( كان لقـاء عجيـبا جمعـنى والأستـاذ الدكتـور أحمد زيـاد محبـك ،
الأديب وأسـتـاذ الجامعـة الســورى الكبــيـر ، فــى صـبـاح أحــد
أيام شهـر سبتـمبـر مـن عـام 2002 م بالقاهرة ، تجاذبنــا أطــراف
الـحديـث عــن الأدب والتدريــس فـى كـل مــن مصـر وسوريـا
ومشاكـلهما ، أهديـتـه بعـض كـتبى وأهدانى مجمـوعته ( العودة إلى
البحر ) ، التى اخترت لكم منها هذه الرائعـة لقصرها .. وفاء منى للتل
والبحر .. والجنة المفقودة )
( عبد المنعم )
الشرط الرابع
دخلت عليّ أمينة السرّ، وهي تقول:
- شاب يطلب مقابلتك
نظرت إليها سائلاً :
- هل هو على موعد ؟
- لا ، أبداً
- اصرفيه إذن
- ألحّ عليّ
وأسألها :
- ماذا يريد ؟
- أكد أهمية مقابلته لك
أتردّد ، ثم أقول لها :
- دعيه يدخل
أنظر إلى ساعة يدي ، وإذا هي تقترب من الواحدة ، أنادي أمينة السر ، قبل أن تخرج ، أقول لها :
- وعدتني ابنتي أمل أن تتصل بي عند الواحدة ، حوّلي مخابرتها إليّ مباشرة .
وجه شاحب ، شاحب جداً ، كورقة الخريف ، والخدّان غائران ، وعظم الوجه ناتئ ، مثل صخرة في سفح جبل .
نظارتان مدورتان ، صغيرتان جدا ً، سوداوان تلتمعان ، مثل خفاش .
أمام المكتب يتقافز ، كأنه يدوس على جمر ، يدخل أصابعه في شعره المرفوع إلى فوق مثل قنفذ ، أذناه ناتئتان مثل تينتين وحيدتين في شجرة سقط كل ورقها .
يمدّ إليّ يده ، ليصافحني .
أشد على يده ، ترتعش أصابعه مثل أعواد متكسّرة .
ما يزال أمامي ، وهو يتقافز ، كأنه يدوس على جمر .
قميصه الأحمر المخطط بالأخضر طولاً وعرضاً مفتوح عن صدر غائر ، أملس ، لامع ، لا شيء من الشعر فيه .
يضع كوعه على المكتب ، يستند ، يميل عليّ بوجهه ، يزكمني بخر فمه ، أسنانه سوداء نخرة ، شفتاه غليظتان ، منفرجتان أبداً ، يتكلم ، وهما منفرجتان .
مثل زجاج يتكسر يأتيني صوته :
- السكرتيرة لم تسمح لي
يلتقط قلماً من فوق المكتب ، يحمله بين إصبعيه ، كأنه يحمل سيكارة ، يضعه بين أسنانه ، يرفعه ، يحكّ به شعره .
- لا تعتب عليّ ، صوتي مخرّش ، الآن خرجت من الاستوديو ، ست ساعات وأنا أجري بروفات فيديو كليب ، أنا مرهق ، مرهق جداً .
أسأله :
- ماذا تريد ؟
يرفع نظارتيه ، عيناه صغيرتان ، صغيرتان جداً ، إحداهما تحدّق في شهادة الدكتوراه في الحقوق المعلقة على الجدار ورائي ، والأخرى تحدّق في ثوب القضاء المعلق على مشجب في زاوية الغرفة على شمالي .
يحاول الكلام ، صوته يتكسّر :
- أنا .. أنا
ويرنّ جرس الهاتف ، أرفع السماعة ، يأتيني صوت أمينة السر :
- بنتك أمل على الخط
وأتكلم :
-أهلاً أمل ، من أين تتصلين بي ؟ من البيت ؟
ويأتيني صوتها :
- من الجامعة ، الآن انتهيت من أول جلسة عملية
- وكيف كانت ؟
- آه لو ترى ، إحدى الزميلات أغمي عليها ، وزميل آخر أصيب بالغثيان .
- وأنت ؟
- أنا على استعداد الآن للدخول إلى غرفة العمليات ، والمشاركة في أي عملية .
أنتَ ؟! آه ، أنتَ أنسيتّني أمل والجامعة والطب ، لو كنتَ أنتَ في غرفة العمليات ، مخدراً ، تحت يدي أمل ، لتجري مبضعها في جسدك وصوتك .
ويأتيني صوت أمل سائلة :
- هل عندك أحد ؟
-لا ، لا ، تكلمي .
وتردّ كأنها تكلم نفسها :
- غير معقول ، هو وعدني .
وتصمت فجأة ، فأتكلم :
- عندي شاب ، دخل للتو ، من غير موعد
- وهل يضع نظارتين سوداوين صغيرتين ؟
وأنظر إليه ، كأني أرى وجهه الضفدعي أول مرة ، فإذا شدقه ينشق عن ضحكة مثل شق في جبل . وأرد :
- نعم .
وتتكلم :
- هو الشاب الذي حدثتك عنه ، هو خطيبي .