وفي حين أن "أردن" يشوع كانت عقبة جبلية في جنوب الحجاز, على امتداد الجرف الرئيسي لغرب شبه الجزيرة العربية, فان "أردن" لوط (التكوين 10:13_12) كان قمة جبل هروب, على بعد حوالي 450 كيلومترا إلى الجنوب _ الجنوب الشرقي, في منطقة جيزان, حيث ما زالت هناك قرية اسمها ريدان (قارن بالعبرية /ه_يردن/). ويبدو أن جبل هروب بكامله كان يسمّى /ه_يردن/
(أي "ريدان") في زمن التوراة. وانطلاقا من نقطة البداية في "النقب" /ه_نجب/, بين "بيت أيل" /بيت ءل/ و"عاي" /ه_عي/ (التكوين 2:13), افترق لوط عن عمه أبرام العبري وذهب ليقيم في منطقة وصفت بأنها /ككر ه_يردن/, التي جعلت عادة في الترجمات "دائرة الأردن" أو "وادي الأردن". ومع التسليم بأن /ككر/ تعني "دائرة". وهو ما يبدو صحيحا, فان /ككر ه_يردن/ يجب أن تكون إشارة إلى "محيط" جبل "ريدان" (أي جبل هروب) الذي ترويه مجاري وروافد وادي صبيا ووادي بيش.
وتعريف /ككر ه_يردن/ على أنها "محيط" جبل هروب الخصب, في منطقة جيزان, وليس "دائرة الأردن" في فلسطين, يتأكّد من مسار تحركات لوط كما وردت في سفر التكوين. والواضح من هذا المسار أن "النقب" التي أنطلق لوط منها ليصل إلى /ككر ه_يردن/ لم تكن إطلاقا صحراء النقب في جنوب فلسطين, بل كانت قرية النقب, التي ما زالت قائمة حتى اليوم على منحدرات رجال ألمع, غرب مدينة أبها والى الشمال مباشرة من منطقة جيزان. وهنا أيضا توجد, وحتى يومنا هذا قرية البتيلة /بتل/, التي هي "بيت أيل" التوراتية, والغّي /غي/ مع أداة التعريف العربية, قارن/ه_عي/, التي هي "عاي" التوراتية*.
.............*
الباحثون التوراتيون حددوا "بيت أيل" التوراتية, زيفا, بكونها قرية بيتين الفلسطينية على أساس التشابه السطحي بين الاسمين, ولا شيء غير ذلك. وهم يقولون إن "عاي" قد تكون قرية التل الحالية, قرب بيتين.
.................................................. .
وللوصول إلى /ككر ه_يردن/, أي "محيط" جبل هروب, كان على لوط أن يذهب أولا إلى جبل هروب, ثم أن ينزل من هناك إلى الوديان. وفي سفر التكوين 18:13 قيل عمليا إن لوط ارتحل "من قدم" (/م_قدم/ بالعبرية) ليصل إلى مبتغاه.
و/قدم/ هي اليوم مورد, أي مكان للسقاية, يسمى الغمد قرب ريدان, في جبل هروب. ولم يكن لمترجمي التوراة أن يعرفوا أن /قدم/ كانت اسم مكان, وبالتالي كان لديهم عذر ليأخذوها حرفيا على أنها تعني "شرق". وعلى العموم, وبافتراض أن لوط انطلق من فلسطين, وأنه كان عليه بالتالي أن يتجه شرقا ليصل إلى /ككر ه_يردن/, التي أعتقد بأنها وادي الأردن, فان هؤلاء المترجمين أساؤوا عن قصد ترجمة /م_قدم/ العبرية لتعني "شرقا", أي "باتجاه الشرق", وهم على علم كامل بأنها لا يمكن أن تعني إلا "من الشرق", إذا كانت /قدم/ تعني "شرق". وليس بسبب قلّة الأمانة, بل أكثر من ذلك بسبب الجهل بالواقع, ترجم هؤلاء القصة قيد البحث بكاملها (التكوين 10:13_12) لتقرأ تقريبا كما يلي:
" فرفع لوط عينيه ورأى كل دائرة الأردن /ككر ه_يردن/ أن جميعها سقي /كله مسقى/, قبلما أخرب الرب سدوم وعمورة /ل_فني شحت يهوه ءت سدم و_ءت عمره/, كجنة الرب /ك_جن يهوه/, كأرض مصر حين تجيء إلى صوغر /ك_ءرص مصريم ب_ءكه صعر/. فاختار لوط لنفسه كل دائرة الأردن وارتحل لوط شرقا /م_قدم/... ولوط سكن في مدن الدائرة /عري ه-ككر/ ونقل خيامه إلى سدوم /و_يءهل عد سدم/.
وبغض النظر عن انتقائية أخذ /ككر ه_يردن/ على أنها "دائرة الأردن", أي وادي الأردن, وعن الترجمة المقصودة الخطأ ل /م_قدم/ على أنها "شرقا" وليس "من الشرق" (وهي تعني عمليا "من الغمد"), فان مترجمي هذه الفقرة فهموا /يهوه/ العبرية, التي وردت مرتين في الفقرة كصيغة مضارع لفعل /هيه/ أي "كان", على أنها اسم اله إسرائيل /يهوه/ والمترجم عادة "الرب".
وكذلك, فقد أخذ هؤلاء المترجمون /شحت/ العبرية على أنها فعل ماض يعني "أخرب" أو "خرّب", في حين أنها ترد عمليا في النص كاسم مكان.
ولوضع ترجمة الأصل العبري, الذي له مغزاه التام كما هو, في نصاب البنية الجغرافية المتصورة في فلسطين, لجأ المترجمون إلى التلاعب بالنصّ الأصلي, فنزعوا الجملة /ل_فني شحت يهوه ءت سدم و_ءت عمره/من موقعها الصحيح, الذي يأتي في الأصل مباشرة بعد /كله مسقه/ أو "جميعها سقي", ليضعوها بعد /ك_ءرص مصريم ب_ءكه صعر/, وهذا ليس موقعها في الأصل العبري.
.................................................. ....
تعقيب: هذا تزوير خطير للغاية في النص العبري الأصلي, والذي لا يمكن لغير عالم باللغات القديمة أن يكشفه, ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب ومؤلفه. انتهى التعقيب.
.................................................. ....
وأكثر من ذلك, فقد اعتبروا أن من المسلم به كون /ءرص مصريم/ تعني "أرض مصر".
وفي الجملة الأخيرة افترضوا كلهم, وبلا استثناء, أن /عري ه_ككر/ تعني "مدن الدائرة" أي مدن وادي الأردن, في حين أن الأصل العبري يشير إلى "كهوف" مكان معين (بالعربية غار, أي "كهف") أو وديانه" (بالعربية غور, أي "المكان العميق" أو "الوادي"). والمرجح أن /عري/ في إطار النصّ تعني "الكهوف", نظرا لأن لوط وصف بكونه قد عاش في كهف, أو "مغارة" وهو في هذه الحالة /معره/*, في سفر التكوين 30:19 .
ونورد في ما يلي إعادة ترجمة للنص نفسه, محافظين على أسماء الأمكنة المذكورة بصيغتها العبرية الأصلية, من أجل تحديدها لاحقا:
"فرفع لوط عينيه ورأى أن كل /ككر ه_يردن/ مسقيّ باتجاه شحت /ل_فني شحت/, وهي بجانب /سدم/ و /عمره/ (/يهوه ءت سدم و_ءت عمره/). إنها كجنة /ك_جن يهوه/, كأرض /مصريم/ باتجاه /صعر/. ولهذا اختار لوط لنفسه كل /ككر ه_يردن/, وارتحل لوط من /قدم/ ... وسكن لوط في كهوف ال /ككر/, ونصب خيامه حتى /سدم/".
..............*
عمليا /عر/ و (ليس /عير/, أي "مدينة") هي مفرد /عري/ أو /عريم/ في النص, ويقابلها بالعربية "غار" أو "غور". و/معره/ (بالعربية "مغارة") مشتقة من الجذر نفسه, وهو "غور". يقال بالعربية "غار في الشيء" أي دخل فيه, و"غار الماء" أي ذهب في الأرض وسفل فيها.
.................................................
وهذه الترجمة الجديدة للنص العبري المكتوب بالأحرف الساكنة تقدم مجموعتين من أسماء الأمكنة, احدهما تشير إلى ثلاثة مواقع في "دائرة ريدان" /ككر ه_يردن/, أي محيط جبل هروب, وهي /شحت/ و /سدم/ و /عمره/, والثانية تشير إلى موقعين في أنحاء أخرى, هما /مصريم/ و /صعر/. ومواقع المجموعة الأولى تقارن ايجابيا مع /مصريم/ بأنها "جنة" في الخصوبة. والمواقع الخمسة كلها ما زالت توجد بأسمائها في عسير اليوم, وتقع الثلاثة الأولى في منطقة جيزان, حيث يتوقع الباحث أن يجدها, ويقع الموقعان الأخيران في جوار أبها الشديد الخصوبة, وهو الجزء من السراة الذي يحظى بمعظم الأمطار. ونورد في ما يلي تحديدا للمواقع الخمسة بأسمائها الحالية:
1_ /شحت/: هي اليوم الشخيت (/شخت/ بلا تصويت), في جبل بني مالك, جنوب شرق جبل هروب, وشرق وادي صبيا مباشرة.
2_ /سدم/, أو سدوم: ما زال الاسم موجودا, وقد طرأ عليه تبديل في مواقع الأحرف "دامس" /دمس/ بلا تصويت, ووادي دامس هو الرافد الأقصى غربا لوادي صبيا.
3_ /عمره/, أو عمورة: الغمر /غمر/, على منحدرات جبل هروب فوق وادي دمس.
4_ /مصريم/: من الأكيد أن الاسم هنا لا يشير إلى "مصر" وادي النيل, بل إلى ما هو حاليا قرية المصرمة(وتلفظ حاليا المصرامة) في جوار أبها.
5_ /صعر/ أو "صوغر": الصعراء /صعر/, أيضا في جوار أبها. وهناك أكثر من "صوغر" أخرى في أنحاء مختلفة من عسير.