1 - ( انفلات الروح ) إيهاب رضوان

فى الغربة يصبح المرض جحيما ، يشتد فتشف الروح ويصفو الذهن .. هذه المرة كانت نوبة البرد الأسيوية قاسية ، والشفافية فى أوجها حتى صارت الروح غيمة شتوية رقراقة ، تحلق بى بين خيالات بعيدة ، تدمع لها العين وتنز منها كل جراح القلب القديمة .. الدموع لا تنهمر لتغسل الروح وينتهى الأمر ، إنما تنحبس ليطول الألم وتتشابك خيوط الذكريات أكثر ، محاوِلةً أن تكبل الروح المحلقة ، لكنها تنفلت ..
فى المساء أصبح عاجزا عن الحركة ، فأضطر للاتصال بأحد الزملاء ليحضر لى بعض الأقراص .. أجاهد لأفتح له الباب وما إن أرتمى على السرير مرة أخرى حتى أشير إلى جيب البنطلون ليأخذ نقود الدواء .. يأخذها ببساطة قاتلة قبل أن يسأل عما بى ويجلس ..
– ما تجيب يا أخى حاجة نشربها .
هو الذى قالها ، فلم أكن قادرا على الكلام .. أشرت إلى الثلاجة فأخذ منها علبة العصير وناولنى مشكورا زجاجة المياه والأقراص ..
الروح الآن تشف أكثر وأكثر ، تصعد حتى تتجاوز عنان السماء .. ماذا لو أموت الآن ؟ .. نعم فى هذه اللحظة بالذات.. سوف يقلبنى مرتين يمينا ويسارا ثم يتصل بالشرطة بهدوئه المثير ، أثق أنه لن يستخدم تليفونه المحمول وإنما ستكون أنامله قادرة على أن تتحرك على أزرار تليفونى برقة مفزعة وهو يحوقل ويترحم علىّ ..
بعدها سيتصلون بخالى الذى أنعم علىّ بعقد العمل ، سيأتى سريعا وينتشر الخبر بين الأقارب هنا ، سيتعاون الجميع لوصول الجثمان سالما إلى مصر بأقصى سرعة ..
فى المطار سيكون أخى الأكبر دامعا .. سيكتمون الخبر عن أمى وزوجتى والأولاد حتى يصل الجثمان إلى البيت.. عندئذ يبدأ الكابوس الحقيقى ..
أفقت على صوت زميلى وهو يمسك الريموت قائلا :
- فين قنوات اللحمة الحمرا ؟
أخذ يتنقل بين الكليبات العارية وهو يهز ركبته اليمنى مع الصراخ المتصاعد .. هذه الميتة البائسة لا تليق بى .. أحد أصدقاء العمر فجرته قنبلة وحبيبتى الأولى ماتت مقتولة فى إيطاليا بعد هربها من زوجها إلى هناك .. أخذت أفكر فى أحلى طريقة للموت .. ستمهلنى الأيام حتى آخر العام .. أستقل الطائرة حالما باللحظة التى سيرتمى فيها طفلاى وزوجتى بأحضانى المستعدة لالتقامهم .. فجأة تنفجر الطائرة .. لا تكن سوداويا .. سيرتمون بأحضانى بالفعل وسيفلت ( عمر ) من أمه كالمعتاد ومن رجال أمن المطار ليكون أول الواصلين إلىّ داخل صالة الوصول ..
فى السيارة العائدة بنا سأضع رأسى المكدود على كتف زوجتى وتلفنى بذراعيها غير عابئة بالسائق ، سوف أسلم الروح عندئذ بهدوء .. نعم .. ذلك الشريان الضيق بالقلب الذى أهمله منذ سنوات والضغط المرتفع ، يؤهلاننى بجدارة لذلك .. ستظن هى أننى نائم ولن تكتشف الأمر إلا حين نصل إلى المنزل .. ياه .. أوحشونى كثيرا .. أوحشونى مووووت .. مرة أخرى موت ؟! .. أيها الأحمق لن تمنحك الدنيا البخيلة هذه الميتة الرومانتيكية أبدا ..
بدأت دموعى تنهمر ، فشددت الغطاء على رأسى متخفيا عن عينيه اللتين تحدقان فى الشاشة الجهنمية بشراهة .. من سيتولى تسديد ديونى من بعدى ؟ .. ديونى هناك لإخوتى ، سيتنازلون عنها ، لكن ديونى هنا لابد من ترتيب أمرها .. سأترك لخالى تفاصيلها لتصل الحقوق لأصحابها من الورثة ..
ماذا لو أموت فى المدرسة ؟ .. نعم .. أفضل وقت أثناء طابور الصباح والفناء ممتلئ .. لتكن اللحظة التى تسبق تحية العلم مباشرة .. السكون يسربل المكان والعيون تتطلع إلى سارية العلم التى سأقترب منها ويطاوعنى شريانى اللعين لينفجر وأنا أحتضن السارية ، ساقطا ليلفنى العلم.. ليس علم بلدى ، أعرف ، نحن أمة عربية واحدة كما تقول إذاعاتنا على أية حال .. ستحملنى سيارة الإسعاف سريعا ويكملون يومهم الدراسى بكل رتابته ولا جدواه ..
أنا متعب هكذا حتى فى الموت .. فلتدهسنى إذن سيارة يابانية فارهة .. ليكن قائدها أحد تلاميذى فى الصف مثلا ، دون العشرين من عمره ، يطير بها مخمورا كعادته .. ربما يلحظ بعد فوات الأوان أننى أستاذه فيحاول كبحها ، لكنها لن تأبه لأمثالى من الوافدين الأجانب كما يقولون .. غلبنى النوم وأفقت فلم أجد من زميلى سوى صوت التليفزيون المرتفع الذى لم يهتم بإغلاقه ..
فى الصباح بينما أرتدى ملابسى بصعوبة بالغة وأشنق رقبتى برباط العنق الذى يفرضونه علينا فى المدرسة ؛ أكون قد عرفت الميتة البشعة التى تدخرها الأيام لى .. ستتركنى لأحيا هنا – وحيدا – مزيدا من السنوات .. المدهش أننى فى هذه اللحظة بالذات ، مع تحطم الجسد وتصاعد اليأس إلى الحلق والروح ؛ وجدتها – روحى – تشف وتشف ولا تزال قادرة على التحليق بعيدا .. وجدتنى أتلمس يد زوجتى لنطيرعاليا ، عاليا جدا .. كعادتنا صرنا غيمتين شتويتين مترعتين بالدمع ، راحتا تمطران .. تمطران بغزارة حتى أوسعتا العالم كله مطرا .
- تمت -
----------------------------------------------------------------------------------------------
2 - ( التوت المحروق ) إيهاب رضوان

والله لم أقصد يا أمى.. أنا أحبك.. والله العظيم أحبك رغم كل ما كان.. صدقينى إننى حتى نسيت.. ورحمة جدى الذى كنت تحبينه نسيت كل شئ.. بالذات المرة الأولى حين قمت أشرب فسمعت ذلك الصوت من حجرتك المغلقة.. آهات عجيبة جعلتنى أشب على أصابعى لأدس عينى المزروعتين بالرمد فى "خرم" الباب..من ذلك البغل الذى كان يأكلك؟ كيف تركته يعب لحمك الكثير ..الكثير هكذا.. الذى كنت تمنعيننى من رؤيته عاريا كأننى لست ولدا مفعوصا كما تقولين دائما.. تذكرت العلقة التى أخذتها منك لما أخرجتنى أنا وبهية من تحت سريرك وقلت لى:
ـ يخيبك.. بتعمل إيه انت وهى؟
حلفت لك أننا فقط نختبئ من باقى العيال.. لكنك لم تصدقينى.. من أسبوعين قلت إننى أصبحت رجلا وطردتنى من حضنك لأنام على الكنبة وسط كل العفاريت الذين تعرفين أننى أموت منهم.. وأنهم يبللون جلبابى الوحيد لتضربينى أنت كل صباح.. تذكرت كلامك وكلام الشيخ "عبد العزيز" عن النار التى سيرمينا الله فيها لو خالفنا ثلاثة: الله والشيخ "عبد العزيز" وأمهاتنا.. جعلنى كل هذا أعرف أن ذلك الرجل كان يفعل بك ما يفعله غصبا عنك.. دفعت الباب وهجمت عليه.. لكنه كان بغلا فعلا.. فلم يمكننى إلا أن أعض يده الكافرة التى تنبش صدرك.. بعد أن زعقت فيه:
ـ سيب أمى يا راجل انت .
ياه.. كانت عضة يا أمى.. ليس أقوى منها إلا القلم الذى أعطاه لى.. فطرت.. طرتُ مثل الكرة الشراب حين يشوطها الولد "سيد" الذى أكرهه.. لابد أنك كنت تخافين منه كثيرا.. لأنك لممت صدرك كأنك تخفينه عنى أنا وأخرجتنى بقسوة زاعقة فىّ:
ـ إنجر نام يا مقصوف الرقبة .
ونمت.. نمت كالكلب أمام بابك المغلق بعد أن بكيت وارتعشت مثل نور لمبة الجاز فوق سريرك.. لكنك فى الصباح كنت طيبة معى.. لم تضربينى وأنا أقف أمامك عاريا لتغسلى جلبابى المبلول.. لم تشتمينى وتدعى علىّ لما تأخرت فى الذهاب مع العيال للشيخ "عبد العزيز" فى الجامع.. هل تعرفين.. لو كنت ضربتنى ساعتها لم أكن سأبكى أبدا.. هل خفتِ منى يا أمى؟ ..
فى الليالى التالية لم ألعب مع العيال فى الجرن.. كنت أقعد على الكنبة بعد أذان العشاء بكثير.. أراقبك وأنت تسرحين شعرك الجميل الطويل الذى أحبه.. حين كان الرجل يدخل كنت أطاوع نفسى وأفكر فى منظرك وشعرك هذا ملفوف على رقبتك وأنا أشده بقوة.. سامحينى يا أمى.. إننى لم أكرهك والله.. كرهت فقط ذلك البغل الذى وضع يده على رأسى مرة فأحسست أنه سيخنقنى ولما حاول أن يعطينى ريالا كاملا رفضت.. هل كان يعطيكِ ريالات أنت أيضا لينام فى حضنك بدلا منى؟ .. فكرت أن الريالات هى السبب فقلت لك فى الصباح إننى سأعمل من اليوم لأحضر لك ريالات كثيرة بشرط أن تأخذينى فى حضنك كل ليلة.. مصمصت شفتيك ونظرت لى باستهتار قائلة:
ـ عيال آخر زمن!
هل أبى هو السبب؟ جريت إلى داره الجديدة العالية.. زوجته سدت الباب وهى تكذب وتقول إنه ليس هنا.. ناديت عليه وأنا أفلت من يديها.. لكنها أمسكتنى وضربتنى.. لم أبكِ إلا حين شتمتكِ وقالت:
ـ أمك "....."
هل كانت تعرف من ينام فى حضنك كل ليلة؟ ..هل كان أبى يعرف ولهذا طلقك؟ كثيرون يضربوننى فى هذه الدنيا يا أمى.. زوجة أبى تضربنى لأنها تكرهنى وأبى نفسه يضربنى وهو لا يرانى إلا صدفة.. الشيخ "عبد العزيز" يسلخ لى رجلىَّ لأننى أتأخر عليه بالفلوس.. الولد "سيد" ينام فوقى على الأرض ويكتم نفسى أمام العيال لأن "بهية" لا تلعب "عريس وعروسة" إلا معى.. أنت أيضا تضربيننى وتركت ذلك الرجل يضربنى أول مرة.. خرج أبى زاعقا فحاولت أن أغطس فى حضنه الذى لم يفتحه لى.. انخرس لسانى فأخذت أبكى وأشد فيه ليجئ معى.. لكنه ترك زوجته ترمينى على عتبة الدار.. صحيح أن فمى امتلأ بالدم والطين.. لكنى فكرت ساعتها كيف سأقطع إذن رِجل ذلك البغل من دارنا.. جاءت "بهية" تسألنى لماذا لم أعد ألعب معهم فى الجرن.. فجريت معها وقلت للعيال إننا سنلعب أمام دارنا كل ليلة.. قالوا كيف نترك الجرن الواسع وأكوام التبن والقش والترعة التى نستحم ونسابق السمك فيها.. فوعدتهم أن أسرق لهم كل السكر الذى فى دارنا.. سرقته من ورائك وأنت تستحمين فى انتظار رجلك الذى تأكدت أنه لن يجئ هذه الليلة لأننا سنلعب أمام الدار طول الليل.. تركتهم يغلبوننى كل المرات.. ولكن لما لعبنا "عريس وعروسة" لم أترك "بهية" للولد "سيد".. كله إلا "بهية" يا أمى.. هل تعرفين أنها جميلة مثلك ولها عينان واسعتان أختبئ فيهما ونحن نلعب "استغماية".. وأنها رفضت أن تأخذ منى نصيبها فى السكر لأنه حرام!! .. الشيخ "عبد العزيز" أذن للعشاء بسرعة لينام.. فقال العيال كفاية لعب.. أرادوا أن يذهبوا كلهم فقلت إننى فى الصباح سأعطى كل من يبقى ليلعب معى حفنة توت مثل العسل من التوتة العجوزة التى عينها الله على ترعتنا قبل تعيين جد العمدة الكبير.. لم يصدقونى.. والولد "سيد" الله يلعنه قال:
ـ لو كنت راجل صحيح هات لنا التوت الليلة ...
نسيت أننا بالليل وجريت أسرع من طيارة الرش.. التوتة لم تكن طيبة معى.. قطعت يدىّ ورجلىّ الحافيتين.. وجذعها طال .. طال حتى خرم السماء.. والعفاريت بللت جلبابى كثيرا حتى أنه لن ينشف لو نشرته فى نِنِّ عين الشمس.. لكنها لم تسخطنى قردا كما تقولين.. جمعت توتا يكفى العيال المفاجيع لأسبوع.. ولما نزلت لممت كل التوت الواقع على الأرض.. هذا التوت كان غاليا جدا.. سيأكله الملاعين صحيح.. لكنه من أجل عيونك أنت.. التوت يا أمى جعلنى لم أعد مفعوصا.. فلما ألصقت كتفى بالتوتة وجدتنى أنظر لها من فوق..
قابلتنى "بهية" وقالت إن العيال أولاد الكلب ضحكوا علىّ وغاروا من زمان.. حلفت لها أننى سأكبس بطونهم طينا بدلا من التوت الذى لففته فى صرة كبيرة قبل أن أجرى للدار.. بابك المغلق خلعته برجلى مثل "طرزان" الذى يحلف الولد "سيد" أنه قريبه.. ارتعشت كالفرخة المذبوحة وأنا أجدكما تأكلان بعضا مثل.. مثل الكلاب المسعورة يا أمى.. سامحينى.. لا أعرف هل وجدتنى بينكما على السرير.. أم أننى رميت صرة التوت فى وجه رجلك.. المهم أننى رأيت التوت يفرش السرير كله ولمبة الجاز تسقط فوقه لترش الحجرة بالنار.. هل عرفت أن رجلك جرى مع أول صرخة لك.. وأننى لم أعد مفعوصا تبلل العفاريت جلبابه.. وأننى واللهِ.. واللهِ العظيم لم أقصد ذلك.. هل عرفت كل هذا يا أمى قبل أن تبلعك النار مع التوت المحروق؟.
- تمت -
-----------------------------------------------------------------------------------------------------

3 - ( العزف على أوتار مقطوعة ) إيهاب رضوان

المذهل أنك حين عدت فجراً لأخذ حقيبتك وجدتها أعدت لك طعام إفطارك رغم فعلتك منذ ساعات .. تندفع إلى باب حجرتها وتكاد تدخل لتنحنى على يدها فى صمت وتبكي لكن يدك اليمنى تتجمد على مقبض الباب فتدرك أنها لم تعد جزءا منك .. تتمنى لو ينفرج الباب قليلا لتلقى فقط نظرة خجلى عليها وعلى إخوتك المتناثرين حولها بلا غطاء ..
فى طريقك إلى محطة القطار تعجز أن تركل كل حصاة تقابلك ولا تتجاهل الرصيف لتمشى فى منتصف الطريق الخالى ، رافعاً صوتك بأغنية مليئة بالشجن لأم كلثوم .. تسرع بإغلاق نافذة الدرجة الثالثة تفادياً لطلقات البرد المتوالية .. تحاول أن تفعل ما تفعله كل مرة ، فتكثف أنفاسك الثلجية على الزجاج وترسم بسبابتك نفس العينين الواسعتين الخائنتين وتكتب حولهما أسماء قصصك التى لم تكتمل بعد .. هذه المرة قطرات الكلمات كلها تهرب من أماكنها وتندمج أسفل العينين المرسومتين ، فى نقطة كبيرة تسقط كدمعة ثلجية ملتهبة فوق ركبتك حيث تلتقى بأخريات تنهمر من عينيك ... تمسح الزجاج بسرعة وتحدق فى أصابعك التى تبدو لك الآن طويلة .. طويلة ..
لماذا تركتها صامتاً تسترسل فى اتهاماتها لك بالتخاذل وتنعى حظ إخوتك اليتامى مكسورى الجناح كما قالت .. صمتك ظنته لا مبالاة ونظراتك الميتة من الأسى تخيلتها استسلاما ، فأخذت تشتمك وتهزك بعنف طالبة منك أن تنطق .. عذاباتك كلها تجمعت فى يدك وهى ترتفع إلى وجهها دون وعى لم يرتد إليك إلا حين تعلقت أصابعك الآثمة فى الهواء ، بعد أن حفرت تلك الخطوط الدامية البشعة على وجهها المتغضن بصورة لم تلحظها سوى الآن .. شهقتها المفزوعة انتزعت قلبك وعصرت روحك بضراوة .. وعيناها المتلاشى نورهما شيئاً فشيئاً فوق ماكينة الخياطة المتهالكة ، لم تبخلا بضخ دموعهما بصمت قاتل .. تمنيت أن ترد على فعلتك بأية طريقة .. تصفعك آلاف الصفعات أو يتصل حبل شتائمها الطويل ويلتف حول عنقك ليزهق روحك .. لكنها صمتت .. أنت أيضا لم تستطع أن تنبس بحرف .. لم تحكِ لها ولا لأحد عن عذاباتك المستمرة .. نسيت حتى أن تخرج لها جيوبك الخاوية قبل أن تصفق الباب وراءك ..
على رصيف محطة الوصول تنتبه إلى أنك ، لأول مرة لم تعد المحطات العشرين التى يقف بها القطار خشية أن تزداد واحدة .. حين يسألك شيطانك متشفياً سؤاله الخبيث المعتاد: " لماذا تخدع نفسك وتتوهم أنك سعيد ؟ " ، تعجز أن تشد أذنيه هذه المرة وأن تقول بصوت يسمعه الجميع: (طظ) .. تعترف بفشلك فى عزف لحن السعادة على أوتار أيامك ..
فى الظلام الدامس على سلم الاستراحة المتآكل ، تلعن الوزارة التى لم يتبقَ من كيانها سوى اسم يثير السخرية ، والتى قذفت بك إلى هذا المنفى بعد تخرجك .. تلقى السلام على زملائك الخمسة فى نفس الحجرة ، ثم تنكمش أطراف جسدك تلقائياً لتستلقى بملابسك على سريرك السجن فى انتظار نوم تعلم أنه لن يجئ .. تنقضى الليلة بعد كابوس مقيت يجعلك تتصبب عرقاً رغم لذعات البرد .. ترى رجلاً مجهول الملامح يخطو نحوك خطوات بطيئة وبيده سكين طويلة .. بسهولة يقيد حركتك ويأخذ فى قطع ذراعك اليمنى .. العجيب أنك لا تقاومه .. فقط تتألم بصمت وتستعذب الألم لتفيق بإحساس أن مخدراً ما يسرى بذراعك ..
تفقد استمتاعك بعملك الذى تحبه رغم دورانك المستمر فى ساقية الضغوط .. فى الفصل تهتز يدك على السبورة وتفلت منك أعصابك عده مرات ، وتنفى البنت الجالسة أمامك فى الصف الأول إلى آخر الفصل لمجرد أنها تمتلك عينين واسعتين تديران الشريط الطويل لخيانات من كانت حبيبتك وخيانات بعض مَن ادعوا أنهم أصدقاؤك .. تتشاجر مع زملائك ونفسك لأتفه الأسباب والرجل ذو الملامح المجهولة يظل يقطع ذراعك كل ليلة .. المأساة أن ملامحه تنكشف أمامك فجأة ، فتجده – مصعوقاً – أباك الراحل .. يزداد المخدر المنتشر فى عروقك حتى توقن أنك ستفقد ذراعك قريباً .. الخميس وزملاؤك يستعدون للسفر ، تكابر فتخبرهم أنك لن تغادر المعتقل هذا الأسبوع .. ليلتها تقاوم النوم خوفاً من براثن نفس الكابوس لكنه يهزمك .. تستقل أول قطار فى الصباح لتكون هناك .. من آثار السهر المحتلة ملامحها تعلم أنها لم تنم ليلة أمس قلقاً عليك .. تختبئ بأحضانها ، تنهنه وتغمر يدها بلثماتك فى تبتل .. تلقف كلمة "يا بني" من بين غمغماتها الباكية فتدرك أنها غفرت لك وأنه سيكون باستطاعتك غدا فى الفجر أن تركل كل حصاة تقابلك وتتجاهل الرصيف لتمشى فى منتصف الطريق الخالى ، رافعا صوتك بأغنية مليئة بالشجن لأم كلثوم.
- تمت -
-----------------------------------------------------------------------------