فتاة الصورة
ـ قصة قصيرة ـ
أُف .. تذمرنا مجددا, و نحن نلعب الكرة في الشارع, لما نادتنا من أمام منزلها الصغير, منهك البنيان, تطلب منا دفع سيارتها القديمة, كثيرة العطلات, مبعَجة الجوانب بسبب الاصطدامات الطفيفة التي تحدث غالبا أثناء قيادتها في الليل, رغم أنها تقوم كل فترة بتغيير عدستي نظارتها الطبية, ذات الإطار الرمادي العريض, كان صوت المحرك يأبى أن يطلق هديره العالي إلا قريبا من الشارع العام, فتحيينا بيدها عبر الشباك, و تتركنا نعود مستنزفين القوى حيث كنا, أذهب بعد ذلك لغلق إحدى ضلفتي باب الكراج و مواربة الأخرى, حتى لا تضطر إلى مد ذراعها بعناءٍ شديد إلى الجانب الآخر, و ربما اعتلاء مصد السيارة الأمامي, كما فعلت في إحدى المرات, فيتوارى عن الشارع شباك الصالة, التي تترك أنوارها مضاءة, و تنحجب صورة الفتاة الجميلة, التي يبرز وجهها المرح, الموشح بالبراءة و العنفوان, عن بقية زملائها في حفل التخرج من الكلية, إلى جانب صورتها في فستان العرس الجميل, برفقة رجل في غاية الأناقة, بالإضافة إلى صورٍ أخرى, كنت فيما سبق أظنها لقطاتا من أحد أفلام الأسود و الأبيض, موزعة على جدران حائلة اللون, تحوط أثاثا قديما, تتوسطه الزهريات و عدد من التحف الفنية رفيعة المستوى, بين فترة و أخرى تختفي إحداها, أو إحدى اللوحات الزيتية شديدة الإتقان و الجمال, من الصالة أو غرفة الضيوف, التي تكاد لا تفتح, كلما زارها جارنا, تاجر الأنتيكات و التحف .. كثيرا ما كانت تختلف و تتعارك معه, فتأتينا مستشيطة غضبا من جشعه, و استمراره في بخس ثمن ما يشتريه منها, ثم تقسم ألا تسمح له بدخول دارها ثانيةً, و لكنها في كل مرة تعود إلى التعامل معه, و من ثم العراك و إلقاء التهم من جديد, بل إنها اتهمته ذات مرة بأنه عميل للمخابرات, يحاول تقصي ما يخصها من أخبار, لا ينجح في معرفتها أولئك الشباب, الرفاق الصغار, كما كانت تتندر عليهم, الذين اعتادوا طرق بابها بين فترة و أخرى, يحملون بين أيديهم استماراتا خاصة, يحاولون تعبئتها بما تمدهم به من معلومات تقليدية عنها و عن زوجها و ولدها, الشاب مشرق الملامح, الذي دبرت له وسيلة هروب إلى الخارج, دون أن تتمكن من اللحاق به كما خططت, حيث يعيش والده منذ ثمانية عشر عاما, و من قبل أن يتم دراسته الجامعية, التي تخللها الكثير من المساءلات و التحقيقات الأمنية, بسبب انتماء والديه القديم لتنظيم سياسي تم القضاء عليه منذ عقود .. أحيانا كانت ترد على أسئلتهم الاستفزازية بذات شراستها المعروفة, و صراخها الساخط على كل شيء, من غير أن تعبأ بمخاطر ذلك عليها, و أحيانا أخرى بالسخرية و الدعابة, بل بسؤالهم عن أحوالهم و مشاكلهم الشخصية, فتكاد تنسيهم ما جاؤوا من أجله, و حدث أن دعت أحدهم, لعل كان فيه بعض الشبه من ولدها المهاجر, لشرب الشاي و تناول الكيك معها في حديقة دارها, التي تمضي ساعاتا في الاعتناء بها, خاصةً بعد تقاعدها, رغم ما ينتاب ظهرها و كل عظام جسدها من آلام, أتت بعد ذلك تحكي لنا, في تعاطفٍ كبير, ما أفضى لها من شكوى عن حياته, قليلة الموارد, و متطلبات زوجته التي تكاد لا تنتهي, إلا أنها بعد قليل راحت تكيل الشتائم له و لرفاقه, دون أن تنسى مسؤوليهم, تتوعد من يأتي إليها في المرة القادمة بالطرد, بل الضرب أيضا, و كنا نعرف أنها قادرة على فعل ذلك, فما من شيء باستطاعته ثني تلك المرأة, التي اعتركت الحياة و سجنت أكثر من مرة في شبابها, عما تعتزم أن تفاجئ به الجميع خلال إحدى نوبات عصبيتها, التي يحاول الجميع النأي عنها قدر الإمكان, بمن فيهم أمي, أقرب واحدة إليها في الشارع, فلم تسلم من فورات الغضب تلك, و دون أن يكون لها سببا محددا في الغالب, فتبدأ فترة خصام, تنهيها بعد عدة أيام بدخولها من باب المطبخ الخارجي, تطلب منها إعداد القهوة, من غير أن تغليها كثيرا كعادتها, تجلس و تدخن سيجارة, ثم تشرع في أحاديثٍ لا تنقطع, اعتدت الإصغاء إليها طويلا, أتركها تأخذني إلى زمنٍ بعيد, يسبق سنة ولادتي بعقود, يبهرني بحكاياتٍ تشبه إلى حد ما قصص المغامرات التي كنت لا أمل من قراءتها في فترة من الفترات .. كنت ألاحقها من موضوعٍ لآخر, يكشف لي المزيد عن الحياة الشاسعة, المأخوذة بجرأة التمرد لتلك المرأة جادة الملامح, مجعَدة الشعر المصبوغ بحمرة خفيفة, تتناوش التجاعيد وجهها و رقبتها, و يزحف النمش على يديها, فيما تتملك صوتها بحة إفراطها في التدخين, خاصةً عندما تطوق وحدتها ساعات الليل الطويلة, حيث ترتحل روحها بين أجواء أحدى السمفونيات التي تدأب على سماعها, بينما تجلس أمام التلفاز, مكتوم الصوت دوما, و تقرأ في أحد كتبها المرصوصة, بأوراقها الصفراء, في مكتبة كبيرة تصل حتى السقف, رحت أستعير منها كتابا تلو الآخر, رغم توجس والديّ, كما كنا نتشارك أحيانا النظر إلى تلك الصور القديمة, أحثها على محادثتي عن تواريخ السنين و الأماكن التي ألتقطت فيها, أتمعن طويلا, بشيءٍ من الانبهار, بصورة تتوسط فيها رفيقاتها القدامى, كفراشةٍ جميلة, بين الأسوار العالية لأحد المعتقلات, و لم تكن تكبرني سوى ببضعة سنوات, عندها كنت ألمح في عينيها غربةً عميقة, تحاول مداراتها دوما, و لكنها أمست كجرحٍ مفتوح ما إن احتوى صخبها مرضُ ألزمها الفراش بسرعةٍ مباغتة, عندئذٍ اكتظ ذلك البيت الصامت بكل سكان الشارع تقريبا, حتى الذين طال حصار خصوماتها لهم, متناسين ضيقهم من تدخلاتها المستمرة في شؤون حياتهم, و مشاكل أولادهم, الذين صاروا يلجؤون إليها باستمرار, كما حصل لدى معارضة أبي زواج أختي الكبرى من زميلٍ لها في الكلية, حتى أجبرته في النهاية إلى الرضوخ لتوهج دفاعها عن حبهما, كما لو كانت هي من سوف يتم خطبتها, و تنتظر بدء حياة جديدة, أحلامها المغردة تخفي كل ما قد يعتريها من نقصان, و إن كنت أظن أن أكثر ما كبَل لسانه أمامها ثقل الدين الذي حمَلَته إياه, رغما عنه, عندما أخضع لعملية جراحية لا تحتمل أي تأجيل, باعت من أجلها ثرية الكريستال الكبيرة التي كانت تتوسط سقف غرفة الضيوف, منذ جلبتها و زوجها من موسكو, حيث أقاما عدة سنوات, و عندما قرر بيع السيارة من أجل إيفاء الدين, وجدها تجابهه بعاصفةٍ جديدة من جبروتها, لم ينجُ منها إلا بعد رفعه الراية البيضاء أمامها ..
كان الخيال كثيرا ما يسوقني نحو تلك الفتاة, أسيرة الصورة, قبل أن يغالبني النوم على الكنبة المواجهة, فيما كانت أمي تنام إلى جانبها على الفراش, حتى تستيقظ على صوت المنبه لتناولَها الدواء, و لكنها أقسمت بعد أيام ألا شأن لها مستقبلا بتلك المرأة العنيدة, المكابرة, بعد أن وجدناها, فور استيقاظنا, تجلس في المطبخ, منكوشة الشعر, منتفخة العينين, ترشف القهوة و تدخن بشراهة, و قد تناولت فطورها الدسم, تعاودها العصبية الحادة على الوصاية الثقيلة التي يود الجميع فرضها عليها في نهاية عمرٍ طويل من التمرد و الانتفاض على كل ما حولها ..
لم نلبث أن هرعنا نحو الشارع بعد أقل من ساعة, لدى سماعنا صوت صياحها و تشاجرها مع حسين, حارس البيت الذي هاجر أصحابه قبل سنوات إلى الخارج, و أكثر المترددين, بأسئلتهم السخيفة, على بابها فظاظة, عبر طريقة كلامه المتعالية, مناديا إياها بإسمها المجرد في بعض الأحيان, و نظرات متبجحة اعتاد تصويبها نحو الجميع, و لا سيما الفتيات, خاصةً عند ارتدائه الزي العسكري, أو حمله رشاشته, و توجهه, منتفخ الأوداج, إلى مقر الفرقة الحزبية, التي يزودها دوما بما يكتبه من تقارير سرية, مفضوحة لدى الجميع .. كانت قطرات الماء تتصبب من شعره الخفيف, المتلامع بفعل الدهان المثبت, و جبهته العريضة الكالحة, و قسمات وجهه الحادة, و شاربه الكث, و قميصه الملتصق على جسده الممتلئ, فيما كان يتهمها بعصبية بأنها أخذت توجه خرطوم الماء صوب رأسه عن عمد, بعد تأكدها من هويته, باستراقها النظر عبر الباب الموارب, و لكنها أصرت على الإنكار بعنادٍ, يجنح غضبه نحو سخريتها من مظهره, مما دفعه أخيرا إلى وصفها و عائلتها بالعملاء, خونة الوطن ..
صفعتها المدَوية على صدغه وسط الشارع, و تهجمها العنيف عليه ( و على .. و على .. ) كانا آخر ما صدر عنها قبل أن يجرجر ساقيه, متقهقرا أمام العيون متشفية النظرات في وجل, و الشفاه المتيبسة, و قسمات الوجوه التي تحولت إلى ما يشبه الصفحات البيضاء .. لم تنظر نحو أحد قبل أن تصفق وراءها الباب, دون أن ترضى فتحه أبدا, رغم إلحاح طرقات أمي القلقة, أجابتها أخيرا بحشرجة صوتها المستنزف من خلفه, تطلب منها العودة بإصرار طفلٍ عنيد, لا سبيل من محايلته, أو حتى الصراخ عليه, يئست أخيرا, و ابتعدت عن بابها الذي ظل موصودا بعد إلقاء القبض عليها, حافية القدمين, و بجلباب نومها, قبيل صلاة فجر اليوم التالي, كما همس جارنا الحاج سعدون في أذن أبي ..
لم تنل حريتها سوى يوم احتلال بغداد, كما أخبرتني أمي عبر الهاتف, بصوتٍ مخنوق العبرات, حيث أمست تتولى رعايتها, كما لو كانت فتاةً صغيرة, منعزلة, لا تقوى على فعل شيء بمفردها, عيناها تحيطهما الغضون, تذرفان الأسئلة الملبدة بصمت الدموع ..
و كأن عقودا باتت تحجبني عن يوم سفري, و ساعات وقوفي الحزينة أمام باب دارها المهجورة, و وجه الفتاة المتألق عنفوانا يلوح أمامي, و أنا أرقب ابتعادها عني, الخالة منيرة, أم علاء كما يسميها الكبار, و مَنوُرة كما كنت أسمع أمي تناديها أحيانا, عندما تكونان بمفردهما, مقوَسة الظهر, بشعرٍ أشبه بتراكم ندف الثلج, يعينها إبنها و حفيدها, الصبي الأشقر الجميل, على السير في خطىً بطيئة نحو صالة المغادرين في مطار الملكة علياء, حيث كنت أوَدع أحد أصدقائي, ممن كانوا يشاركونني دفع سيارتها نحو الشارع العام, تستعد لللحاق بغربة زوجها الطويلة, كما قالت بصوتٍ منكسر جزِع, غير أن الانفعال القديم أخذ يعاود نبراته, ممتزجا بشيءٍ من سخريتها المعهودة, لما جنحت ذاكرتها, التي استغربت ملامحي للوهلة الأولى, نحو حسين المسؤول الكبير في أحد الأحزاب السياسية ـ الديمقراطية ـ البارزة, المالك الجديد للدار الذي كان يتولى حراسته فيما مضى, و رجال حمايته الخاصة, ذوي اللحى الطويلة و النظرات المتبجحة, الذين أمسوا يغلقون شارعنا القديم من كلا الجانبين ...
.....................................
8 ـ 3 ـ 2008