استمرارا للحديث عن حلب .. كتب نشيد فقال :




المتنبي ..


رجل بدء حياته متطلعا لأفق واسع لم يعرف بعد تفاصيله لكنه موقن بعظم قدره وعلة شأنه ، حتى ظن في نفسه انه نبي .. و المتنبي ليس النابغة الوحيد الذي رأى في نفسه هذه الرؤية ، ففي زمانه وأزمنة لحقت به إلى هذا الزمان عاش أقوام بهذا الثوب .. وهو على ما فيه من مس واضح لباب من ابواب العقيدة لا يفتحه إلا مجنون أو محتال .. إلا أنه نبهنا لجانب مفي شخصية المتنبي ..

وايا كان القول في هذا الأمر ، صدقا أو كذبا وهو إلى الصدق أقرب فينبغي لنا أن نمر على الظروف التي بدأ المتنبي بها حياته ..

في القرن الرابع الهجري ، كان المجتمع الإسلامي يعيش فترة عجيبة .. قد استقرت الدولة الإسلامية في امتداد الأفق .. وبدأت الحياة الحضارية تأخذ اشكالا جديدة ساهم فيها خلط أجناس الأمة من المشرق للمغرب .. فتعددت المدارس الفكرية حتى في الفقه والعقيدة .. بين مطلق للعقل إطلاقا لا حد له ، ومقيد لنفسه بحدود ..

ورغم كونها فترة اتساع حضاري ، كانت فترة اضطراب سياسي .. فالخلافة العباسية قد بدت في انحسار سلطانها الفعلي .. والولاة أصبح كل منهم مملكة في شخصه له الجيوش والإعلامين من الشعراء والكتاب .. فكثرت الدول في المحيط الواحد ..

في هذا الجو نشأ المتنبي .. كان مولده بالكوفه وقضى في البادية سنتين عاد بعدهما بدويا قحا ، ادعى النبوة في بادية السماوة ، سجنه لؤلؤ أمير حمص على ذلك فكتب إليه يستعطفه قصيدته التي بدأها ب:

أيا خدَّد الله وردَ الخدود***وقدَّ قدود الحسان القدود


سافر بعد ذلك إلى أنطاكية وقدمه واليها لسيف الدولة أمير حلب ..

لم يقض المتنبي في حلب غلا ست سنوات هي أنعم سني عمره .... ماذا كان قبل ذلك .. وغلى أين صار بعد ذلك ؟ والسؤال الآخر .. لو لم يلتق المتنبي بسيف الدولة هل كان ذكره سيملء الدنيا كماملأها الآن .. ولو كان اشعر مما كان عليه ..

القول الثابت أن كليهما صنيعة الآخر .. سيف الدولة صنيعة المتنبي والمتنبي صنيعة سيف الدولة .. واحد صنعه المال والآخر صنعته قريحة صاحبه ..

سيف الدولة هو الأمير العربي في أرض حكمها كثير من غير العرب ( للتثبت يراجع ولاة الأقاليم في تلك الفترة .. من إيران لمصر !!)

رأى المتنبي في سيف الدولة الفارس الذي سيساعده في تحقيق مجده ، والحق أنني أحتاج لقراء واسعة لأستطيع أن أوصف العلاقة بينهما .. في أول لقاء بينهما اشترط المتنبي أن يقول الشعر جالسا ، ولم يكن الشعراء يمدحون الولاة إلا وقوفا ، بل إنك لا تعلم شاعرا كان حريصا أن يجعل نفسه في مقام الممدوح في قصائده كما فعل المتنبي .. فهو لا يمدح من ضعف أو حاجة .. إنما هو حديث الأكفاء .. وهو عالم أنه وهو يصنع مجد سيف الدولة بملاحمه التي صور فيها معاركه ، إنما يصنع مجده هو ..

لكن الحياة دوما لا تسير وادعة لمن اختار أن يكون فيها عظيما ممتد الذكر بين الأيام ، فين وشايات من منافسيه وقيل منهم أبو فراس ابن عم الأمير وبين موقف أهين فيه المتنبي بين يدي سيف الدولة ولم ينتصر له سيف الدولة .. قرر المتنبي الرحيل من حلب .. وكتب قصيدته البالغة الصيت :



واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ

مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي
وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ

إِن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ
فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ

أحيانا أبارك تلك الوخزة التي أصابة نفس المتنبي واحزنته فأخرج هذه القصيدة ..

بدأها هذه البداية الشاكية ، وهو الذي يكتم حبه وسواه يدعيه ، وصادق الحب عند المحب الصادق لا يحتاج أن يخب به لأن الاحوال تدل عليه ، ولثقته في حبه هذا قال : فليت أنا بقدر الحب نقتسم ..

لم يطل المدح فسريعا وصل إلي بيته :


يا أَعدَلَ الناسِ إِلّا في مُعامَلَتي
فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ

والذي بدأ بعده في الفخر بنفسه وبمقامه في الادب .. فهو الذي ينام ملء جفونه عن شواردها وسواه يسهر يحبر القصائد ويكتب ويعيد ..


أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ

حتى يقول ..



وَجاهِلٍ مَدَّهُ في جَهلِهِ ضَحِكي
حَتّى أَتَتهُ يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ

إِذا نَظَرتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً
فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ مُبتَسِمُ

والقصيدة رائعة تستحق الوقوف لكن ليس هذا مكانها ..

خرج المتنبي من حلب إلى مصر ، ولقي فيها ظروفا لم يعتدها ووال لم يحبه ، مما جعله يتنازل عن أمور لم يكن ليتنازل عنها ..

سمعت مرة أحد المؤرخين وهو يقول إني أعجب لحرص المتنبي على أن يكون وال لإمارة ، يريق في ذلك شعره مادحا كافور ليحل على ما يريد .. وقد سمى هذا المؤرخ الولاية ( وظيفة ) انتقاصا لها .. وانتقاصا للمتنبي لحرصه عليها .. ودافعه في هذا القول غضبه من هجاء المتنبي لكافور حين منع الولاية ..

لكني وجدت رأيا آخر عن حرص المتنبي على الولاية بعد تركه لحلب ، هو أنه كان حريصا على أن يكون على قدر سيف الدولة في الولاية .. (يعني راس براس )

المهم ... كان كافور عالم بمراد المتنبي لكنه مالئه حتى يحصل منه على هذا الدعم الإعلامي ، لكنه كان حريصا على ألا ينيله مراده .. حتى أنه قال له مرة :

أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سمت نفسك إلى النبوة فإن أصبت ولايةً وصار لك أتباعٌ فمن يطيقك

قرر المتنبي فراق مصر لكن كافور كان قد بث العيون وأغلق دونه البلاد لمنعه من ذلك .. لكنه استطاع في ليلة عيد ( لعله الأضحى ) الهرب .. وفي هذه الأثناء قال قصيدته الشهيرة :


عيد بأية حال عدت يا عيد ... بما مضى أم لأنر فيك تجديد ..
أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيد دونها بيد

وعلى قول دريد لحام في مسلسل ربما الأصدقاء ( أما الأحبة فالآووش بينهم )

وبيداء المتنبي الممتلئة قلقا واضطرابا قد شابهت آوش غوار ..

ومن قصائده التي كتبها في هجاء كافور قصيدة أحفظ منها بيتا كان أحد اساتذتنا يقوله دوما :

ومن البلية عذل من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهم

ومطلعها :



لِهَوى النُفوسِ سَريرَةٌ لا تُعلَمُ
عَرَضاً نَظَرتُ وَخِلتُ أَنّي أَسلَمُ




يتبع إن شاء الله