الساعة


استيقظ متثاقلاً على غير عادته صباح ذلك اليوم .
فتح بكلهدوء غرفة ابنه النائم طفلاً راودته أحلامٌ ورديةُ و أقمارٌ صيفية الوجنات .
اغرورقت عيناه بالدمع حين استقرت نظراته الشاردة على حقائب ولده التي ظلمنشغلاً بتحضيرها حتى وقت متأخرٍ من الليل الفائت .
سيبقى وحيداً في منزلٍ عاشفيه فصول حياته الرتيبة يوماً بعد يوم , سيبقى ...ليكمل آخر فصلٍ من رواية وحدتهالتي ظل يكتبها على صفحات أيامه الباهتة محاولاً تسلق ذلك الجدار الفاصل بينالحقيقة و الخيال تارةً , و بين الألم و السعادة تارة أخرى .
سريعة كانت السيارةالتي حملتهما إلى بوابة المطار ....
سريعة كانت في اختطاف لحظاتٍ قصيرة ستجمعهمالتفرق بينهما إلى موعد غير قريب .
بنبرةٍ شجيةٍ تناغمت مع دموعٍ صامتةٍ نضحت منسكون عينيه الغائرتين ,قال لابنه مودعاً:
إليك وصيتي ....
قد يكون هذا لقاءناالأخير ...إياك أن تفرط بالبيت ذات يوم مهما أجبرتك الظروف , ففيه تسكن ذكريات منأحببناهم .
قال كلماته المرتجفة و أدار وجهه باكياً أمام أصداء نداءات باكيةطاردت ظلال خطواته الهاربة حين حاول أن يشق لنفسه طريقاً بين حشودٍ تلاطمته زورقاًحائراً مزق إعصارٌ بقايا شراعه الأخير .
و كعاملٍ لفظته أمواج عمله صدفةً بحريةًمهملةً على شواطئ التقاعد البغيض , فقد اقتصر نشاطه اليومي على ارتياد المقاهيولقاء البعض من أصدقائه القدامى لمطالعة جرائد الصباح و الثرثرة في شؤون السياسة والاقتصاد و التحدث أحياناً عن أيامٍ جميلةٍ مرت و لن تعود .
و مع اقتراب الشتاءأصبح منزله القديم عالماً منعزلاً يقضي فيه معظم أوقاته بعد خروجه من المقهى , إلاانه كان يشعر بجمود الأشياء من حوله , حتى مكتبته التي ظل سنيناً طويلةً ينفقأمواله في اقتناء كنوزها أصبحت مقبرة هامدة لكتبٍ عزف عن تقليب صفحاتها منذ سفرابنه الوحيد.
وحدها ساعة الحائط المعلقة هناك منذ زمن بعيد كانت الشيء الوحيدالمتحرر من قيود الجمود.
وحدها كانت من تؤنس لياليه الموحشة الباردة بدقاتهاالتي تسللت بهدوء في حياته لتثبت نفسها كقدر محتوم لا مفر منه .
وحدها من فرضتنفسها بصمت في أرجاء منزله الكئيب لتجبر كل شيء أن يسير على صوت دقاتها الرتيب ....دقات قلبه , عدد المرات التي يستنشق فيها هواء المنزل الثقيل ,و حتى إيقاعخطواته المهزوزة و هو يتنقل في فراغات بيته الخالي من ضحكات من أحبهم .
ذاتمساء ربيعي هادئ , وبينما كان مستلقياً في فراشه البارد منذ أعوامٍ مديدة , متأملاًصورة جدارية كانت تضم بين خشبات إطارها ذكريات له و لزوجته الراحلة إلى حيث الراحةالتي كان ينشدها في أيامه الأخيرة , منتظراً هاتفاً من ابنه الذي توارت أخباره خلفحدود الأمل المفقود, شعر بتباطئ مفاجئ في دقات الساعة التي واظبت على عملها دونتوقف منذ سنين.
خلل معين اقتحم سيمفونيتها الوحيدة التي كانت لا تعرف إلا سواها ....
لعنة صامتة شلت نواسها المتدلي كأغصان صفصافة على ضفاف نهر يحتضر .
صمتجنائزي مطبق حل فجأة في أرجاء المنزل الكئيب ....
شيء ظل نابضاً في ضلوعهالهزيلة تباطأ في عمله ايضاً ....
شريط من الذكريات الناطقة مر سريعاً على حدودذاكرته الحية ابدأ , ناثراً هنا و هناك شذرات من حنين ظل يبحث عنه و يتوق إليه.
صور مضيئة أشرقت في فضاءات غرفته الخاوية ابداً ....
أطيافٌ حبيبةٌ دقت بلورنوافذ روحه المتعطشة للقاء و دعته للرحيل إلى حيث يسكنون ...حملته على غيمات شاردةمن محبة لا تعرف الأفول و طارت به فوق سهول خضراء من الأمل إلى حيث يكون الخلود واختارت له بيتاً هناك بين البيوت .
رن الجهاز الأخرس كثيراً فوق تلك ا لطاولةالتي احتضنت نظارة قديمة و جريدة و مزهرية بورود داهمها الذبول .
رن كثيراً ذلكالجهاز الذي كان يحمل البشارة المرجوة من خلف البحار , صمت أخيراً لتعلن الذكرىنهاية الطريق .
م . أبدل أبدل