(( عاجي ))
ربيع نيسان نثر خضرته النضرة فوق الأرض الممتدة على مرمى البصر, وأزاهيره البرية نقشت ألوان قوس قزح الساحرة على طول السهل المترامي الأطراف, يعلن عن اشتعال الحياة وإعلان العصيان على بوابة الشتاء التي أوصدت مصراعيها, بوجه الصقيع.. والبرد.
جذبه منظر الطبيعة الخلاب, وتل رملي يتوسط البقعة, فأبرقت برأسه رغبة عارمة بأن يتوقف هنيهة يمتع ناظريه بما خطت الخليقة من ألوان زاهية تنتفض بالحياة وزهوها, فصف سيارته على جانب الطريق ومشى نحو التل الرملي الذي قبع وسط السهل وكأنه معلم أثري.. شاخص!!
لم يكن التل يشبه المكان, ولا ينتمي إليه, كأنه انبثق من العدم ليتربع ها هنا, فوقف الرجل مشدوها يصارع أفكاره التي ما استطاعت اختزال المنظر والتوصل إلى كنه تكوينه, وعيناه المنبهرتان تسبحان في تنقل شديد بين التل ورماله, واخضرار الأرض حوله.. وانبساطها
يحاول مد جسر بينه وبين محيطه الغارق بالحياة وألوانها الزاهية, والدهشة تتملك عليه!!
فكيف يمكن لتل رملي صغير مثل هذا أن ينبع وسط أرض خصبة.. مثل هذه ؟!!
أحس بخدر غريب يدغدغ جمجمته وثقل شديد أغرق جفنيه وأزاغ عينيه, فأغمضهما, وأشعة الشمس تضرب بنورها على حبات التل الرملية, فتبرق وكأنها خرزات ماسية صغيرة مشعة تتغلغل في داخله .
تحركت الرمال فجأة أمامه وهو ينظر إليها بعينين شاخصتين, مشحونة بالتعجب, والرهبة!!..
حين ارتفعت.. تنساب حباتها الناعمة, تتسرب إلى الأسفل وكأنها نبع ماء يترقرق, فتراجع خطوتين إلى الوراء تحسبا.. تتلبسه الدهشة, لكن عيناه مازالتا تتابعان الفجوة وانبثاقها.. لتتراءى له أصابع يد بشرية بلورية تمتد من وسط الفجوة تدفع بنفسها إلى الأعلى.. فانكمش متصلبا لا يستطيع حراكا, مأخوذا!!
بصعوبة حرك يديه و مسح وجهه كي يتأكد بأنه..لا يحلم.. وإن ما يراه أمامه حقيقة.. وحين فتح عينيه مرة أخرى ظهرت له ملامح الوجه البشري الناصع لامرأة ما رأت عيناه بنصاعة لون بشرتها.. ورقبتها العاجية الطويلة يطوقها عقد ذهبي ما عرف صائغا يصوغ مثله, ولا شبيه.. يتوج شعرها الطويل الأسود الذي غطى جسدها تاج مرصع بأحجار ملونة تعتليه ثلاث وردات ذهبية تتوسطها أحجار كريمة, ما رأى مثيل لها.. وجسدها الفارع يخرج من الفوهة, ويظهر أمامه.. يواجهه.
طويلة هيفاء, رفع رأسه عاليا, كي يتمكن من رؤية وجهها.. فأجفل وهو يرى عينيها الكحيلتين تحدقان فيه.. ترمقانه بنظرات مذهولة وكأنها ترى قزما أو مخلوقا غريبا!!
أرعبته نظراتها .. فتقهقر.. وحاول أن يهرب..!!
امتدت يدها المزينة بسوار ملكي , أمسكته بقوة من يده.. وسحبته إليها.. فوقف أمام جلالها.. فاغرا فاه.. يقلب في رأسه أوراق التاريخ عله يعرف من هي, وقد اتسعت عيناه في محجريها تسري في بدنه برودة يد المرأة, والصور تتلاحق في مخيلته..عمن تكون.!!
فتحت فمها اللوزي الزهري.. فجاء صوتها وكأنه من هوة الماضي السحيق .. يخترق أذنيه.. أصابته بنشوة و شعور الرهبة مازال يلازمه..
وبلهجة الملوك سألته وإصبع سبابتها موجه إليه يتوسده خاتم ملكي, نقشت عليه حروفا لم يستطع فك طلاسمها, ولا فهم حروفه الغريبة.. وكأنه ختم!!
- من أي قوم أنت يا رجل؟!!
قال يتملكه شعور بأنه مسحور.. وبدا له صوته وكأنه يخرج من جوفه .. وأن شفتيه لم تتحركا:
- أنا.. عربي!!
قالت والدهشة والغرابة تعلو ملامح وجهها:
- أعرف أنك عربي.. ومن أين تظنني حسبتك؟!!
أجابها, وابتسامة باهتة تعلو فمه:
- حسبتك تظنين أني .. غير ذلك!!
عقدت مابين حاجبيها, وبتعجب سألته:
- وهل هناك غيرهم؟!!
تحسر طويلا, وقد زال البعض من رهبة روحه ويدها لما تزل تمسك يده, قائلا:
- أجل!! هناك غيرنا الكثير..و
شق عنان السماء صوت طائرة حربية اخترقت حاجز الصوت تستخف بما حولها متباهية, مزقت الأفق بأزيزها.. وعلى الإسفلت هدرت جنازير دبابة أميركية تحتل الطريق وتهرس ما أمامها, فاختلطت الأصوات, وضاع صوته, وامرأة الرمل تنظر إلى السماء مرة, وصوب الدبابة أخرى, يتطاير الشرر من عينيها, فأفلتت يده, ثم عادت وتشبثت فيها, وهي تتلفت بحيرة حولها , يتلبسها خوف اجتاح مقلتيها..!
أمسكت وجهه بيديها, تفحصته, ثم أفلتته, وأطلقت صيحة غاضبة قوية
زمجرت السماء على أثرها وأرعدت ببريق نهض من قوة خفية, والغيوم الكثيفة غطت السماء بعباءة أرجوانية, فأعتمت الدنيا, والبرق يضرب بشدة على إسفلت الشارع فيفور, والنيران اشتعلت في السماء لتهوى الطائرة وتصطدم بالأرض محدثة دويا رهيبا, وجسم الدبابة يغطس إلى أسفل..!
أجفل الرجل يهز رأسه مرارا, نظر حوله يبحث عنها, تلفت يمينا وشمالا, وطفق يركض حول التل غير عابئ بما يجري حوله يدفعه جنون ماحق للحاق ملكة الرمل, ويداه تحفران, تدفعان الرمل بقوة, تزيحانه, فاصطدمت يده بحجر طيني, أمسكه ينظر إليه بشغف ملهوف والحروف المكتوبة على اللوح الحجري, تتراقص بغموضها, لا تسعفه, ولم يستطع فهم لغتها ولا فك رموزها, وصدى الصرخة مازال يدوي بجمجمته.
رفع رأسه إلى السماء, صارخا بأعلى صوته يناديها, والحرقة تستعر بفؤاده المأسور فيها, سحرا غامضا.. شجيا..!!
وهناك ..وعلى سماء لم تطو صفحة التاريخ بعد.. لاحت له صورتها المبهرة وهي غاضبة.. على الأفق مرسومة..!
1/7/ 2009