القصة الأولى:

آخر خطبة للرئيس المخلوع


خلوة الرئيس:
بلا تصفيق أو هتافات حارة أمسك قلم الحبر وشرع في الكتابة:(السادة الأكارم، أعلم أني وُلّيت عليكم ولست بخيركم، وحمُلتُ أمانتكم وقد ترونني غير كفءٍ لحملها، ولكن أشهد الله أنني حاولت أن أكرس جهدي وخبرتي في رفع مستوى المعيشة، وإقامة المشروعات العملاقة التي توفر فرص عمل متنوعة للطبقة الكادحة.

فتحتُ الباب لرؤوس الأموال الوطنية والأجنبية ليساهموا في دفع عجلة التنمية الاقتصادية باستثمارات جادة نهضت بكثير من القطاعات الإنتاجية. إنني لا أعدّد إنجازاتي من قبيل مدح الذات، بل هي الحقيقة التي سيسطرها التاريخ للأجيال القادمة.

كان عهدي عهدًا انتصرنا فيه معًا على شبح الأمية، ونشرنا التعليم المجاني لجميع فئات الشعب، وحاولنا جاهدين خفض نسبة البطالة بين الشباب؛ ولأنه عصر العولمة فتحنا النوافذ على العالم؛ شجّعنا النابهين من الأوائل ومنحناهم منح السفر للتعليم في أرقى جامعات أوربا، بينما خصصنا للمتفوقين الجوائز التشجيعية التي تقوي فيهم العزم وتشد الأزر وتقدم للمجتمع روّادًا في كل المجالات.

لم يكن لي مطمح غير الارتقاء بهذا الوطن الحبيب، تعلمون أنني مزارع من إحدى القرى الجنوبية، عرفت معنى الكدّ والفقر مثلما ذقت حلاوة السلطة والرفعة بانتقالي رئيسًا لكم خادمًا لآمال الوطن.

تمنيتُ أن أكون والدًا بارًّا بكم جميعًا، لا أقول إن كل أحلامي قُيّد لها التحقّق؛ فالظروف أحيانًا تقف عائقًا سلبيًّا، لكن أشدَ ما يعكر صفو نفسي اتهامكم لي بالخيانة وقذفكم شخصيتي بالوصولية، تعالوا وابحثوا خلفي، فتشوا في حساباتي واقرأوا خطاباتي، مذكراتي، قراراتي، فلن تجدوا غير هذا القائد الذي حاول النهوض بكم إلى عهد من الرخاء والرفاهية، بجعل هذا البلد الكريم في مصاف الأوائل.

وإذا كان عزلي من منصبي مطلبًا شعبيًّا وافق عليه الشعب، فأنا ديمقراطي صميم سأرضخ لرأي الأغلبية وأحترم قرار المجموع؛ ضمتنًا للصالح العام. ولكن لا تنصبوا المشانق لي في عيونكم قبل أن تحاكموني وتعلموا الوقائع. إن مجرد اتهامكم لي بالخيانة فشل ذريع مُنِيَ به حكمي فُصمت العلاقة كليًّا بيني وبينكم. كم أتمنى أن تجدوا في ضمائركم صوتًا واحدًا ينصفني حتى أنام مرتاح البال.

دمتم في رعاية الله وأمنه، وحفظ الله بلدنا العظيم من شرور الطامحين، ودسائس الخائنين).
مهر الحديث بتوقيعه الشخصي، وختمه بخاتمه الموثق، ثم أحكم قبضته على مسدسه وضغط على الزناد.

الجندي المناوب:
كنتُ الجندي المكلف بالحراسة إذ وصل إلى سمعي طلق ناريّ، هرولت جزعًا على إثر صرخة مدوّية صادرة من مكتب السيد الرئيس، هُرعت إلى الغرفة، رأيت الرئيس منكفئًا على مكتبه والدماء تنزف على الأوراق، اقتربت متوجسًا، واستطعت أن اعدّل من وضعية الجسد على الكرسي، وقدمت آخر تحية عسكرية، بعدها حاولت قراءة الورقة المطوية التي أفلتها من يده.

كانت الأمانة تقتضي أن أسلم الورقة إلى مسئول موثوق به، تحدثت إلى ضابط رفيع المستوى، فعجّل بإقامة مؤتمر صحفي كبير.
كان الحشد كبيرًا، فمندوبو الإذاعات والمحطات الفضائية المحلية والعالمية علي أهبة الاستعداد، وعدد من كبار الصحفيين والمصورين والكتاب والوزراء والقادة يملأون القاعة، وعيونهم متطلعة في دهشة إلي المنصة.

بدأ صوت المقرئ يجلجل بآي الذكر الحكيم، ثم ظهر نائب الرئيس في سترته السوداء قائلاً: "أيها السادة والسيدات، إنه في صبيحة يوم الأربعاء الموافق الثالث عشر من تموز من هذا العام عُثر على جثمان السيد الرئيس في مكتبه بالقصر الجمهوري على إثر عيار ناري من مسدسه الخاص، نسأل للفقيد العظيم الرحمة والغفران، ولأسرته الكريمة السلوى والعزاء، وإنا لله وإنّا إليه راجعون ".
بُهت الجمع الغفير وانخرطوا في عويل شديد، حاول المتحدث مواصلة الحديث: "وقد عثر على الخطاب التالي: أيها السادة الأكارم..." ولم يستطع إكمال قراءة خطاب الرئيس، فتنحى عن المنصة، وطوي الخطاب علي وعدٍ، بقراءته على الشعب في وقت لاحق.
نكّست رأسي محاولا تذكر الخطاب بينما انفض الجمع وخلت القاعة من الحشود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
21/6/2009
نهى رجب محمد
ريشة المطر


---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
القصة الثانية:

سـلحفاة


انتبهتُ من نومي على سعلة قوية؛ عرفتُ أن أبي يتأهّب للخروج، عدَّلتُ من وضع الصَّدَفة على ظَهري، دفعتُ الباب، كان الدهليز مظلمًا. لمحتُ إيماءة أمي، قبّلني أبي في عُجالة.

نظرتُ من الشُّرفة، صويحباتي ينتظرنني، حاولت الإسراع قدر جهدي، انضمتُ إليهن. إنه موسم وضع البيض.

وصلنا إلى الشاطئ الرملي، انهمكنا في صناعة الحُفر، صنعت حُفرة عميقة، ساويتها ورتّبت فيها البيض باحتراس. كانت الشمس ساخنة، والرمال تلسع، لكنّ وصول ماء البحر إلى أصابعي يخفّف من حدّة الحرارة.

تركتُ المعوَل جانبًا واخترت أن أهيل الرمال بيديَّ هذه المرة؛ لأتأكّد بنفسي من تغطية البيض، كم مرة جئتُ إلى الشاطئ وصنعت العمل نفسه؟ لا أذكر عدد المرات على وجه التحديد، لكنني أتذكر فقط مشهد السلاحف الخضراء الصغيرة عندما يفقس البيض وتحبو إلى الماء. أحب ابتسامتها، لا أعرف أولادي من أولاد صويحباتي.

أشعر أن قدمي تزداد سماكة والصَّدَفة أثقل من المعتاد؛ لا أقوى على رفعها وحدي لأخلد إلى النوم. نصحتني والدتي ألا أخرج هذا الموسم وأن أبقى في السرير للراحة. ترى هل سأقوى على الخروج مرة أخرى؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العين في20/4/2003م
نهى رجب محمد
ريشة المطر



---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
القصة الثالثة:

الخـادمـة


ماذا ينقصني لتصبح هي سيّدة الدار وأتحوّل أنا إلى تنظيف الأرضيّات؟ أراقبها طيلة الوقت: تستيقظ في العاشرة، تغيب في الحمام وقتًا طويلًا، لا أعرف ماذا تفعل، لكنني أشمّ رائحة العطر الفاخر، أتسمّع رغوة الصابون الكثيفة، ثم يأتي دوري لأقوم بمهامّ النظافة.

تجلس على الأريكة، أحضِّر لها الفطور، أناولها كأس العصير كأنها تنتظر مني أن أطعمها في فمها، ثم تطلب مني أن أذهب لغسل الأواني.
وجهها ناصع البياض، كلامها معي قليل لكنها لا تمنع عني شيئًا، اشترت لي ثوبًا في العيد الماضي وأعطتني زجاجة عطر.

لا أعرف لماذا أنشغل بمتابعتها؟ لا أقصد التلصّص عليها. كل يوم ترتدي ثوبًا مغايرًا، لا يمرّ أسبوع إلاَّ رافقتها إلى صالون التجميل، تعود عروسًا، شعرها الأسود الهفهاف في قصّته الجديدة يجعلها أشبه بالأميرات، وتخطو على السجّادة الوثيرة بدلال فألمح نقش الحنّاء على كعب رجلها الناعم. تمنّيت لو سألتُها مرة واحدة هل جرّبتْ يومًا أن تغسل طبقًا متّسخًا؟ أو هل اضطرت أحيانًا إلى تنظيف الحمام؟!

أنا لا أحقد عليها، أتقاضي راتبًا محترمًا من هذا المنزل الفخم، أحظى بمنزلة مميزة بين أفراده: تستأمنني سيدة الدار على ابنتها الرضيعة ولكنها تصرّ كثيرًا على إطعامها بنفسها، تترك لي مهامّ التنظيف والنزهة.

لست ضجرة بكل هذه المسئوليات؛ فهو عملي الذي أتقاضى عليه الأجر، وفي آخر النهار أنزوي في غرفتي الصغيرة لأنام. ميعاد نومي واستيقاظي محدّد، وطعامي فوق طاولة المطبخ، لا أطمح أن أشارك الأسرة الطعام، الحقّ أنهم يعاملونني بلطف.

ثلاثة أطفال في المدرسة، نظيفون لكنهم مشاغبون، أتعب في إرضائهم وأملُّ من دلالهم الزائد (ماذا أفعل حتى تبقى الدار هادئة وينهي سيدي كتابته على الحاسوب، غرفة المكتب قريبة وصوت الأطفال عالٍ؟).

الحلول المقترحة من سيدتي كثيرة: اذهبي إلى غرفة الألعاب (نُمضِّي ساعات طوال في الرسم وبناء البيوت الصغيرة بالمكعبات)، في بعض الأحيان تسمح لي سيدتي باصطحابهم إلى الشارع الجانبي الهادئ للعب فوق مربع الخضرة في الميدان الفسيح.

الحياة على هذا النحو مُرهقة، فكّرت في أن أترك المنزل لكنني لا أجد مبررًا للمغادرة، أحتاج هذا الراتب وزوجي لا يمانع في هذا العمل، ماذا أصنع؟ سيدتي تنادي عليَّ!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

10/ 2/ 2006م
نهى رجب محمد
ريشة المطر