الكثير من المتتبعين لما حدث في المحرقة الصهيونية الثالثة في غزة حجبت عنهم صور الدماء والدمار ودخاخين الفسفور الأبيض حقائق مهمة فجعلتهم سكارى. وبعد وقف العدوان ذهبت السكرة وعادت الفكرة، فكرة تقضي ربط الماضي بالحاضر لاستقراء المستقبل. ومؤدى هذا الطرح هو سؤال عام لماذا باشرت الآلة الصهيونية جريمتها في هذا الظرف بالذات؟

للوهلة الأولى ومع استحضار بعض تصريحات الجناة والضالعين الذين تولوا كبر الجرم ندرك المحاور الكبرى التي كانت بمثابة المستندات الرئيسية لما أقدمت عليه "مصرائيل". فالجريمة دبرت بليل في "مخدع" مبارك أثناء خلوته بشمطاء بني إسرائيل تسيبي ليفنى التي تلت على عاملها على المقهورة إملاءات الموقف القتالي ولقنته مهامه بالحرف والنقطة والفاصلة لتعلن عن بداية الإبادة بعد أقل من 48 ساعة من عودتها لتل أبيب.

فإسرائيل كانت تريد عملا عسكريا شاملا تهدف منه إلى إبادة أكبر عدد من أرواح المليون ونصف المليون غزاوي وتدمير البنية التحتية لقطاع غزة واجتثاث حركة حماس كتنظيم مقاوم. وبالتالي تحقيق تحطيم الحلقة الأضعف – كما يبدو لها – في سلسلة المقاومة والمانعة في منطقة الشرق الأوسط. وهو ما عبر عنه النظام المصري وبوقاحة أكثر منها صراحة في تصريحات وزير خارجية "مصرائيل" أحمد أبو الغيط الذي أكد أن بلاده ترفض إمارة إسلامية على حدودها. وهذا في حد ذاته إقرار صريح بأن مصر أرادت وخططت ونفذت أو على الأقل أعانت وساهمت في الإبادة! ثم أليس من حق كل عربي، بل أليس من حق كل إنسان ذي فطرة سوية حتى ولو لم يكن على درجة وعي ولا على درجة حرية وشجاعة وشرف كالتي يمتلكها البطل الشريف هوغو شافيز، أليس من حقنا أن نسأل مبارك أو رئيس دبلوماسيته إذا كنت لا ترضى بأن تحدك إمارة إسلامية وتدعم في الوقت ذاته توسع إمبراطورية صهيونية؟ بالله عليك أيهما أخطر عليك وعلى نظامك وشعبك وسائر العرب بل وسائر الأمم؟ أيهما أخطر إمارة إسلامية على مساحة 150 ميلا مربعا بتعداد رجال لا يزيد عن 30 ألف رجل وبترسانة أقرب إلى متفجرات الأطفال منها إلى صواريخ القتال، أم إمبراطورية صهيونية توسعية ينام كل فرد فيها ويصحو على حلم إسرائيله الكبرى الممتدة من نيل مصر إلى فرات العراق وترسانة نووية هي الأكبر في المنطقة بأسرها؟

إن الصهاينة يحركهم تطلعهم إلى امتلاك الأرض دون ترك بشر عليها. وحتى يتأتى لهم ذلك هم مجبرون على الإيمان بأن صراعهم مع العرب صراع وجود وليس صراع حدود لا يقبل بحلول وسطية. هذا الصراع تلعب فيه الجغرافية وظيفة تحصيل الحاصل ويلعب فيه التاريخ مهمة المحرك. أما حقيقة الصراع فهي الديموغرافية. لأنه صراع بقاء أو صراع كينونة عنوانه "نكون أو لا نكون". وهو نقطة التقاطع أو التصادم. فالصراع العربي الصهيوني هو أخطر من صراع هينتنغتون (صراع الحضارات). ولما نفهمه على هذا النحو لابد أن أول ما نستنتجه هو بطلان حل الدولتين! فإسرائيل لا ولن ترضى بوجود إنسان عربي واحد على سطح أرض يحلمون بها من الفرات إلى النيل. فكيف نصدق أنهم سيرضون بدولة عربية على أرض فلسطين؟ و هذا المطلب أو الأمنية الصهيونية وإن كان تطلعا مستقبليا إلا أنه ظل حاضرا في كل حروب الصهاينة مع العرب وفي كل مفاوضاتهم وحتى في كل اتفاقاتهم وعلى رأسها كامب ديفيد و"أوسلو" و"مدريد"... ويكفي أن نذكر في هذا بأن استسلام السادات في كامب ديفيد على مذبح القضية الفلسطينية التي حاول النظام المصري أن يصوغ أنها انتصار دبلوماسي يكمل انتصار حرب أكتوبر الرمضانية. لم تكن في واقع الحال أكثر من مجرد إخراج مصر من خندق المعاداة التي خندق حماية شرف إسرائيل. بدليل أن سيناء تحولت من مستعمرة إسرائيلية إلى محمية لها بسلاح وعسكر مصر وتحول بمقتضاه العسكري المصري الباسل من مجاهد يذود عن شرف وعرض وأرض العرب إلى حام لمخابرات الصهاينة وقطعان سواحهم والزج بالكثير من أبناء أرض الكنانة كخدم لراحة ورفاهية هؤلاء القطعان. والاتفاقية واضحة في هذا النقطة تماما كعتمتها في نقاط عديدة أخرى. بحيث ألزم المصريون ألا يزيد تواجدهم العسكري عن 700 جندي مسلح ببنادق آلية من طرز كلاشينكوف الفردية. ما يكشف بجلاء أن مهمتهم حماية الصهاينة في سيناء وفي إسرائيل من شعب مصر لا حماية مصر أرضا وشعبا من إسرائيل!

بهذا التحليل يبلغ بنا الحديث إلى آخر حلقة في مسلسل الجرائم الصهيونية في حق العرب والتي لا ولن تكون الأخيرة، وهي إبادة سكان غزة – زهاء 1500 شهيد وأكثر من 5000 جريح و 40 ألف بيت مهدم وتدمير للبنى التحتية بالكامل – والتي جاءت متزامنة مع نهاية حكم الطاغية السفاح بوش ونهاية فترة سلطة عباس غير المأسوف عليهما. فكانت الهجمة الوحشية ذات بعدين أولهما فلسطيني محض يهدف إلى فسح المجال أمام عباس باجتثاث غريمه وعدوه اللدود حماس من أجل إعادة إنتاج عباس وسلطته في طبعة جديدة بحيث تعيد تل أبيب بسط سلطتها على قطاع غزة من خلال "تسليط" عباس عليها بعد اجتثاث حكومة حماس. تماما كما صنعت أمريكا بنظامي البعث في العراق وطالبان في أفغانستان. أما البعد الثاني فكان يتوجه صوب واشنطن التي كانت تستعد لزف أول رجل أسود للبيت الأبيض. فالرجل وأن لم يكن الكثير من الناس يشكون قيد أنملة في أنه سيحيد شبرا واحد عما ترسمه له حكومة الظل الأمريكية. وخير دليل على ذلك ما أجابت به جدته من كينيا على سؤال صحفي وجه لها. ماذا تنتظرين من حفيدك أن يقدمه للأفارقة؟ فكان جوابها أبلغ من قول كل حكيم، لقد قالت بالحرف الواحد: إن باراك حفيدي وانتخبه الأمريكان لرئاسة أمريكا فاسألوني ماذا سيقدم للأمريكان!

غير أن إسرائيل كانت تريد جس نبض الوافد الجديد للبيت الأبيض وقطع الشك باليقين وإدماجه مبكرا في صراعها مع العرب لحمله على ترجمة وعوده بدعم الكيان الصهيوني الذي قطعه على نفسه أيام حملته الانتخابية. وهو ما حدث فعلا بأن كرر هذا الوعد ولكنه وعد رئيس أكبر دولة هذه المرة لا مجرد وعد مترشح. كما أنه وإن كان أثلج بعض الصدور في أول قراراته من البيت الأبيض بغلق سجن غوانتانامو وبقية المسالخ البشرية التي أقامتها المخابرات الأمريكية في أوروبا الشرقية، إلا أن موقفه من حماس التي طالبها بالاعتراف بإسرائيل وطالب المجتمع الدولي بالعمل على منع تسليحها. يثبت أن بوش الأبيض غادر البيت الأبيض ليحل محله "بوش أسود". وباستخلافه لهيلاري كلينتون مكان الشمطاء السوداء كوندوليزا رايس يمكن القول أيضا أن كوندوليزا السوداء ولت وكوندوليزا البيضاء حلت. أما ثالثة الأثافي فهي كبير موظفي البيت الأبيض الذي ارتأى حاكم أمريكا أو من يحكمونه أن يكون عسكريا صهيونيا إسرائيليا متطرفا!

وعندما يتحالف على حماس كل من المجتمع الدولي ودول الاعتلال العربي وأمريكا والأوروبيون. فلاشك أن المطلوب من رجل يهودي صهيوني يرأس دولة بحجم وثقل فرنسا أن يكون أكثر من البقية. وهو ما كان بالفعل لأن "ساركو" لم يكتف بالقول بل جسده بالفعل حينما أرسل فرقاطة لمراقبة ساحل غزة ومنع أي تهريب سلاح للمقاومة.

والجدير بالتوقف عنده هو أن أمريكا وإسرائيل باشرتا مراقبة ساحل غزة وانضمت إليهما فرنسا من دون استشارة مصر ولا إخطارها وهذا يثبت أن علاقة الصهيوصليبية بعرب الاعتلال ليست علاقة تحالفية كما يصوغ عاهل سعود ومبارك ورئيس بلدية الضفة، بل هي علاقة خدمية لا تتجاوز علاقة السيد بعبده المطيع. وهو تفسير واضح لذلك الإفراز القبيح لمقتضيات هذه العلاقة حيث ظهرت في أقبح صورها عندما رفض رأسا الاعتلال عاهل الرياض وحاكم المقهورة الحضور لقمة التضامن مع غزة بالدوحة عندما دعا إليها أمير قطر الذي عرف كيف يعاقبهما عقابا نفسيا عندما أجلس في مكانهما الرئيس الإيراني أحمدي نجاد. كما عاقب عباس بأن كشف ثمنه السياسي وحجم صلاحيته وكشف علنا أن صاحب سلطة الضفة لا يمتلك سلطة تخول له الخروج من مكتبه في رام الله .