براءة لها أنياب

بقلم : محمد سرحان
************

لم يظهر على مسرح يومه أي مؤشِّر يوحي بالجدَّة ، ما خلا تلك الوجوه المبثوثة على طرقات المدينة تذرعها جيئة وذهابا ، كان يشعر أن السرور المبثوث في قسماتها ما يجعله أقل امتعاضا هذا اليوم.

شابٌ هاديءُ السَّمْتِ ، يحتفظ ُغالباً بديمومة نظراته الحالمة التي تختصر خلف نظراتها شخصا طيب القلب، مع تلك المسحة من الرومانسية المقرونة بالخجل في طباعه .

جلال سالم مُحَرِّرُ الركن العاطفي في مجلة " المراة الجديدة " منذ ثماني حِجَج مضت ، كان صحفيا شابا يوقره العوز ،وتسحقه الفاقة ، لا يملك شروى نقير ، ما خلا تلك الجنيهات التي يقبضها كل آخر شهر، يُقِيمُ بها أَوَدَهُ ، ويرسل قدرا نزيرا منها إلى أهله في القرية ، ثم يتقاسم الباقي صاحب البقالة والقصاب والخضرجي و و و و .... ولك ان تضيف من هذه الواو ما شئت ! .

" شَيءٌ بالغ الطرافة أن تحل مشاكل غيرك وتقف عاجز دون حل مشاكلك "

طوى تلك العبارة المترعة بالسخرية بضحكة لا تقل سخرية أيضا .

كان يشغل ركنا من ذلك المقهى الذي كان يقصده مساء ، يصيب فيه شيئا من الطعام ، وليحل على فنجان من القهوة مشاكل القراء .

لم يكن المقهى ذو طبيعة روتينية ليلتها ، تلك الفتاة الجالسة قبالته جذبته نحوها ، مسحة ُالبراءة المبثوثة في قسمات وجهها ، مضافا إلى ذلك اللمحة البراقة ، كل ذلك كان مغناطيسا يجذبه نحوها .
كان خيط الضوء الأحمر المتدلي من اللمبة يداعب وجنتها ، ولد في نفسه شعورا جارفا بالاعجاب .

خمن أنها في بداية الثلاثينيات ، جسمها الممشوق وفمها الباسم يفتر عن أسنان كالثلج بياضا ، كان هذه المعطيات قد عززت في رأسه ذلك الرأي .

كان عليه أن يواجه تدفق الأفكار التي اصطخب بلجبها رأسه،هاله ضحكتها المستمرة بلا انقطاع ، مما جعل رعشة من الدفء تسري في أوصاله . أحس في وجهها شيئا لا يشبه الصديد الذي يقترن بأترابها ممن هن في سنها .

نظرت إليه مبتسمة ... كانت الابتسامة خيطا يشده بالفرح الذي كان ضنينا عليه ، غازلت الابتسامة ملامحه التي اتقنت لغة اليأس والقنوط ... بيد أنه أظهر جهدا كبيرا في إخفاء ابتسامته .

" ولماذا لا تكون هذه الشفاة مزيفة ... هل فيها من النزاهة ما يجعلها تختلف عن تلك الشفاه ؟ "

كان يتحدث بذلك بلا انقطاع ، وقد بعث الخوف فيه قشعريرة باردة، وتمر هنيهات يلقي فيها جملا محرومة من المعنى ، ويعود إلى لون من البله .
أحس بانه فريسة اضطراب عنيف ،أحس في تلك الأثناء أنه يمشي وهو جالس على كرسيه ، وكان يتسلل إليه شعور في لحظات متفرقة أن قدميه لا تقويان على حمله .

" إنني أتفهم حالتي الروحية تماما ، إن التخيل عنيف في نفسي وغير واقعي رغم نبل عواطفي"

اختلس نظراته تجاهها ، كانت الابتسامة مستمرة .

" ما زالت تبسم لي ، هل من واجبي كرجل ان أقف متسمرا ... إن ضحكتها تستصرخ أقدامي للوثوب ...
ولكن لماذا لا تكون هذه البسمة كذبة؟
ولماذا لا يكون وثوبي إليها تهورا تحت وطأة الجنون ؟
لا ... لايمكنني البقاء هنا ... لم يعد لي ما أفعله في هذا المكان ...".

تابع ضحكتها بنظرات قلقة ... وأخذ يرمق – متأملا دون وعي - خيوط الضوء التي تلتمع على صفحة وجهها .... كان إشعاع الضوء الأحمر ينعكس على اديم ثغرها فيجعله ملتهبا كأنه قطعة من الجحيم ...

" إنني أحيانا أترك الحماقات تعصف في رأسي "

كان يمقت التفكير في تلك اللحظة ، أحس بانتفاظة بعثت فيه شيئا من النشاط ، أحس بانه يجب أن " ينهي كل شيء "

"ماذا قدم لي التردد كل هذه السنون ؟
إني لا أفهم هذا التردد إلا أنه جبن مقيت ، لماذا لا أكون شجاعا ولو لو لحظة" .

شعر بإشراق عقلي .... واستولت عليه اندفاعة روحية طردت الكسل في داخله ،

" أجل ..

ولم لا ؟

لقد أعطتني الضوء الأخضر .... ومن البله أن أقف صامتا لا اتـحرك ".

بدا موزع النظرات في ردهات المقهى يرمق الجالسين فيه الذين تتوزعهم اهتماماتهم بين اللعب بالنرد ... وتدخين النرجيلة .. وبدا أمامه أن لا شيء يفرض عليه اتخاذ موقف معاكس لما نوى له .

بيد أنه كلما اتخذت خطته للوثوب صبغة نهائية ازدادت في عينه رهبة ، حتى إن الصراع الأليم الذي اشتعل في اعماقه كان يجعله أبعد ما يكون عن تنفيذ عزمه ، ومع ذلك كان يشعر أن التراجع متعذر في تلك اللحظة !

كانت قدماه تتهيآن للنهوض ... فقطع وصول الجرسون - الذي أومأت له بالحضور- هدير أفكاره ... خلعت من أذنيها " سماعة هتفون " ووضعتها على الطاولة .

- طبت ِ مساء سيدتي ، أخال أن ما استمعتي له قد راقك ِ .

- أجل ... مونولوج فكاهي جميل جميل .. بل قل إنه مضحك إلى حد الجنون ... لم استطع وقف شلال ضحكاتي ... أنا مدينة له أن أعفاني من موسيقاكم التي مجتها آذاني.

وقفت بعد ان تأبطت عكازا كان تحت الطاولة ... ثم أخذت تطرق الأرض بما يشي أنها عمياء ! .. بعد أن تركت ورقة نقدية على الطاولة .