النقب " / , في الجوار العام نفسه , بين ناحية خميس مشيط والمناطق الواقعة عبر الشق المائي الى الغرب .
وتعريف " جرار " الثانية يسير جنبا الى جنب مع تعريف / " سدوم " , و " عمورة " , " أدمة " , و " صبويم " , و " لاشع " / التوراتية في اتجاه , ومكانين آخرين اعتبرا حتى الان صيدون ( أي صيدا ) و " غزة " الشاميتين في اتجاه اخر , أضف الى ذلك تحديد الهويّة الجغرافية لأرض كنعان التوراتية على منحدرات عسير البحرية , بين منطقتي المجاردة وجيزان .
وعلماء الاثار لم يحفروا بعد هذه المناطق موضوع البحث أو أي جزء آخر من عسير بهذا الغرض , وربّما وجدوا في يوم من الايام مفاجآت كثيرة . وكما يقول جيرالد دي غوري , وهو من آخر الرحّالة البريطانيين الذين وصفوا شبه الجزيرة العربية :
" هناك وديان في عسير واليمن والحجاز خرائب قد تقدم ذات يوم لعلماء التاريخ وللعالم معرفة أكبر بالدول القديمة ... و ... بالممالك الأقدم لشبه الجزيرة العربية , وقد تفصح بوضوح عن معاني الكتب المبكرة للتوراة وعن معاني التلميحات التاريخية في القرآن .
ومن يدري أية كنوز تاريخية ترقد دفينة في خرائب عسير الدارسة " .