استلاب الحرية باسم الدين والأخلاق

وصلنى عبر البريد كتاب ( استلاب الحرية باسم الدين والأخلاق ) ؛ للدكتور / محمد فُتُوح ، زُيل مظروفه بتوقيع ( البستان الإبداعى ) للمؤلف بالقاهرة .. الكتاب يقع فى أكثر من مائتين وخمسين صفحة من القطع المتوسط ، بتقديم للدكتورة / منى حلمى المشرفة على ماتقاه الثقافى .. ويضم فيما يضم عناوين لاثنين وعشرين مقالا لم تنشر من قبل للمؤلف ، منها عناوين : ( مصر تدعونى .. كيف لا ألبى ؟ ) و ( تركيا تدافع عن قانونها العلمانى ) و ( الذكور المتحرشون بالنساء من صناعتنا ) و ( جريمة ختان العقل ) و ( الجدل حول قانون نقل وزرع الأعضاء ) و ( الإنتحار صرخة احتجاج ضد الحضارة العالمية ) و ( استلاب الحرية باسم الدين والأخلاق ) .. وغيرها من العناويين .. ويروى الكتاب تفاصيل موت المؤلف فى ظروف تعكس واقعا مؤلما لمستشفياتنا ، عانى خلالها رحلة حفلت بالألام والأوجاع ، وجأر بالشكوى مما لاقاه من الإهمال والقصور والنصب والإحتيال خلال رحلة علاج كلفته ما يقرب من الثلاثة ملايين جنيه خلال ثلاثة أشهر فقط ؛ بإحدى المستشفيات الإستثمارية الكبرى بالقاهرة ، وما زادت حالته الصحية إلا سوءً ، حتى وفاته فى الثالث عشر من أكتوبر عام 2008 م ، كما احتوى الكتاب أيضا على قرص صلب ( سى دى ) حمل عددا من أغانيه تلحينا وآداءٍ .. كتبت معظم كلماتها الدكتورة منى مقدمة الكتاب .
والدكتور محمد فتوح حاصل على درجتى الماجستير والدكتوراة فى مجالى علوم البيئة وعلم النفس البيئى من جامعة عين شمس بالقاهرة ، وعضو بالعديد من الجمعيات المناصرة لقضايا المرأة ، وعضو فاعل فى المؤتمرات المحلية والدولية المعنية بالتمييز بين الجنسين ، والتعصب الدينى ومشاكل البيئة ، كما يقول أحد أغلفة كتبه المنشورة صورته بالكتاب محل النظر .. وله من المؤلفات كتاب ( الشيوخ المودرن وصناعة التطرف الدينى ) الذى نشر عام 2004 م ؛ بتقديم للدكتورة منى حلمى أيضا .. الذى رأى فيه أن اختلاف الفقهاء يشيع البلبلة ويشعل الفتن ، وأن إمامة المرأة للصلاة حق لها ، وفصل الدين عن الدولة هو الحل .. وقيل ( * ) إن ( مجمع البحوث الإسلامية ) بالأزهر الشريف قام بمصادرته ، وهو ما فجر معركة وأحدث ضجة بين المؤسسة الدينية فى مصر ، وبين بعض المؤسسات الثقافية المحسوبة على ما يسمى بالتيار التنويرى ؛ حول أحقية الأزهر فى مصادرة كتب فكرية وثقافية ودينية لا يراها منسجمة مع صحيح الدين .. ونشر له أيضا كتاب ( أمركة العالم .. أسلمة العالم .. مَنْ الضحية ؟ ) عام 2006 م والذى ذكر من خلاله أن العالم يقع بين قطبى رحى .. فهناك من يرويدون ( أمركة ) العالم ، أى تمثيل دور الشرطى العالمى .. وهناك من يريدون ( أسلمة ) العالم ؛ أى عولمة الدين ، واستنكر فيه فتوى أصدرها الدكتور يوسف القرضاوى رئيس ( الإتحاد الدولى لعلماء المسلمين ) حول مقاطعة جميع البضائع الدنماركية والنرويجية ، بعد نشر الرسوم المسيئة ، بل وشكك فى وجود الإتحاد وكيانه وعلمائه وفتاواه .
والسباحة بين دفتى الكتاب ؛ تستغرقك كقارىء .. تماما كما تستغرقك أعمال مقدمة الكتاب ، خاصة كتابها ( الحب فى زمن العولمة ) ، الذى أكدت فيه دعاوى امتهان المرأة وانتقاص حقوقها ، والتفرقة المدعاة بينها وبين الرجل اجتماعيا ودينيا ، وحفل هذا الكتاب بالسخرية من الكثير من قيمنا وأعرافنا ، التى تعتبرها موروثات وصلت إلينا عبر حقب زمنية ظلامية ، ويجب التخلص منها بإلقائها فى سلة مهملات التمدن الغربى المتحضر كما تؤمن به وكما تراه .. الأسلوب واحد والموضوعات متقاربة والأفكار متشابهة ؛ ولعل ما قالته الدكتورة منى فى تقديمها للكتاب ؛ يفصح عن سر هذا التشابه ، حيث قالت : ( إليه .. توأم روحى وعقلى ، فكرى وغضبى وأفراحى ، وتمردى ، وأحلامى ، ورحيلى حين أرحل ... ) ، والكتاب صدر بعد وفاة مؤلفه بشهور طويلة .
فتحت عنوان ( أقلام تأكل على كل الوائد ) رصد الكاتب ما عدَّه ظاهرة ، تتلخص فى تنوع مصادر النشر لعدد من الكتاب والمفكرين ، تتباين تلك المصادر فى توجهاتها بين ( مستقلة ) أو ( غير مستقلة ) و ( معارضة ) أو ( موالية ) و ( ليبرالية ـ علمانية التوجه ) أو ( دينية ـ اسلامية ) ، وهو مع عدم معرفته بالفروق الجوهرية بين تلك المسميات ؛ أو ( اليافطات الإعلامية ) كما سماها ، وفى ظل غياب الفروق الأيدولجية بين الإنتماءات المختلفة الواضحة للعيان .. فقد اعتبر هذا نوعا من ( الكذب والنفاق الإعلامى ) يمارسه الكاتب أو المفكر بشكل غير واعى .. وعن ( الإقتتال بين فتح وحماس .. لا حصاد إلا الخجل ) ، حذر المؤلف بقوة من استمرار الإقتتال بين الحركتين ، لأن القاتل والقتيل والجلاد والضحية يحملان نفس الهوية ، ورصد حالة من التعصب تعمى النفوس وتعتلى مسرح الأحداث .. حالة من فقدان العقل والعجز والإحتباس الحوارى تجثم بمفرداتها على الجميع ؛ فلا تفرق بين الأخ والعدو .. ورأى أن المسؤلية الملقاة على عاتق حماس أقوى من قدرتها على التحمل ، لأنها أسيرة للتعصب الوطنى المغلف بالغطاء الإسلامى ، وأنها فى ظل عجزها عن التعامل مع الواقع الدولى تشترط الشروط وتضع الأهداف ، وتطالب العالم بالإصغاء والتأييد لمواقفها دون سند قوى ، وأنها تتصرف وكأنها تعيش فى عالم منعزل ، وأنها فشلت على كثير من الأصعدة كان آخرها الفشل فى تشكيل حكومة وحدة وطنية .. وتحت عنوان ( مدام أو أم فلان ) كتب مستنكرا تعمد إخفاء اسم المرأة ؛ بالقول : ( مدام .. أو أم فلان ) وعد هذا تصنيفا للمرأة على أساس جسدى ؛ من حيث امتلاك ( غشاء البكارة ) أو فقده ـ كذا بلفظه ـ ، وأن هذا التعمد لإخفاء اسم المرأة تحت أى مسمى يعبِّر عن دلالة نفسية واجتماعية ، تكشف عن جانب من جوانب التفرقة بين الرجل والمرأة !
وحول ( مأزق الدولة المدنية ذات المرجعية الدينبة ) ـ أى التى تستمد قانونها من الشريعة الإسلامية ـ ، يؤكد المؤلف رفضه وعداءه لقيام دولة بهذا الإسم ، ناهيك عن قيام دولة ذات مفهوم دينى شامل ، على اعتبار أنها تفرق ولا توحد ، وتثير العداوات والفتن بين أفراد الوطن الواحد ، وأن ما نجنيه من ورائها هو حصاد مر تضيع معه الأعمال هباء ، فى مناقشة صيغ ـ كما يقول ـ عفى عليها الزمن .. وفى مقاله : ( الذكور المتحرشون بالنساء من صناعة تفكيرنا وثقافتنا ) يقرر أن مسألة التحرش الجنسى بالمرأة ليس إلا عَرَضَاً لمرض أصلى متوطن ؛ يتجسد فى عقلية سائدة منذ آلاف السنين ، تختصر المرأة إلى ( كتلة من اللحم ) تسبب الهياج الجنسى للذكور ، وتنشق من تفسيرات دينية تلائم طبيعة المرأة القاصرة الشيطانية ، متوافقة مع الغاية فى طاعة الذكور واتباعهم ، وتنسجم مع احتواء المرأة لجميع الشهوات المتدنية ، وتمهد لتكون المرأة ملكية خاصة فى الزواج والأسرة .. !
وعن ( أخلاقيات التقدم ) التى رآها المؤلف فى بعض بلدان العالم المتقدم التى زارها ؛ حيث بهره ( الإقتصاد النتعش ) و ( التعليم المطور للقدرات الفكرية والملكات الإبداعية ) ، وأذهلته التكنولوجيا التى اخترقت حياة البشر من الألف إلى الياء ، والعلم الذى يؤمن أنه لا يوجد مستحيل .. ووصل فى الختام إلى أن من مفردات ( أخلاقيات التقدم ) التى رآها بعينه وتعامل معها وأشعرته بالراحة والإطمئنان والألفة : ( الهدوء ) و ( احترام الخصوصية ) و ( احترام الوقت ) و ( الحرص على نظافة الأماكن العامة ) و ( الوفاء بالكلمة ) و ( عدم الخيانة ) و ( الوضوح ) و ( الصدق ) و ( كراهية النفور من التقليد ) و ( المعايير المزدوجة ) و ( تقدير الجهد الإنسانى ولو بسيط ) و ( إعلاء الجوهر على المظهر ) و ( الحكم على الناس بالعمل والصدق ) و ( احترام الدور فى كل طابور ) و ( العداء للفوضى ) و ( حب الدقة والتنظيم والتخطيط ) و ( لا مبرر للإهمال ) .. وأن العمل بهذه المفردات من ( أخلاقيات التقدم ) تؤدى إلى مزيد من ثمار التقدم العلمى والطبى والفنى والتكنولوجى .
وفى مقاله ( لقب فارس والفكر الأصولى اليائس ) هاجم بشراسة ؛ فتوى أصدرها الخومينى بإهدار دم سلمان رشدى بعد نشره لكتاب ( الآيات الشيطانية ) ، وإعلان بعض رجال الدين فى باكستان عن مكافأة مالية قدرها 11 مليون دولار ؛ لمن ينفذ الفتوى ، ويعتبره امتداد لفكر أصولى يزداد شراسة وغرورا وعنصرية .. ويمتدح قرار ملكة بريطانيا بمنح رشدى حق اللجوء ولقب فارس .
وبعد .. فقد نتفق مع الرجل أو نختلف .. والكتاب يمثل تيارا فكريا يدعى التنوير ، ويلبس زى المدنية الغربية الزائف ، وهو فى سبيل الوصول إلى أهدافه ـ بخداع محكم وتضليل متعمد ـ قد يقع فى أخطاء لا تغتفر .. ومغالاطات لا تمحى من الذاكرة .. كأن يعادى ديننا أو يناهض قيمنا الأصيلة التى نتمسك بها .. وموروثاتنا التى تميزنا فى صراعنا الحضارى الضارى شئنا أم أبينا .. أو أن يرفض قوميتنا الواحدة المتمثلة فى الكثير من الصور فى حياتنا ، فى الوقت الذى يتجه الغرب الذى يدعون أخذهم العلم عنه نحو التمسك بقوميته وهويته الثقافية الموروثة ، ويسعى بكل قوة لتأكيدها وتنميتها .. بل وتوحيدها .. ويتفنن فى سعى حثيث لرسم صورة شائهة لنا على كافة الأصعدة .
واهية هى تلك الثقافة القائمة على بناء ( المواطن ) .. والفكر الأنانى وليس ( الإنسانى ) .. وما أروع سعة الإسلام الذى يسعى فى تعامله معنا بمنطق ( الإنسان ) .. فلا حدود تفصل بيننا .. ولا فروق تميز بعضنا على بعض .. وبين ترسى ( الفهم الخاطىء ) للأحداث و ( التطبيق القاصر ) للواقع ؛ تضيع معالم الأشياء وتصبح الصورة أكثر ضبابية .. وهو ما يُلقى على عاتقنا مسؤولية العمل الجاد والمخلص على إزالة لبس حضارى أصبح أمرا واقعا نعيشه ، لا يرى فى الدين سوى مجرد قيد يكبل حركتنا ويزيد تخبطنا ، ويقاتل قومية لها جذورها الضاربة فى أعماق التاريخ ، وينكر دورها الحضارى الذى أصبح أساسا لما وصل إليه عالمنا اليوم ، ويرسم صورة مشوشة للفوضى على أنها الحرية المطلقة ، المحررة من كل قيد أو تقليد .. وهو فكر وثقافة مرفوضة لدى الأكثرية منا ، ويجد تأييدا لدى أقلية لا تعبر عنا ، نحذر منها ما وسعتنا القوة .. ونرى ضرورة التعامل معها بجدية وواقعية ، قبل أن يستفحل خطرها .
ولا نقول فى الرجل إلا ما يرضى ربنا ؛ وقد أفضى إلى خالقه ..
وتبقى تلك هى الحقيقة المروعة .. والتى نعدها جريمة بكل المقاييس ، تعاقب عليها كافة القوانين الإنسانية ، لو حدثت وقائعها بهذا التوصيف .
-------------------------------------
( * ) كانت ( مكتبة مدبولى ) ـ ناشرة الكتاب ـ قد أعلنت عن مصادرة الكتاب ، وأنه جرى تفتيشها مع مكتبتين أخريين هما ( الديوان ) و ( الشروق ) بمعرفة شرطة المصنفات .. وهو ما أنكرته مكتبتا ( الديوان ) و ( الشروق ) فى حينه .