لقد اولى العرب اللغة العربية اهتمامهم، فقدموا ملاحظات قيمة حولها، بحيث إن العودة إلى النصوص التراثية و تفحصها تظهر مجهوداتهم في مجال دراسة اللغة و تحليلها و لمّ شتاتها و استنباط أحكامها، و كيفية اكتسابها و تلقينها.
و على الرغم من اتسام كتبهم بالموسوعيّـة، فإنك تجد أراءهم اللسانية و التربوية متناثرة هنا و هناك بين طيات كتبهم ، و هذه الأراء يمكن اعتبارها متطورة بالنسبة إلى زمانهم و زماننا ،هذا ، إن قرأناها قراءة معاصرة موضوعية ، تتوخاها الدقـّة و الحذر، بهدف التأسيس لدراساتنا اللسانية التربوية ، و لن يتأتى هذا إلا بالاستفادة من التراث بعد غربلته ، و كذا تنقيح الحديث الوافد إلينا من الغرب ، و عدم الإقبال عليه بعيون مغمضة .
و نظرا إلى صعوبة فك شفرات نصوص بأهمية النصوص التراثبة، فإننا نكتفي بتسليط الضوء على كتاب " الإمتاع و المؤانسة " لأبي حيان التوحيدي ، و لأنه كتاب موسوعي فإننا لا نستطيع الإلمام به من كل الجوانب و معرفة صدى كل صوت فيه ، نكتفي بقراءته قراءة لسانية تربوية معاصرة ، نمد من خلالها جسور التواصل بين القديم و الحديث، ولعلنا بهذا نحسن إلى أبي حيان التوحيدي ، بعد أن أساء إليه الزمان ،و اخمد اسمه بعد مماته .

التعريف بالتوحيدي:
أبو حيان التوحيدي هو علي بن محمد العباس الملقب بالتوحيدي ولد حوالي 312 هـ بنيسابور أو شيراز ، توفي سنة 414 هـ بشيراز ، و قد أتيح له أن يتصل بأكبر علماء عصره مما أكسبه ثقافة موسوعية ، حيث درس النحو و الأدب على أبي سعيد السيرافي ،
و درس الفلسفة و المنطق على عالمين عظيمين هما يحيى بن عدي و أبو سليمان المنطقي السجستاني ، و تلقى التوحيدي الفقه على إمام الفقه القاضي أبي حامد المرورذي، وهو بذلك من أؤلئك الذين أخذوا من كل علم بطرف ، فكان أديبا و شاعرا و فيلسوفا ، فضلا عن كونه عالما و طبيعيا و صوفيا ، و قد ترك في كل ميدان من هذه الميادين آثارا كبيرة و جليلة منها : الإمتاع و المؤانسة ، الهوامل و الشوامل ، الصداقة و الصـّديق ، الإشارات الإلهية ، الأنفاس الروحانية ، بصائر القدماء و سرائر الحكماء ، رسالة الإمامة ، رسالة الحياة ، رسالة في علم الكتابة …
و على الرغم من علمه و أدبه و ذكائه فإن المقادير حكمت عليه بالشقاء ، و لعل أشد بواعث شقائه أنه نزّاع إلى تحقيق رغباته ، إلا أن القدر الساخر قد عمل على إزعاجه ، فنغص عليه ما يرغب و يشتهي ، و أعجزه عن تحقيق أمانيه ، و قد احترف مهنة الوراقة
و التي يدعوها بحرفة الشؤم، و هي مهنة شاقة في القرن الرابع الهجري، و كان العالم إذا لم يجد ما يقتات به اشتغل بنسخ الكتب و تجليدها، و قد سخط التوحيدي على هذه المهنة لضآلة موردها، و قلة جدواها، فضلا على ذلك فإنها تذهب العمر و البصر.
إذن التوحيدي مثال حي لوضع المثقف السيئ، و اضطراره في سبيل كسب قوته إلى إراقة ماء الوجه، و بيع الدين بالدنيا، على حد عبارته، و الدرب الذي يخرجه من هذا الوضع هو التقرب من الخاصة، فقد وصله صديقه أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى البوزجاني الرياضي الشهير بالوزير العارض و الذي أجلسه مجلسه، فسامره التوحيدي عدة ليال، و قد دون التوحيدي كل ما دار من أحاديث في كتاب "الإمتاع و المؤانسة".

التعريف بالكتاب:
يتضمن كتاب " الإمتاع و المؤانسة" مسامرات و أحاديث و ضروب من التفاوض و المثاقفة و المناظرة الأدبية و اللغوية و العلمية و الفنية و الفلسفية و الروحانية و الدينية و السياسية والاجتماعية ، سامر بها التوحيدي وزيرا من وزراء بني بويه ، هو الوزير بن العارض ، و أعاد التوحيدي إنتاجها كتابة بعد أن كانت مادة شفوية ، و أرسلها إلى صديقه وولي نعمته أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى البوزجاني .
يقسم التوحيدي فصول كتابه على نسق " ألف ليلة و ليلة "، بيد أن موضوعات الإمتاع والمؤانسة عقلية و واقعية، في حين ان موضوعات " ألف ليلة و ليلة " قصصية خيالية، و كل فصل من فصول " الإمتاع و المؤانسة "يحمل رقم ليلة ، و تتوالى الليالي حتى تبلغ الأربعين موزعة على ثلاثة أجزاء ، و قد درج ابن العارض في نهاية كل جلسة على طلب ملحة الوداع.و هي عادة ابيات من الشعر ، او حكمة مأثورة ، أو عظة خلقية.
إن ذكر كل ما دار في كل ليلة من حديث و حوار يجعل الكتاب نصا حيا، يحمل رسالة سواء أكانت لغوية أم أدبية أم دينية ، ام فلسفية أم سياسية … تتفاعل فيها الاصوات و تتعدد بدءا بصوت التوحيدي و الوزيرين العارض ، إلى أصوات الوزراء و العلماء و الفقهاء و الفلاسفة و العامة و الخدم و الجواري … حيث إن التوحيدي يجلسك في كل مرة مجلسا متميزا فيسامرك و يمتعك و يؤنسك كما سامر و أمتع و آنس الوزيربن العارض ، مستعملا أسلوبا شيقا لا يضجر منه فهو " جذاب ممتع يملك على القارئ مشاعره بسلاسته و عذوبه ألفاظه و موسيقاه ، و تمكن صاحبه من ناصية اللغة ، سجع غير متكلف و ازدواج يقتضيه المعني ، فإن خلا منهما فلا يخلو من جمال ، فتطول الجملة إلى أن تبلغ الصفحة ، فلا تحس بذلك لتآلف أجزائها و وضوح معالمها ".
بل يسلبك بلغته وحدة ذكائه و حضور بديهته و تشعب ثقافته ، و يعد هذا الكتاب مصدرا ثمينا لإبراز الحياة الفكرية و الاجتماعية في عصر بني بويه.

عنوان الكتاب :
يزاوج التوحيدي عنوان كتابه بين " الإمتاع و المؤانسة "و هذا يحيل على وجود قرينتين يتبادلان أطراف الحديث ، و بالحديث تتجدد الأفكار و المشاعر ، فتحدث الإفادة
و المتعة ، فنضفي المتعة شعورا حميميا مشتركا بين الطرفين ، و تحدث المشاطرة بالمؤانسة عندما تزول بينهما كل الحواجز ، و يظهر هذا في عبارة التوحيدي " يتوكد الأنس، و ترتفع الحشمة و تستحكم الثقة و يقع الاسترسال و التشاور".

الأفكار اللسانية و التربوية الواردة في الكتاب :
أثناء قراءتنا لكتاب " الإمتاع و المؤانسة" وجدناه كتابا موسوعيا ، يشمل محاورات في عدة علوم من لغة وفقه و فلسفة ، و منطق و روحانيات و إلهيات و سياسة و حيوان … فاستمتعنا بقراءته و استفدنا منه ، ووجدنا بين صفحاته بعض الأفكار اللسانية و التربوية كالدرر متناثرة هنا و هناك ، فحاولنا استنطاقها و ذلك بقراءتها قراءة معاصرة، و سنحصر هذه الأفكار في النقاط التالية :


1-المشافهة و الكتابة :
يقول التوحيدي " إذا كان الرجوع فيه إلى الكتب الموضوعة من أجله كافيا ، فليس ذلك مثل البحث عنه باللسان ، و أخذ الجواب عنه بالبيان ، و الكتاب موّات،و نصيب النّاظر فيه منظور و ليس كذلك المذاكرة ، و المناظرة و المواتاة ، فإن ما ينال من هذه أغص و أطرأ و أهنأ و أمرأ " ، نحن هنا بصدد العلاقة بين المنطوق و المكتوب فالتوحيدي يعبر عن المنطوق بالمذاكرة و المناظرة و يقابل الكتابة بالكتاب ، و هنا نتساءل : لماذا يعد الكلام الشفاهي " أغص و أطرأ و أهنأ و أمرأ " ؟.
لعل التوحدي أدرك أن الكلام الشفاهي يخضع لحيوية المتكلم و لقابلية المستمع و تفاعله ، هذا اثناء المذاكرة و المناظرة ، في حين أن المكتوب " موّات" يفتقد الحيوية، فهو اشبه بالقبور التي تضم بين دفتيها أمواتا يفتقدون طراوة الحياة ، فضلا عن ذلك فإن الكتاب يفترض قراءة أحادية الجانب ، فالقارئ عندما تستغرق عليه المعاني يلجأ إلى التأويل ، و قد ينحرف عن المعنى المراد ، على خلاف الحديث الذي تنساق معه النفس ، و بذلك تتسع دائرة الإرسالية و تزداد فرصة المتحدث في الإبداع ، كما تزداد فرصة المتحدث إليه في الفهم أكثر لأن المتحدث قريب منه يحدثه و يحادثه ، و يسهل على كل منهما الاستفسار عن الامور التي تستغلق عليهما ، و بذلك يحدث تبادل الادوار بين المتحدث و المتحدث إليه ، فتارة يصبح المتحدث متحدثا إليه ، و تارة أخرى يصبح المتحدث إليه متحدثا ، و تستمر قناة التواصل بينهما مادما يستعملان نفس الشفرة اللغوية و يراعيان المقام و مقتضى الحال .
و هذا دال على تأثر التوحيدي بالمنهج الأفلاطوني و الحوار السيقراطي أثناء العملية التعليمية ، بحيث يحدث التصحيح الارتجاعي FEEd-back بين العلم و المتعلم نتيجة تبادل الادوار ، كأن يسأل المعلم و يجيب المتعلم أو يسأل المتعلم و يجيب المعلم عن تساؤلاته ، و يمثل التصحيح الارتجاعي قاعدة أساسية عند علماء التربية في مختلف المواد التعليمية ، للتحقق من مدى فهم المتعلم و استييعابه لما يقدم له ، و كسر جميع الحواجز بين المعلم و المتعلم ، و جعل المتعلم لا يخاف المواجهة ، و يعبر عن موافقة وبذلك تنمى لديه الروح النقدية .
إذن توجد في الحديث رابطة مشتركة تجمع كل من المتحدث و المتحدث إليه بطريقة تفاعلية ، فيشاركان معا في بناء المعنى و الفكر ، على عكس الكتابة .
كما سبق ذكره فإن التوحيدي يعبر عن المشافهة بـ " المناظرة و المذاكرة والمواتاة"، و المناظرة تنبهنا إلى المواجهة و المقابلة بين طرفين ، و يكونها اختبار إمكانات المتحدث المعرفية و الوجدانية و اللغوية ، و هي تقابل حديثا الامتحان ، في حين تنبهنا المذاكرة إلى دور الذاكرة و الحفظ من خلال عملية استرجاع الخبرات أثناء المناظرة او استظهار المعلومات اثناء العملية التعليمية ، إذ أنه يتوجب على المناظر أو المتعلم ألا يحفظ حفظا ببغاويا دون فهم، بل عليه أن يتخير ما يحفظ ، و ان يعرف متى يستثمره و كيف يوظفه و هذا حسب المقام والحاجة .
و قد أولى علماء التربية و علماء النفس الحفظ اهتمامهم و عدوه عاملا من أهم عوامل الذكاء و التعلم خاصة في المراحل الأولى ، و قد صنفه بلوم Bloom ضمن مستويات المجال المعرفي للأهداف التربوية ، فاعتبره أبسط سلوك في هذا المجال ، و تعد عملية التذكر أي عملية تذكر المعلومات و المعارف السابقة فرصة ينطلق منها المتعلم لتطوير معلوماته السابقة و لاكتساب معارف جديدة .
و تنبهنا " المواتاة" إلى نوع من الحضور ، حضور المتحدث أو المتعلم أمام البصر أي أنه هناك ارتباط وثيق بين الصوت و الرؤية و السمع ، و المواتاة كما جاء في لسان العرب"المطاوعة" و هي أن يطاوع السامع المتكلم و يسايره في الحديث لأنه حاضر معه ويسمع صوته ، يراه ، يرى حركات شفتيه و ملامح وجهه و إشارات يديه.
و بالنسبة للتوحيدي من زاوية الإنجاز فإن " الكتاب يتصفح أكثر من تصفح الخطاب لأن الكاتب مختار و المخاطب مضطر " فاللغة المكتوبة تسمح لصاحبها بحرية الاختيار أثناء الكتابة ، في حين ان فرصة الاختيار في اللغة الشفوية تتقلص ، ففي الكتابة يمكن للكاتب أن يختيار لفظة على حساب لفظة أخرى ، و تفضيل معنى على معنى آخر ، أو التراجع عن جملة أو فكرة… على عكس التواصل الشفوي الذي لا يمكن للمخاطب فيه أن يتوقف برهة ليفكر فيها او ليختار كلمة أو معنى …لأنه محدد بزمن و مقتضى حال … عليه احترامهما لإعطاء المستمع فرصة ليتواصل معه و يتحول إلى متكلم ، و هذا قصد الحفاظ على استمرارية العملية التواصلية ، بيد أن الكاتب لا يتقيد بمقتضى الحال لأن المتلقي منفصل عنه، وله متسع من الوقت لترتيب افكاره و اختيار الدوال المناسبة.
و يفرق التوحيدي بن المنطوق و المكتوب من خلال التقويم " و من يرد عليه كتابك فليس يعلم أسرعت فيه أن أبطأت و إنما ينظر أصبت أم أخطأت و أحسنت أم أسأت ".
أي أنه أثناء إنجازك للفعل الكلامي الكتابي فإن المتلقي لا يعلم إن أسرعت أم أبطأت فيه ، و هذا على خلاف الفعل الكلامي الشفوي الذي يجب أن يحترم فيه الزمن و مقتضى الحال ، و لن يتحقق هذا إذا كان المخاطب بطئ الفهم أو به عيوب صوتية أو سمعية ، فتكون سيرورة التواصل بينه و بين المتلقي بطيئة.
و تختص الخطابات المكتوبة بوحدتي التقويم " الخطأ" و " الصواب" من حيث احترامها للكتابة و منطقها الذي تفرضه على منتجها ، و تقيدها برموز متفق عليها و احترامها لأصول اللغة و نظامها .

2- الخوض في الشيء بالقلم مخالف لإفاضة اللسان :
يفرق التوحيدي بين الإفضاء بالقلم و بين الإفضاء باللسان " فالقلم أطول عنانا من اللسان و إفضاء اللسان أحرج من إفضاء القلم ، و الغرض كله الإفادة " ، فالكاتب مختار يبني نصه لبنة لبنة و يعاود النظر فيما يكتب ، و يغير فيه و يبدل بحسب ما يعن له و تهديه إليه قريحته ، و في لحظة الكتابة يكون منفصلا عن متلقيه ، أي أنه غير مواجه له ، و هو بذلك يفضي بذاته براحة و اطمئنان دون حرج كبير ، كما أنه بمنجاة عن زلل الانفعال ، أما المفضي باللسان فإنه مضطر إلى الحديث على البديهة و الارتجال بحسب ما يسوقه إليه الحديث و مقتضيات الحال، علاوة على ذلك فإنه مجبر على الاستجابة الفورية ، و مواجهة المفضي إليه و مشاهدته ، لذلك كانت حاله احرج من حال الكاتب ، فتبدو عليه علامات الحرج من تغير ملامح الوجه و تلونه أو تصبب العرق ، أو تحريك الرأس و اليدين … و هذه لمن أكبر المرهقات التي لا يعرفها الكاتب ، و في النهاية فإن الإفضاء باللسان و الإفضاء بالقلم هو تحقيق الفائدة .
و تعطى تعليمية اللغات من الجانب المنطوق من اللغة الأولوية ، و ذلك بالتركيز على الخطاب الشفوي ، لأن الظاهرة اللغوية في حقيقتها أصوات منطوقة قبل أن تكون حروفا مكتوبة ، فالخط تابع للفظ و ملحق به ، إذن فالتعليمة تحاول إكساب المتعلم مهارة التعبير الشفوي لأنه هو الطاغي عما سواه في الممارسة الفعلية للحدث اللغوي ، لأن الحديث عبارة عن رموز لغوية منطوقة تنقل أفكارنا و مشاعرنا و اتجاهاتنا إلى الآخرين. و قد أثبتت الدراسات أن المتلقي للحديث يفهمه بسرعة أكثر مما يفهم الكتابة فهو يصله مباشرة في اللحظة نفسها ، التي يتم إنتاجه فيها ، على عكس الكتابة التي تتوجه إلى متلق مؤجل .
و تأتي مهارة الكتابة بعد مهارة الاستماع و الحديث و السؤال و القراءة ، و هي فرع من فروع اللغة و وسيلة للتبليغ و لحفظ اللغة و المواثيق و نقل التراث الحضاري ، زيادة على هذا، فإنها وسيلة أساسية للتعلم ، فالمتعلم لا يستطيع النجاح في مساره الدراسي إذ لم يتمكن من ترجمة أفكاره إلى رموز أو تحويل المنطوق و المسموع إلى مكتوب .
3- وظيفة اللغة :
الفهم و الإفهام وظيفتان أساسيتان عند التوحيدي ، و هذا لتحقيق التواصل ، و هذه الوظيفة مرتبطة بالمخاطب و المستمع على حد سواء ، و تعد معرفة اللغة ضرورة أساسية للإفهام ، اد يقول" كذلك الشأن بالنسبة لمعرفة النحو ، فإن الكلام يتغير المراد فيه بإختلاف الإعراب ، كما يتغير الحكم فيه باختلاف الأسماء ، و كما يتغير المفهوم باختلاف الأفعال ، كما ينقلب المعنى باختلاف الحروف" و كان لزاما على المتواصل أن يستعمل الشفرة اللغوية التي يستعملها المستمع ، و بالنسبة للتوحيدي يكون الإفهام على مراتب ثلاث : فالمرتبة الأولى تكون ب " أن يفهم المرء عن نفسه ما يقول "
أي هي المرحلة التي يدرك فيها المرء المعنى و يعقله ، فيعبر عنه باللغة ، أما المرتبة الثانية هي " أن يروم المرء أن يفهم غيره " ، و هذه المرتبة يمكن أن نسميها بمرتبة التواصل ، و فيها ينتقل المتكلم من ترتيب المعاني و إفهام نفسه إلى النشاط الفيزيولوجي، وهو إصدار أصوات تحمل رسالة يتلقاها المستمع ، و لا يمكن أن يفهم الإنسان غيره إلا إذا كانوا يستعملون نفس الشفرة اللغوية Le Cod ،أما المرتبة الثالثة هي " فرش المعنى وتبسيط المراد ، فيتجلى اللفظ فيها بالروادف الموضحة ، و الأشباه المقربة و الاستعارات الممتعة " و هذه المرحلة يطلق عليها أبو حيان التوحيدي و غيره إسم البلاغة ، أي أنه على الرسالة أن تتضمن نوعا من الجمال و الإمتاع و هذا ما يعرف بالوظيفة الشعرية Fonction Poetrque عند رومان جاكسون R. Jakolson و يقصد جاكسون بالشعرية الاستعمال المميز للغة فهي تسقط مبدأ التماثل لمحور الإختيار على محور التأليف .
4- العجز الغوي :
يشير التوحيدي إلى الحالات التي يتعذر فيها التواصل بين متخاطبين و هي :
1- قد يكون السامع " ذا طبع قاصر" كأن يكون بطيء الفهم أو يعاني عيوبا سمعية وبذلك يكون التواصل بطيئا .
2- ففي بعض الحالات تجول بذهن الإنسان أفكار لكنه يجد صعوبة في تحويلها إلى صورة صوتية ، لأن المدلول أكبر حجما لدرجة أن الدال لا يمكنه احتواؤه " مركب اللفظ لا يجوز مبسوط العقل ، و المعاني معقولة ، و لها القبال شديد و بساطة تامة ، و ليس في قوة اللفظ في أي لغة كانت أن يملك ذات المبسوط و يحيط به ، و ينصب عليه سورا "1، و من بين الموضوعات التي يعجز فيها الإنسان عن التعبير وصف الخالق " فالله الذي لا سبيل للعقل أن يدركه ، أو يحيط به أو يجده وجدانا أولى و أخرى أن يمسك عنه عجزا واستخداء ، تضاؤلا واستعفاء ، إلا بما وقع للإذن به من جهة صاحب الدين ... فعلى هذا قد وضح أن الصمت في هذا المكان أعود على صاحبه من النطق ، لأن الصمت عن المجهول أنفع من الجهل بالمعلوم".
5- الكلام :
الكلام عند التوحيدي هو الأداء الفردي للغة ، كما هو الحال عند دوسوسير
F .de Saussure ، و يتضح ذلك من خلال العبارات التالية :
- " أما السلامي فهو حلو الكلام "
- " له فنون في الكلام "
- " و قد فرع العباس بهذا الكلام باب العيب ".

6- اللغة :
اللغة بوصفها أداء خاصا بأمة أو جماعة معينة و يتجلى ذلك في العبارات التالية :
- " كلغة أصحابنا العجم و الروم و الفرس و الهند و الترك ".
- " كما أن اللغات تكون فارسية و عربية و تركية ".
7- الكلام على الكلام :
يقول التوحيدي " إن الكلام على الكلام صعب " ، و هو ما يقابل في اللسانيات الحديثة الوظيفة الانعكاسية أو ما وراء اللغة métalangage أي التناول العلمي للكلام فندرس الكلام بالكلام ، و تمثل اللغة الواصفة و الشارحة للغة ، أي تكون اللغة نفسها مادة الدراسة و المرجع الذي تدل عليه .
8- اختلاف اللغات :
يؤمن التوحيدي باختلاف المعاني باختلاف اللغات ، أي أن اللغات لا تتطابق إذ أن لغة الهند غير لغة الروم ... إلا أنهم مع هذه الأصول و القواعد تقاسموا أشياء بين الفطرة و بين التنبيه و بين الاختيار و التقدمة " ، و اللغات عنده قد تتقاطع و تتشابه في بعض البنى ، و يعبر عن ذلك بقوله " إن الأمم اشتركت في جميع الخيرات و الشرورو في جميع المعاني و الأمور اشتراكا أتى على أقل التفاوت و وسطه و آخره ، ثم استبدت كل أمة بقوالب ليست لأختها و اشتراكهم فيها كالأصول و استبدادهم كالفروع "، فالبنى المشتركة بين اللغات تعرف بالكليات اللغوية Les universaux linguistiques و تقوم فكرة الاختلاف بين اللغات على أن الامم تنطلق من موروثاتها الحضارية و الثقافية و هي بذلك منطلق إنتاجها للمعاني من ناحية و استيعابها من ناحية اخرى .
و الجدير بالذكر أنه منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي ظهرت بوادر حركة قوية في ميدان تعليم اللغات الأجنبية كان من روادها لادوفريز R.Lado.Freize و تؤكد هذه الحركة على ضرورة إجراء الدراسات التقابلية linguistique contrastive بين لغتين بهدف :
1- التنبؤ بالمشكلات التي تواجه متعلم لغة أجنبية و ذلك بعد حصر أوجه التشابه
و الاختلاف بين اللغة الأم و اللغة الأجنبية ، و تكون العناصر المتماثلة بين اللغتين يسيرة التعلم ، أما العناصر المختلفة فيعسر على المتعلم تعلمها .
2- يمكن التنبؤ بالمشكلات من خلال الفحص البنائي للغتين ، من تفسيرها و البحث عن الحلول لتذليلها ، أي الاحتياط لها مسبقا .
3- يمكننا التقابل اللغوي ، من معرفة ما يجب تقديمه و كذا تطوير المواد الدراسية لمواجهة هذه المشكلات .
9- الملكة اللغوية :
تقوم الملكة اللغوية عند أبي حيان التوحيدي على " غرائز أهل اللغة " ، حيث أن الإنسان يولد و هو مزود بقواعد وقوانين اللغة ، و هو أثناء ممارسته للحدث الكلامي غير واع بقوانين اللغة و إنما يهديه إلى ذلك الطبع .
بالإضافة إلى الغريزة فإن الملكة اللسانية تقوم كذلك على فكرة " المنشأ و الوراثة" ، و يتجسد المنشأ في البيئة التي تربى فيها الإنسان بما في ذلك من أسرته و أفراد مجتمعه ، فكل هؤلاء يوفرون له حمـّاما لسانيا طبيعياbain linguistiqueو هدا مايعرف بالانغماس اللغوي عند ابن خلدون ، و بعد أن يكتسب الإنسان اللغة من منشئه فإنه يصبح يستعملها بتلقائية و يتحكم فيها ، و بذلك تصبح ملكا عينيا خاصا به أي أنه يرثها .
و إن تعلم الإنسان للغة و معرفته لأسرارها و نواميسها و قواعدها يخرجه من " الفطرة إلى الفطنة " . إذ أنه يفتقد وضع التعامل التلقائي الفطري للغة ، بل يصبح على وعي بقواعدها و قوانينها و يصبح يتعامل معها تعاملا واعيا .
10- اللفظ و المعنى :
تقوم اللغة على عمودين هما اللفظ و المعنى، و يقر التوحيدي بأن الظاهرة اللسانية هي عملية ذهنية ف " الدماغ هو مركز النشاط اللغوي"، و يرى أن المعاني سابقة للألفاظ لأن " اللغة مبدؤها العقل و ممرها اللفظ و قرارها الخط" ، و بعد ان تتوضح الفكرة في ذهن صاحبها فإنه يترجمها إلى صورة صوتية منطوقة و مسموعة.
و من بين أهم الفروق بين اللفظ و المعنى التي وردت في كتاب الإمتاع و المؤانسة هي أن المعاني لا نهاية لها فيما الألفاظ محدودة ، و لهذا فمهما كثرت الألفاظ فإنها عاجزة عن الإحاطة بجميع المعاني ، و قد عبر عن ذلك على لسان السيرافي بقوله " إن مركب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل ، و المعاني معقولة لها اتصال شديد و بساطة تامة، و ليس في قوة اللفظ من أي لغة كان ان يملك ذلك المبسوط يحيط به و ينصب عليه سورا ، و لا يدع شيئا من داخله أن يخرج ، و لا شيئا من خارجه أن يدخل" 2.كما أن المعاني إنسانية لأنها نتاج التجربة الإنسانية في كل مكان و زمان ، فيما الألفاظ تابعة لمجموعات بشرية دات لغات معينة , أي ان الالفاظ حبيسة لغاتها و لا يمكنها أن تتعداها، "و المعاني لا تكون يونانية و لا هندية ، كما أن اللغات تكون فارسية و عربية و تركية ... لأن اللغة عرفتها بالمنشأ و الوراثة ، و المعاني قد نقرب عنها بالنظر و الرأي و الاعتقاب و الاجتهاد ".
مهما كثرت المعاني و تعددت فإنها واحدة في جميع اللغات و ذلك على عكس الالفاظ فإنها متعددة ، بدليل أن الإنسان يشير إلى المعنى الواحد بعدة ألفاظ ، أما إذا غير الإنسان المعنى الواحد وجد نفسه قد خرج إلى معنى آخر و بذلك فإن اللفظ نظير اللفظ في أغلب الأمر".
كانت هذه بعض الأفكار اللسانية التي وردت في كتاب " الإمتاع و المؤانسة" و التي حاولنا استنطاقها و بعثها من جديد ، محاولة منا نفض الغبار عن تراثنا و مد جسور التواصل بيننا و بينه ، و نرجو أن يكون عملنا البسيط هذا لبنة تضاف إلى لبنات أخرى في سبيل بناء صرح موسوعة لسانية تربوية تراثية .