المفتاح :
والاحتفاء بلغة الرمز
بقلم د. حماديالموقت

يعد المذهب الرمزي واحدا من المذاهب الأدبية التي شكلت منعطفا حاسما فيبلورة التجربة الأدبية لأدباء القرن العشرين. فمنذ شارل بودلير "1821 ـ 1867م" والرمزية كمذهب أدبي فلسفي غربي يعبر عما استتر في النفس الأدبية والفكريةوالاجتماعية ؛ وعما لم تقوى اللغة على أدائه أو لايراد له – في الأصل-التصريحوالمباشرة. فكان الرمز بذلك إيحاءا وأداة يتسلح بها الأديب لتجاوز ما ألفه منالتعابير اللغوية البسيطة. بل طاقة تعبيرية هائلة قادرة على استيعاب تجربته، ورؤاهالفنية، ومواقفه الفكرية المختلفة...
إلا أن استعمال الرمز لم يكن -في حقيقته -حديث النشأة والتداول، بل هو قديم جداً قدم الفراعنة واليونانيين. وبحكم خصائصهالمتميزة لم يُعرف كمذهب قائم بذاته إلا عام 1886م حين أصدر عشرون كاتباً فرنسيًّابياناً نشر في إحدى الصحف يعلن ميلاد المذهب الرمزي. ومن وقتها عرف هؤلاء الكتّاببالأدباء الغامضين. ومما جاء في بيانهم: "تقديم نوع من التجربة الأدبية تُستخدمفيها الكلمات لاستحضار حالات وجدانية، سواء كانت شعورية أم لا شعورية، بصرف النظرعن الماديات المحسوسة التي ترمز إلى هذه الكلمات، وبصرف النظر عن المحتوى العقليالذي تتضمنه، لأن التجربة الأدبية تجربة وجدانية في المقام الأول" كما هومعلوم.
وإذا دققنا في مضمون هذا البيان، وألقينا بدلائله على قصة "المفتاح" لعبدالجبار الحمدي نلفي تعالقا وثيقا بينهما، ذلك أن مصطلحات من قبيل: "المفتاح" و "الصدأ" و "المعطف" و"الجيب العتيق" و"السيجارة" و "قطع رأس المفتاح" ... لم تكنمصطلحات عبثية، بل رموزا من الرموز الأساس التي تبناها الكاتب في بلورة تجربتهالقصصية محاكيا بها ومن خلال تجسيدها وأنسنتها صور واقعه المليء بالنتوءاتوالندوبات وهمس الزنازن، كما فعل مع المفتاح حين منحه خيط الكلمة والرأي برفض عمليةالفتح والثورة عليها تارة، وبالانصياع والخضوع تارة أخرى رغم سلبية الانجازوالمحاولة.
ومما لاشك فيه؛ أن عملية بناء النص القصصي من خلال اللجوء إلى الرمزولغة الإيحاء لهي ذات قيمة تجديدية كبيرة تفتح الطريق أمام القصة العربية للوقوف فيمرتبة القصة العالمية، بالرغم مما سينتج عنه من ضبابية وتعقيد ولَبْس.
ومنهنا-بالضبط- تتعدد الرؤى في الفهم والتأويل. فالتمكن من أدوات الكتابة القصصيةوالكتابة الرمزية على وجه التحديد، لا يلغي –بالمرة- هذا التعدد أو ينفيه. بل يجعلمنه قيمة مضافة تفتح النقد على جبهات التحليل والدراسة.
فلما كان الساردوالمفتاح وبواب العمارة وأنصاف السيجارة... قوى فاعلة فقد أثثت بوجودها فضاء القصةوفضحت زمانها، وعرّت عن سماتها، وكشفت عن قائد ضمائرها، فخدم الكل حدثها ، وقَوَّتْبالتالي- من دلائل تجنيسها ونمذجتها. و الحوار والوصف فيه إلا أسلوبين من أساليبالقصة استعانت بهما لتبتاع فنون القص والحكي، وأغراض الألم والتحسر.
والقصة تحكيفي مجملها- عن مفتاح تأبّى على صاحبه في فتح باب الشقة، بعد طول غياب في ردهاتالزنازن وغياهب السجون، حاول وحاول، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل وضياع الجهد. نظرا للصدأ الذي أصاب ترس الباب وقفله. ليدرك صاحبنا في النهاية و من خلال بوابالعمارة أن الشقة التي جهد نفسه في فتحها ليست شقته، وأن مالك العمارة أعاد ترميموتسكين عمارته، ليجد البطل نفسه ممنوعا ومطرودا من شقته التي كان يسكنها قبل دخولالسجن.
وإذا حاولنا تحوير متن القصة هذا، عبر ما يسمى بالخطاطة السردية عندكريماس، فسيكون على الشكل التالي:
-
أولا: الوضعية الأولية: خروج السارد منغياهب الزنزانة، وعودته إلى شقته
-
ثانيا: الوضعية الوسط أو سيرورات التحول:
أ‌- الحدث الطارئ:+رفض المفتاح فتح باب الشقة
ب‌- تطور الحدث وتأزمه: محاولات السارد المتكررة في الفتح + دخوله في حوار مع المفتاح + إخراجه للسيجارةوشرب نصفها ...
ت‌- الحل: حضور البواب وإخباره بأن الشقة التي يفتحها ليستشقته
-
ثالثا: الوضعية النهائية: شعوره بخيبة الأمل، وتفضيله الموت على العيش فيواقع مثل واقعه الجديد.
أما إن توقفنا مع القوى الفاعلة لحظة، فيمكن تصنيفها حسبأهميتها وأولويتها بورود السارد على رأس القائمة، و المفتاح في المرتبة الثانية،بينما بواب العمارة وأنصاف السيجارة يأتيان في مرتبة ثانوية لاحقة. لذلك فإن سماتهاوسلوكياتها تباينت وفق تطور الحدث العام للقصة الذي ينظم حتى أدوارها ويمنحهاالأفعال والأعمال.
ومن منطلق الالتزام برصد طبيعة التعالق بين فواعل القصة فيمابينها؛ قد يتأتى لنا ذلك من خلال ما سمي بالنموذج العاملي الذي ينحصر دوره في ضبططبيعة التعامل بين الشخصيات والقوى العاملة في نص "المفتاح" كمايلي:
بالنسبةلمحور الرغبة تجده قد جمع بين السارد كذات بطلة ترغب في فتح باب الشقة، والموضوعالذي يتحدد في عملية الفتح ذاتها. أما المفتاح فاحتل منصب المعارض الذي كان حاجزااعترض طريق الذات حتى لا تصيب رغبتها، كما يمكن أن نضيف إليه قوة الصدأ أيضا. أما مايقابل العامل المعارض فالعامل المساعد الذي تجمعه به علاقة تعارض وصراع في الوقتالذي يبحث المساعد عن وسائل مساعدة الذات في الحصول على موضوعها. إلا أن المساعد فيقصة المفتاح شبه منعدم حيث لا يوجد شخص أو شيء شغل الدور وأداه بشكل فعلي ومباشر،وإلا لاعتبرنا بواب العمارة - من جهة غير مقصودة - قوة فاعلة ساعدت البطل ليس فيفتح باب الشقة ، بل في إخباره عن حقيقة الشقة موضوع الفتح. وهنا إشارة لطيفة إلىالمعاناة التي عاناها البطل في حياته الشخصية جراء الوحدة داخل وخارج دهاليزالسجون. وبين الرغبة إذا، والصراع يقع التواصل بين عاملين آخرين هما المرسلوالمرسَل إليه، حيث المرسل يمثل الدافع الذي جعل السارد يرغب في فتح باب الشقة. وماستكون طبيعة الدافع هنا غير الرغبة في التغيير والرغبة في الاستقرار والرغبة فيواقع جديد بعيد عن المنغصات والمعاير. أما الطرف الثاني الذي يحقق معه محور الإبلاغوالتواصل فهو المرسل إليه، ومن خلال موضوع القصة ورغبة السارد يمكن جعل المرسل إليههو المجتمع وهو الفرد العربي وهو الآمان والحرية ... تلكم إذا، هي خصوصيات العلاقةالتي تجمع وجمعت بين قوى النص وشخصياته.
إلا أن هذه الشخصيات لم تكن يوما فاعلةدون فضاء زماني وآخر مكاني تنسج فيهما خيوط أحداثها وأفعالها. لذلك كان الزمنالماضي مهيمنا على بنية الفعل في النص، رغم أنه يتجاوز الماضي في كثير من الأحيانليُلحقه بالمضارع. وإن دل هذا الإلحاق على شيء؛ فإنما يدل على أن ذات الساردالمرهقة والقلقة والمضطربة والمتأزمة لازالت تتردد بين ماضيها وحاضرها وتحن بينهماإلى الأمن والحرية والاستقرار حتى حدود الساعة. ومن أمثلة ذلك ما استهل به الكاتبقصته: "خلع معطفه بعد أن أدار المفتاح في ثقب شقته...."، وقوله: "طفق يحاول معه مرةومرتان ...." ،و "لابد لك أن تفتح بعد أن تعرفت مرارة جوفي..." وأمثلة أخرى لميسعفني المقام لسردها كلها.
والزمن كما هو معلوم في الكتابة الأدبية، عنصر يصعبالإمساك به، تدركه عقولنا ولا تستطيعه حواسنا. لذلك كان مرتبطا دائما بالمكان،والمكان فيه تتكون الحركة ، والحركة شيء من الزمن أو جزء من كله. كما هو الحالعندما نرقب سرعة حركة عقرب الثواني، بينما لا نستطيع فعل الشيء ذاته مع عقرب الساعاتبالسرعة ذاتها. إذن، يبقى الزمن مجرد آثار تلزم المكان. كما لزم زمن الظلم والقهرحياة الذات البطلة وشقتها في "المفتاح" كمكان وحيد يحكم حركة القصة ومسارها الفعلي. حتى نتج عن هذا الأثر مفتاحان بل وجهان. مفتاح للزمن الماضي ووجه له، ومفتاح للزمنالحاضر ووجه ثان له. وبين المفتاحين والوجهين ازدوجت الرؤيا لدى السارد بازدواجالزنازن وتشابهها حتى نبت العقم وشُلّت الحركة في أوصالهما. فتجده يصف حاله هذا؛لحظة إخراج السيجارة من جيبه: "كان صاحب المعطف في تلك الوهلة قد تنفس سيجارة عفاعلى عمرها الوهن، فمالت إلى الاصفرار من شدة الاختناق في جيوب أزلية"..وقوله بعدماعرف حقيقة أمره:" فقد ازدوجت الرؤيا لديه، بعد أن عاش في زنازين متشابهة الشكل،فخرج هو أيضا وشعور بخيبة أمل. متمنيا الموت أو العيش في سراديب مظلمة على العيش فيواقع جديد".
إن فصلي في هذه القراءة؛ بين عناصر القصة؛ لم يكن فصلا تعسفياولا ساذجا، إنما هو رغبة في بلورة تصور عام حول مضمون القصة من جهة؛ وحول الأبعادالاجتماعية والسياسية و الأخلاقية التي ترمي إليها من جهة ثانية.
لكن، عادة مايتناسى النقاد أهمية اللغة باعتبارها وسيلة القص والحكي ووسيلة التعبير والإفصاح عنخلجات المرء. وإن أثبت سلفا بأن عناصر الكتابة القصصية ليست منفصلة، فإن الذيباستطاعته أن يجمع بينها هو عنصر اللغة. كونه العنصر النموذج والمحور الثابت فيالقصة وفي العمل الأدبي ككل. فما بالك إذا؛ إن كان هذا العنصر مثخنا بالرمزية منمثل لغة عبد الجبار الحمدي ومفاهيمه في قصة المفتاح!! ولو لم تكن رمزيةً وذاتَأبعادٍ لما شغل نفسه في كتابة قصة مضمونها بسيط في ظاهره وباطنه، وقريب يحكي عن رجلخرج للتو من السجن، فتأبّى مفتاح شقته على الفتح، لولا بواب العمارة الذي أنقدالموقف بإخبار السجين الحر أن الشقة التي زمع على فتحها ليست هي شقته.
فمنالتعابير الرمزية التي تضمنتها دفّات القصة قوله :"قطع رأس المفتاح" الذي لم يكنحدثا أو فعلا عابرا لا قيمة له، بل حدثا نوعيا مشحونا بالمعاني والدلالات يمكنتحويره بالصيغة المجازية إلى "قطع رأس الرجل" حيث الأفكار وحيث المطالبة بالتغييرونشدان الحرية الفكرية .
إن أهم ما يثير انتباهك وأنت تتلو القصة نزعة الكاتبوشغفه بالتغيير والحركة، حيث سرعة التنقل والانتقال من ضمير إلى آخر، ومن لسان إلىلسان، لخير دليل على خضوعه لمبدأ التحرر وعدم الانقياد آو الركون إلى منطق العادةوالاستسلام. ويكفيك أن تقرأ المتواليات السردية الأولى من القصة لتتبين ما أعنيه؛بدءا من قوله: "أخرج المفتاح .. نظر إليه ..." حتى قوله: "ولا أعلم كيف يرتديهورائحة الموت تقطن فيه".
أما من حيث البنية السردية للقصة؛ فقد توزعت بين ضميرنحوي تراه خاضعا لسلطة السارد المشارك في الأحداث تارة، وبين الذي يترك زمام الكلاموالحديث للمفتاح في إطار تقنية التناوب على السلطة التعبيرية تصريحا وتلميحا تارةأخرى. إلا أن السارد هنا بحكم أنه يعلم كل صغيرة وكبيرة عن أحداث قصته وعن شخصياتها، فإنه يتموضع في زاوية خلفية من زوايا الرؤية يترصد فيها حركة القصةومسارها.
وبالجملة ؛ يمكن اعتبار قصة المفتاح فاتحة بشرى لرواد القصة في العالمالعربي، نظرا للخصوصية التي ميزتها عن باقي الكتابات القصصية الأخرى، خاصة في زمنطغت عليه الواقعية وفرضت نفسها على جل الفروع والأجناس الأدبية.
وقبل أن أسدلستار القراءة على "المفتاح" أود الإشارة إلى أن كاتبا من طينة عبد الجبار الحمدي لايتناسى أو يلزمه نسيان علامات الترقيم التي تعد بمثابة قانون تشويري يعين ويحددمواضع الوقوف والتعجب والاستفهام والقول وغيرها من أساليب الكتابة الأدبية. لذلككان من الصعوبة بمكان أن تقرأ نصا تنعدم فيه تقريبا هذهالعلامات.