قراءة في ديوان «من سرق القمر؟» لمصطفى النجّار(*)
بقلم: د. حسين علي محمد
...........................
(1)
مصطفى النجار الشاعر السوري الشاب ، واحد من الجيل الذي أفرخته النكسة المريرة التي واجهتها أمتنا ذات المئة مليون أمام مليوني إسرائيلي عام 1967م.
صحيحٌ أنه نشر ديواناً من الشعر المنثور عام 1962 بعنوان "شحارير بيضاء" كان يُغرِّد فيه كالطيور، ولكنه في الفترة السابقة على النكسة كان يبحث عن طريقه وعن ذاته. وهوى سكين الهزيمة والنكسة على الأعناق الغضَّة فأسال دماءً كثيرة، البعض هوى قتيلاً، والبعض أخذ يُضمِّدُ جراحه النازفة، ويستعدُّ للمقاومة.
وكان شاعرنا مصطفى النجار واحداً من الذين ضمدوا جراحهم وقاوموا، وكانت "أسئلة سفر ما" التي كتبها عام 1967م واحدةً من قصائد المقاومة والإصرار على الصمود:
أقف الغروب مُشيِّعاً
زمناً تضرَّجَ بالسَّوادْ
وبداخلي صرخ الحدادْ
فلِمَ الظَّما ؟
حرقتْْ حرارتُهُ اللهاةْ ؟
ولِمَ الحُواةْ ؟
هل تكونُ النكسةُ نهاية المطاف؟ وهل يفقد شعبنا العريق حضارته ذات الآلاف السبعة من الأعوام وتراثه الحضاري العظيم بهُداته ومصلحيه وقادته؟ وإلى أين ينتهي المطاف؟
أتموتُ في الشَّجنِ الحياةْ ؟
وتضيعُ أسئلةُ الهُداةْ ؟
كانت الهزيمة مروِّعة، ولكنها لم تقتُل فينا الأمل، فـ ..
الخُبزُ في زماننا القتالْ
الحبُّ في زماننا مُحالْ
(2)
لم تذبل الزهور أبداً في أرضنا الطيبة المعطاء، وظل الشاعر واحداً من هذه الكتيبة المجاهدة التي ترفض اليأس لأنها مؤمنة بربها ، وتثق في قُدرة وطنها على النهوض ، وقدرتها الذاتية على الحركة ومُجابهة أسراب اليأس ووساوس النفس..لأن الغاية شريفة:
لأنني أُريدُها الأشياءْ
نقيَّةً بيضاءْ
بسيطةً كالحب
كزُرقةِ السَّماءْ !
لأنني أُريدْ أنْ أسيرْ
أُريدُ أنْ أكونْ
وتستمرُّ الرحلةُ المباركة حتى يُعيدَ الإنسان العربي المسلم في تشرين(أكتوبر) وجهه المشرق، وينزع القناع، وتتحقَّق نبوءةُ الشاعر التي أطلقها عام 1972م في قصيدة "الزرافة والإنسان الآتي"، في قوله:
فلسْتُ لسْتُ طًحلُباً جبانْ
ولاعِناً مسيرةَ الإنسانْ
فغايتي:
المجْدُ للإنسانْ
والموْتُ للغيلانْ
وهاأنا مُزوَّدٌ بالوعْدِ والإشارهْ
وهاأنا في رحلةِ الحضارهْ !
ويكون نصر تشرين ، ويكون "الخروج من كهف الرماد" حيث أوقعتنا الهزيمة السوداء ! وتعود الأشياء إلى ناموسها وكل في فلكه يدور ، فهل ذهب خوف الشاعر الذي سطَّرهُ في مرحلة الهزيمة ؟
أخافُ أنْ تضيع
وتلعنُ الخطوطُ منْ كَتَبْ
وتلعنُ الدروبُ منْ خطاها
ويُنكرُ الجنينُ والديْهْ
ويُنكرُ الآتي الذي ذَهَبْ
ومن أجل ألاَّ يحدث هذا حارب الجندي العربي، وانتصر، ورأينا شاعرنا يحب وطنه حباً خالصاً، ويظل عاشقاً لوطنه الحبيب مُغنيا.
(3)
ثمة سؤال يدور في ذهني :
إلى أين يسير الشاعر بعد تشرين؟ وما هي الرؤيا التي يطرحها هذا الديوان ؟
إن الشاعر في قصائده التي كتبها بعد تشرين ما يزال أسير دمعه وحزنه وخوفه "يُكفكفُ دمع الغزال " ـ وهذا تعبيره ـ ولكن على أي شيء يخاف؟ ومِمَّ؟
إنه يخاف على الإنسان، فشاعرنا إنسان بسيط، ويكتب الشعر حتى يحقق إنسانية الإنسان، وياله من هدف عالٍ للشعر حاول طوال مسيرته الإنسانية الحضارية أن يُحققه!
إن جفَّ تيَّارُ المُحيط
وتاه رُوَّادُ القمرْ
وعُطِّلتْ عن المسيرْ
كُلُّ قطارات السَّفرْ
أهْوَنُ عندي بكثيرْ
منْ جرحِ إنسانِ بسيطْ
ويخافُ شاعرنا من الحضارة الأخطبوطية ، التي تلاشى فيها الإنسان وأصبحَ كمًّـا مهملا، وهو الذي صنعها، يخاف من قوى الشر في العالم التي يرمُزُ لها بـ "ميدوزا" ، ( و"ميدوزا" في الأسطورةِ مخلوقةٌ كريهةُ المنظر،من ينظر في وجهها يتحوَّلُ إلى حجر بفعل السحر). يخاطب الشاعر قوى الشر أو هذه الحضارة المجرمة في شخص "ميدوزا":
تلعنين السَّنا
تشربين الندى من عيونِ النَّهارْ
تأكلين الثمارْ
وكلَّ الجنى
وخُبز الفقير ،حليبَ الصغارْ
تذبحينَ الأغاني كذبْحِ الحمامْ !
إن هذه الحضارة الأنيقة ـ كما يُسميها الشاعر ـ هي التي سرقت القمر من زماننا وجعلتنا لا نشعر به.
وتنتهي صفحات الديوان على مصرع الباحث عن الحب والصفاء والطهر في زماننا.
(4)
بقي شيء نقوله في فنية هذا الديوان، وهي لجوء الشاعر إلى الصور البكر التي لم يفترسها شاعر من قبل، يقول:
حاملاً من جراحي سلاحاً جديدا
لمْ نر من قبل شاعراً يحملُ جراحه سلاحاً، يجاهد ويقاوم به الأعداء.
ويقول:
وها أنا في رحلة الحضارهْ
مخزَّنٌ بالحبِّ والمرارهْ !
كان يمكنه أن يقول " محمَّلٌ بالحب والمرارة"، ولكن كلمة "محمل" تفيد الحمل الطارئ، بينما كلمة " مُخزَّن" تعني أن المرارة قديمة في النفس، وكذلك الحب.
وبالإضافة إلى التعبيرات البكر نرى بساطة الصور ، وتلقائيتها حتى إننا لنُحس أننا أمام كلام منثور، وليس شعراً؛ يقول في قصيدة "من سرق القمر":
تصارخوا: أتسألُ الجموعُ منْ رأى القمرْ ؟
لأنتَ أرنبٌ يدورْ
لأنتَ ثعلبٌ خطيرْ
أنت سارقُ القمرْ
وفي قصيدة "الفراشة والسور":
وكيف أقولُ كلاماً يُقالُ حزينْ ؟
أهرولُ مثلَ صغارِ الأوزِّ النحيلْ
وأزرعُ بالوردِ قبر الأحبة
شيءُ واحدٌ آخذه على مصطفى النجار هو "التكرار"؛ الذي يلجأ إليه في بعض قصائده، ولعل هذه الخاصية قد تسربت إلى شعره من عمله مدرساً بالمرحلة الأولى؛ عليه أن يكرر الكلمة أحياناً أكثر من مرة حتى يفهم تلاميذُه الصغار.
وبعد ؛
فمصطفى النجار شاعر من أفضل شعراء جيلنا، وضع قدمه على الدرب ، وأمسك بجمرة الشعر، وكتب لنا شعرً جميلاً مؤثراً معبراً عن أزمة الإنسان المعاصر، وما أندر الشعراء في زماننا البخيل!
.......................
(*) نشر في صحيفة "الوطن" العُمانية ، في29/9/1980. وفي مجلة "الثقافة" ، العدد(106)، يوليو 1982م.