التعري أمام ذبالة متآمرة
لم تفلح سهام الضوء المخترقة ظلال غرفته من إيقاظه قبل الظهيرة ,غطى وجهه بخرقة تلحف بها كلما كسرت إغفاءته الأنوار الرافضة لاستسلامه للنوم .
ازداد غضب الشمس ملكة الحياة منه . لأنه أحد المخلوقات التي منحتها بعضا منها زادت أشعتها بنسق لا يؤذي هذا المتخلف عن دولاب الحياة وجذوة النهار المشتغل من ساعات الفجر الأولى . تكور على نفسه ثانياً قدميه إلى بطنه كمحارة ترفض الخروج من عالمها خوفاً من الأسماك القاضمة ، وفضل السكون في قعر محيطه على شرف مجازفة الغوص في بحر لا يعرف متى يبعثر الأشياء ويقذف بها عارية تحت أقدام البشر .
رمادي هذا البحر .... مزج بين نصاعة الشمس أم الحياة وبين رماد النار المتأجج في القلوب منذ بدء الخليقة ...... كان له بداية وملايين النهايات أعطانا أولية البدء وأخذ منا الحق في النهاية .
إيه يا بحر :
كم احتضنت في أعماق قواقعك درر خبأتها عن جيد الحسان ..... اعتقد أن خلفك تختبئ الحكايات التي تعرت على أهداب شطآنك ولكنك تجمعها حكايا وأساطير لتودعها أعماقك السحيقة فيدفع كل من أراد الحقيقة ثمناً يتناسب وحجم ما يحصل عليه من أعماقك
- أثقلت عليك بحديثي .
- لا
- ولكني أسمع (صكصكة ) بدأت تعلو عندما ترتطم أهداب أمواجك بالصخور .
- لا عليك فأنا اعتدت على ذلك .
- إيه يا بحر اعتقد أن في أعماقك لؤلؤة لم يصل إلى محارتها سندباد ...... ولعل صديقي المتكور في قوقعة لحافه المهترىء يحاول أن يسبرك في فظاءات الأحلام . فتمردت على نداءات الشمس التي أيقظت كل الديكة القابعة على أقنانها لتصبح صيحة ملائكية " إن هذا يوم جديد لتفتح الدنيا أبوبها للورود القادمة كل صباح من دياجير التراب "
لكنه يحاول صم أذنيه أمام كل الاشراقات ونداءات الطبيعة " أن سيروا في مناكبها "
علّ البحر يمن عليه بعروس نصفها من نور والآخر من ماء .
ونسي هذا الشرنقة المتضخمة المتقوقع بلحاف مهترىء أن عرائس البحر لا تأتي إلى الغرف المهترئة الأبواب والنوافذ , جن جنون الشمس من هذه الشرنقة المتمردة فصيت على الأرض ما يطبخ الأدمغة ولفحت خشيبات الباب بالسنة الهواء الساخن .
- فتحولت غرفة قوقعتي إلى فرن يبتز الأجساد وتكامل مع رائحة التبغ المعتق من الليلة السابقة لخنقي فأصبت بالدوار بعدما تلاشت البرودة وعلت الرطوبة في غرفتي أغلقت نافذتها الوحيدة وأوصدت بابها أمام نور الشمس , ولولا تلوي الشرنقة المتضخمة قبيل الظهر لساورني الشك بأنها اختنقت لتلقى حتفها الذي تحاول أن تفر منه بسبات اعتقدَت انه يوقف الزمن
- فغدت كجدتي التي أغمضت عيناها لتوقف القطار الذي سيقل جدي الذي سيقل جدي إلى اسطنبول للالتحاق بالجيش العثماني ولكن سافر القطار وجدي أما جدتي فتوقفت عيناها عن الإبصار حتى عاد المسافر بعد عشرة أعوام .
- فهل سيبقى هذا المتشرنق عشرة أعوام قادمة معتقداً أنه أوقف عجلة الزمن التي لا تتوقف حتى في إسطنبول .
إنه في ظلمة قوقعته المهترئة مقتنع أنه في بحر لجي لا نهاية له وكذب كل الاشراقات القادمة من بعيد وسبر البحر وحجب عن أنفه نسيم الصباح القادم جبال .
هاهو يشوى فرن الغرفة ويرسم في عتمة عروس البحر وينتظر على صهوة فراشه الدر المكنون الذي قد يأتيه ذات ليل, دون أن يدرك أن البحر لا يخمر عبابه على صهوات الفراش الرطب وأن اللحاف المهترىء لا يقوى أن يكون قوقعة ، وسينهار أمام زحف البرد وسهام الحرارة لتهزم الشرنقة المتضخمة , ومدعيةً النكبة أو النكسة وسينهار كما انهارت الجموع في " حرب الستة " .
- لعل صديقي كما جدتي أغمض عينيه لا يريد أن يرى الانكسار أمام الانكسار ؟ ينتظر عودة " صلاح الدين " أو " نبوخذ نصر " فصنع قلعة عكا من خيوط واهية لترد جيوش الاسكندر الفاتح للشرق .
لكن عكا أوقفت مد البحر على أعتابها وأشعرته بالعجز , كسَّرت أمواجه تحت أقدام صخرها وكانت أوسع فضاءات العتم وارتفعت منارة تجذب فراش البحر الطامع في نارها وكانت ترسل فرسانها لغزو البحر كل صباح على مراكبها وليس على صهوة الفراش الرطب ليعودوا بغنائم اقتلعوها من أضراس الأمواج العاتية .
عكا لم تبتلع البحر ولكنه لم يجرؤ أيضاً على ابتلاعها فوقفت منذ بكارة التاريخ عروساً من نور وملاكاً من ضياء .
استشاط الرمل بلهيب الشمس الغاضبة فحملت الريح رسائل غضب ونثرتها في الفضاء لتزيد من عشوائية الأشياء وليضاف الرمل إلى جيش الحرارة والتبغ الخانقة .
علاقات مبهمة من الرمل وكلاً والبحر والحرارة المطرودة من مولد البحر الذي يهديه قيعاناً ذات فضاءات سرمدية ، ومن سرمدية عتمة الأزهار كلما أفاقت شمس الصباح " وعلى الرمل نار تلظى " فيه شفافية الماء وهشاشة الزجاج وفيه حياة الأزهار وفي كنايته أمواج البحر لعله دائرة بدايتها الحياة وله ملايين النهايات التي تقل رأسي كلما حاولت الإبحار في عباب أيٍ منها .
لعله بحر بثوب جديد له اشراقاته التي تموت في النهايات الضبابية التي تخيفني بالدوار لأعود خائباً من جديد أترنح بين صلابة الصخر وميوعة الماء .
- ارتد إلى ذاتي (( دنكي شوت )) لم أظفر بما أرنو إليه ليجبرني انكساري وتشظي أحلامي تحت أقدام نسبيني لاكتشف في أحد البحور الدفيئة التي تلملم أشلاءها المبعثرة لأنسجها أهداباً تخادع رمل البحر وتجعل منه سنابل تدك القلاع الشاطئية الشامتة من أشلائي ألوف المرات ويعود البصر إلى عيني التين توقفتا عن الأبصار منذ حدقت بهذا المتشرنق اللعين الذي أوقف دولاب الزمن " قبل اسطنبول " – ومن جديد الملم شظايا ما تبقى من أشلائي بعدما أنهكت جيوش الموت المغتصبة لغرفتنا المهترئة لتحولها من منارة تثقب ثوب العتم بذبابة تؤنس وحدة البحر وشرناقته الرابضة في السكون ، " لتعلم أنه ما زال في السكون لتعلم أنه ما زال في هذه الآفاق بقايا حياة " .
إيه يا ذبالتنا أعرف أنك تنتظرين سبات الشمس في النهايات الرمادية للبحر فكم كنت سعيدة عندما توهجت وجنتاك فرحاً بانكسار " ملكة الحياة " وكم تكونين بشوق لرؤية وجهها المسفوح في الغرب ينثر ارجوانا في الأفق وشفقاً يعري الجبروت المنهار نهاية كل يوم فلا يجد ما يستر سوئته إلا الأفق البعيد خلف البحر ليتوارى عن أنظار العشاق المتربصة على الرمال اللاجئة من مذبح الشمس.
تستفزني ضحكاتك الصفراء المتقاطعة من زغاريد الخفافيش الليلية وعواءات ابن آوى والكواسر الغادرة ليكشف البحر سوءاتكم حتى في جنح الليل وسرمدية الخوف المتجذر في أغوار كل القواقع الرابضة في الأعماق .
كسوءة هذه الشرنقة التي تطل بعريها من ثقوب لحافها المهترىء فصارت قبلة للبعوض المتربص وفرصة سانحة للهجوم تحت أنوارك الشاحبة التي أرسلت بطاقات دعوة مفتوحة أن حان وقت الهجوم .
- تجبرين عيناي على الإبصار وتتضخم سوائة شرنقتي الساكنة من النكبة الأولى قبل حرب الأيام الستة بعشرين عاماً .
كم أتت متناقضة مع ذاتك أيتها الصفراء المصطنعة؟ وكم أنت جاحدة لمن منحك حياة كل مساء؟لتهديه عرياً وتضخما في سوئته التي يحاول إخفائها ببعض القشور المختلف على تسميتها وقدرتها على صد الغارات الحاقدة الكاشفة لمثالبنا الدفينة في قلوبنا ؟ وتآمرت مع ذلك البحر وأرسلت فأرسلت له أخبار عرينا ورماد القلوب فيلوح لك كل نهار أن وصلت الرسالة وأنني لا بد قادم لأنهي مهزلة العري في الغرفة المظلمة .
أشعر بضعفي ووهني عندما تتوقف عجلتي أمام جذوة لم أشعلها وأدرك أن دولاب الزمن قد أكله الصدأ ليتوقف قطاري مرات ومرات قبل أن يصل إلى اسطنبول , فأيقنت أن جدتي أوقفت من القطار عجلتها , وأن الشرنقة المتقوقعة بلحاف مهترىء أوقفت عجلتها قبيل أيام الستة بعشرين عاماً ,فجمدت الدم في عروقها ولم تفلح كل السنة اللهب من تذويب الدماء المتجمدة المرتعبة من الانسكاب يوماً في الانكسارات . بدأت أحس بالبروة تزحف إلى قدمي رغم حرارة القيظ فأيقنت أنني في طريقي إلى حتفي بسبب هذه القوقعة اللعينة وقبل أن يجهز عليّ بردها انتفضت فاتحاً بابنا المهترئ لأستحم بنور الشمس طارداّ من أقدمي ما تسلل من موت الشرنقة .