لم يكن فى دعوة الأستاذ [ الأسوار ] شبهة غرض شخصى . تحمّل الاشتغال والتعذيب ، وأسلم نفسه إلى الموت دفاعاً عن هؤلاء الذين أحبهم أكثر من نفسه . أما الحسين ، فقد خذله الشيعة الذين استغاثوا به ، وتركوه للمصير المؤلم تحت سنابك خيل الأمويين ، وانطلقت الرصاصة التى قتلت جيفارا من مسدس ضابط بوليفى صغير ، بذل المناضل الأرجنتينى حياته دفاعاً عن حقه فى الحياة . وكان نزلاء المعتقل ـ حلمى عزت بالذات ، ذلك الذى حماه الأستاذ من أذى الآخرين ـ هم الذين دبروا القرعة الظالمة ، ليدفعوا بالأستاذ إلى الشهادة دفاعاً عن الجميع . أسر بكر رضوان [ الأسوار ] إلى نفسه ـ غداة إحدى مرات الإفراج عنه ـ " هؤلاء الناس ـ أبناء الأنفوشى ـ هم محبوبه الذى ضيّع العمر إشفاقاً عليه . فهل كان الحب من طرف واحد ؟ هل تعنى المحبوب اللحظة ، مقطوعة الصلة بما مضى ، وما سيأتى ؟ وهل تعذب القلب لقلوب تجد الراحة فى العذاب ؟.. هذه الكلمات ـ وبكر رضوان يرى أهله وناسه منصرفين عن واقعهم الأليم ، كأنما لم يدفع أعواماً من حياته فى سبيلهم ـ تذكرنا بكلمات الحسين بن على فى حشد الجيش الأموى ، يوم العاشر من المحرم : " تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً . حين استصرختمونا والهين ، فأصرخناكم مرجفين . سللتم علينا سيفاً فى إيمانكم ، وحششتم علينا ناراً أوقدناها على عدونا وعدوكم ، فأصبحتم ألباً على أوليائكم ، وبدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفنوه فيكم ، ولا أمل اصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش نعمتم فيه " . وكان ما أسره بكر رضوان ، أو ما أعلنه الحسين ، هو الهاجس الذى لابد أنهم خاطبوا به أنفسهم ، أو أعلنوه للجماعة ، هؤلاء الذين بذلوا النفس دفاعاً عما هو حق وصدق وعدالة [ فى زماننا الردئ ، فإن شخصية بكر رضوان تذكرنى بقادة اليسار المصرى الذين أمضوا أجمل سنى حياتهم فى معتقلات عبد الناصر . هتفوا بحياته ، وبشعارات المرحلة ، وهم يلقون أبشع ممارسات التعذيب ، حتى الموت . ظلوا يهتفون لعبد الناصر والثورة والاشتراكية ، وسط الضربات المتلاحقة التى لم تهدأ إلا بعد أن هدأت أنفاسهم ، وماتوا . جاوزوا آلامهم الشخصية ، وجعلوا الوطن قضية ، لا يعدلون بها قضية أخرى . كان عبد الناصر على صواب فيما يدعو إليه ، ويطبقه بالفعل ، فتناسوا العذاب الذى لاقوه بأيدى أعوانه ، وأعلنوا ولاءهم للبسطاء ، وللثورة ، وللغد الذى يعلو فوق العذابات الشخصية !. لو أنهم نظروا إلى المصالح العامة من منظور مصالحهم الشخصية ، مثلما فعل الرأسماليون والإقطاعيون الذين أضيروا بقوانين الثورة ، فلعلهم كانوا الآن هم الأعلى صوتاً ضد عبد الناصر ومعطيات عهده ] . لكن البذل لم يهدر ، والصيحة المخلصة لم تواجه التلاشى فى وادى الصمت . كان الشعور بالإثم هو الدافع لأن يقتل يهوذا نفسه بعد أن أسلم المسيح إلى قاتليه . وهو الدافع أيضاً لأن يزداد أتباع المسيح تمسكاً بتعاليمه . وكان الشعور ذاته هو الذى جعل جيفارا قدوة ومثلاً بين حركات التحرر فى دول العالم الثالث ، وارتسمت حول المناضل الشهيد هالة القداسة والأسطورة . وكان أيضاً هو الشعور الذى ارتقى بالحسينية إلى مرتبة العقيدة . ففى مقدمة النتائج الإيجابية لفاجعة كربلاء ، ولعلها أخطر نتائجها ، أنها دخلت الضمير الإسلامى آنذاك ، وهزته هزاً عنيفاً . حركت فى النفوس ما كان خامداً ، وما ران عليها من استكانة إلى الواقع الذى فرضه الأمويون . تمازج الإعجاب بالوقفة الأسطورية لسبعين مقاتلاً ضد سبعين ألفاً ، بالحرص على الشهادة رغم يسر النجاة ، بإلقاء السؤال الأهم : ماذا بعد ؟ ، بحساب الذات عن التقاعس والتواكل ، بإعادة النظر إلى ما سبق ، وما يجرى حالاً ، والتفكير فى ضرورة التغيير . ولعله يمكن القول إن فاجعة كربلاء ـ رغم بشاعتها ـ كانت ثورة كاملة . أحدثت التأثير الذى تحدثه الثورات فى تحريك النفوس ، وإلحاجها على التغيير ، حتى يتحقق المجتمع الأفضل . تعددت ثورات التوابين ، همها تفريغ ما استشعره الحسينيون من الندم والحقد ، فى حركات ثورة متتالية ضد الحكم الأموى . ثم فيما تلا ذلك من السلطة المستبدة ، أيا تكن صورتها ومظاهرها . وربما كان ذلك هو الشعور نفسه الذى تحرك فى نفوس الزملاء القريبين ، بل كل نزلاء المعتقل ، بعد أن بذل الأستاذ نفسه فى سماحة ، دفاعاً عن حقهم فى الحرية ، وفى الحياة . لم تدفعه الخيانة الواضحة إلى رفض القرعة ، لكنه أسلم النفس إلى جلاديه فى قناعة المؤمن بأن شهادة الفرد قد تكون فداء للجماعة ، وخلاصاً لها . وكما يقول برتراند راسل فإننا حين نعرف النهاية نغدو أقوياء ..
أخيراً ، فإنى أتفق مع جون مورلى فى أن " الأفراد الذين يرون الضوء ـ وهم بطبيعة الحال الأفراد المثقفون ـ إذا أحجموا عن احتمال ما عليهم من تبعة ، فإنهم يضاعفون العلل الأخلاقية فى المجتمع . وهم لا يحرمون المجتمع من مزايا التغيير فحسب ، بل من يرون شعوره بالحاجة إلى التغيير ضعفاً ، وإيقاظ الإحساس الأخلاقى فى المجتمع من العوامل الهامة فى تقدمه [ المثقف الذى أعنيه ، هو الذى يملك استعداداً للتضحية بصالحه الشخصى من أجل صالح الجماعة ، لا يكتفى بترديد الشعارات عن الديمقراطية وإنكار الذات ، وإنما يحرص على تطبيق تلك الشعارات بالفعل ] . ولعل السبب المباشر فى انحطاط كثير من المجتمعات ، يرجع إلى ما يطرأ على الضمائر من الفساد وضعف الإحساس الأخلاقى . ولم يصب الضعف والتخلف الإغريق لنقص علمهم بالمذاهب الأخلاقية ، وإنما أصابهم من جراء تناقص عدد الذين يقدرون واجباتهم الأخلاقية ، وما عليهم من تبعات هامة . ويعلل انتصار المسلمين على المسيحيين فى الشرق وفى أسبانيا ، بأنه راجع إلى احترامهم للواجب ، وما كان يثيره فى نفوسهم من حماسة ".
ـ 3 ـ
فى بداية الستينيات ، كنت أنشد البحث عن موضع فى حياتنا الثقافية من خلال العمل بالصحافة . عملت ـ حيناً ـ فى " الجمهورية " مع سعد الدين وهبة فى صفحة عنوانها " صباح الخير " . ولأن الصفحة كانت تعنى بالمادة الترفيهية والاجتماعية : زواج وطلاق وأعياد ميلاد وحفلات تكريم وغيرها ، ولأنى كنت أعانى قلة المصادر ـ الأدق : انعدامها ـ فضلاً عن شحوب استعدادى .. فقد بدا لى الفشل حقيقة فى الأسبوع الأول ، وإن كابرت ، وتعمدت تجاهله ، حتى الشهر الثالث . والحق أن سعد الدين وهبة كان كريماً فى تعامله معى . لم يكن فيما أسهمت به شئ يتصل بلون الصفحة ، إنما هى خواطر فى الأدب والفن . حاولت أن أقفز على مبنى الجمهورية بالمظلة دون الصعود على الدرجات المتآكلة . مع ذلك ، فإن الرجل لم يرفض شيئاً مما قدمته له . وكان يقرؤه بعناية ، ثم يسلمه ـ فى رقة ـ إلى سلة المهملات . فلما انتهى الشهر الثالث دون أن تجد خواطرى سبيلها إلى النشر ، صارحت أحمد عباس صالح ـ وأدين له بفضل مساندة خطواتى الأولى ـ بيأسى ، فأشار على بمعاودة محاولة لقاء الدكتور على الراعى ، المشرف على الصفحة الثقافية فى " المساء " آنذاك . كان الراعى غائباً ، والتقيت بكمال الجويلى ، فعرض على أن أشارك فى الباب الذى كان يحرره ، وعنوانه " كل الناس " . وبرغم أن الباب كان أقرب فى اتجاهه إلى صفحة سعد الدين وهبة ، ولعله كان أقل احتمالاً لنشر خواطرى من صفحة صباح الخير ، فإن صداقة الجويلى الطيبة ، وتسامحه ، وأبوته ، صنعت جسراً إلى العمل الصحفى ، وإلى الحياة الثقافية بالتالى ..
ويوماً ، طلب الجويلى أن أجرى حواراً مع شاب ارتكب ثلاثاً وعشرين حادثة سرقة سيارة ، قبل أن يكتشف أمره فى الحادثة الرابعة والعشرين . وروى لى الشاب عن ظروفه الاجتماعية ، وعن أجواء المعتقل الذى قضى فيه أعواماً ـ جعله تعدد السوابق من المجرمين الخطرين ـ حتى تم الإفراج عنه فى ظروف بالغة القسوة والغرابة : ألح نزلاء المعتقل فى طلب الإفراج . أرسلوا برقيات إلى المسئولين . أضربوا عن الطعام . تظاهروا . تشاجروا ـ إلى حد الاقتتال ـ مع حراس المعتقل . ثم لجأوا إلى وسيلة بشعة لتأكيد مطلبهم فى الإفراج . أجروا قرعة فى أسماء النزلاء ، واختير عشرة أسماء تعرض أصحابها للموت حرقاً ـ علانية ـ فى ساحة المعتقل . وكانت تلك الوسيلة القاسية هى الباعث لاهتمام المسئولين ، ودراسة حالاتهم ، والإفراج عن غالبيتهم . ونشرت الحوار ، ثم نسيته تماماً . حتى عادت ـ بتفكيرى فى كتابة الأسوار ـ صورة الشاب ، والحياة فى المعتقل ، والقرعة التى أحرقت عشرة أشخاص .. كانت تلك الصورة هى الإطار السردى للأسوار ، وإن داخلها ـ بالطبع ـ تصرف أملته طبيعة الرواية ، وتباين الظروف ، والتكنيك ، والدلالة . ذاب النزلاء العشرة فى شخصية الأستاذ . تعرض للمصير المؤلم بمفرده ، وعاش فى معتقل الرواية سياسيون ومجرمون عاديون . وتمت القرعة ـ عكس الحادثة الواقعية ـ بالخيانة . باختصار ، فقد كانت فكرة القرعة هى ما أفادته الأسوار من الحادثة القديمة .
(يتبع)