خرج من عيادته متأخراً لكثرة المراجعين, فهو الجراح الوحيد في المنطقة الذي لم يهاجْر, ولم يرضخ لتهديدات المهددين له.. مد يده نحو باب سيارته ليفتحها,مؤملا نفسه بالعودة إلى بيته وزوجته ووالديه.. أحس بجسم صلب بارد يلمس مؤخرة رقبته, فشعر بقشعريرة تعتري جسده وخوف من نوع غريب يداهمه.. أمرا يتوقع حدوثه.. لكن ليس اليوم ولا بهذه اللحظة.. تسمرت يداه, وتصلب جسده كقطعة خشب, واتسعت حدقتا عينيه على وسعيهما, تحجرت كل أفكاره, وتبلد ذهنه فلم يعد يفكر بشيء, وكإن الزمن قد توقف , وتوقف معه كل شيء, سوى من نبضات قلبه المتلاحقةِ.. وأنفاسهِ التي يعلو ويهبط بها صدره, بسرعة وشدة عالية.. أفاق من ذهوله على صوت صدر من خلف أذنه , ينطق الكلمات بحقد متعمد.. يقول بصوت أجش:
- قف ,لا تتحرك وإلا أرديتك ,حركة واحدة وسأضغط على الزناد.. لأجعل من مخك نثارا .
تجمدت يده التي كان يهمُ فتح باب سيارته فيها,و تسمر بمكانه, وكأن على رأسه الطير, ويده ما تزال تمسك بمفتاح باب السيارة.. تساءل.. بصوت مستسلم لقدره.. غير خانع أو متخاذل:
- نعم, لن أفعل, ولكن هل بإمكاني سحب يدي من باب السيارة, فقط.
لكزه صاحب الصوت الحاقد بالمسدس,وبتهكم واضح,قال له:
- هيا إفعل لكن دون أن تقوم بحركة واحدة أخرى, أنزل يدك فقط, لأراها.
سحب يده وأنزلها, وعيناه تحاولان استيعاب ما تريانه, وظل غشاوة رمادية تحيط فيهما.. رأى أربعة رجال يحيطونه من كل جانب, مدججين بالأسلحة, ملثمين, يخفون ملامحهم, بأقنعة سوداء , لا تظهر منهم سوى أعينهم, المليئة بالحقد والضغينة, وقسوة سمع الكثير عنها, من قصص الذين اختطفوا واغتيلوا قبله.. رفرف قلبه بين جنبيه بهلعٍ, وهو يتذكر قصص العذاب التي قاساها الناجين بإعجوبة من زنازين الموت وآثار (( التثقيب)) بأجسادهم بآلة ثقب الجدران.. تشهد على حجم وحشية وبربرية, وحوش وذئاب بشرية, لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلا.. تعثر لسانه بالكثير من آيات القرآن وهو يرددها, لفرط توتر أعصابه, تخدر جسده, شعر بجيوش من النمل تغزوا جسمه, وإن نهايته قد اقتربت.. فغمره إحساس بأنه سيغمى عليه, وبالكاد استطاع أن يقول بصوت حاول جاهدا أن يبدو هادئا متماسكا.. وعينيه تتفرسان المكان حوله.. لعله يجد من يعينه أو ينقذه:
- هل بإمكاني أن أعرف ماذا تريدون!! ..؟
بصوته الكريه الأجش رد قائدهم :
- صهْ , ولا حرْف , ولا كلمْه.
ثم ضربه بأخمص المسدس على أم رأسه ليفقده, الوعي, فسقط على الأرض بقوةٍ, لم يفقد الوعي, لكن جسده لم يستطع الإتيان بحركة واحدة, ولم يستطع حتى التأوه.. تطوع اثنان من الملثمين بسحبه من كلتا يديه, وتوجها بهِ إلى سيارة سوداء مظللة, بعد أن عصبوا عينيه برباطٍ أسودٍ.. أحدث حذائه على الإسفلتِ أثر خطوطٍ متعرجة وهما يسحبانه.. وكأنهما يسوقان ذبيحة إلى المذبح.. أوجعه بحرقة, احتكاك ركبتيه بإسفلت الشارع الخشن, لكنه فضل أن يبقى محتملا الألم على أن يبوح ,ارتعب قلبه حين اقتربوا من السيارة, بلحظات الرعب تلك, تذكر والدته وهي تنتظره بكل ذاك الخوف الذي يملأ عينيها ودموعها, كلما تأخر بالعودة ولو قليلا, من شوارع يسكنها الموت, ووحوش تلتهب رغبة للقتل والتعذيب, وسلخ جلود بني البشر, بلذة الحقد والضغينة المتأصلة, تذكر زوجته الحبيبة وطفليه, وهما يلعبان بشاربيه لعبتهما المفضلة كلما أجلسهما على رجليه, تذكر يدي أبيه وهما تمسكان بكتفه وهو يحثه أن يبقى شامخا, يرفع اسم وطنه عاليا بعلمه, وأن يخدم أبناء بلده دون التفكير بغاية أخرى, تذكر أرواح الناس البسطاء الذين أنقذهم, بمبضعه الفذ, وهو يقوم بواجبه كطبيب جراح , وألسنتهم تلج بالدعاء له, بأن يحفظه الله ويبعد عنه كل مكروه, ناجى الله بينه وبين نفسه.. ساعدني إلهي.. هنا أحس بأن حواسه كلها قد عادت إليه, وإن شيئا ما يحثه, على النهوض, فنهض, واقفا على قدميه.. ومشى.. فتح أحدهم باب السيارة المظللة, وحاول آخر دفعه إليها, بهذه اللحظة, دوى صوت اطلاقات نارية كثيف من حوله, جعله يخفض رأسه بحركة عفوية لا إراديه, دون أن يعرف من أطلق النار على من, أو لماذا !؟
صار الصخب شديدا حوله, وعم الشارع الهرج والمرج, والصرخات تملأ المكان رعبا.. انبطح على الأرض دون أن يعارضه أحد.. وصوت الطلقات النارية تصدر من قربه وحوله, تدوي برأسه وتصم أذنيه.. سقط جسد أحدهم فوقه.. فأحس بالهلع يعتريه.. لكنه لم يبدي حراكا, غطت الدماء وجهه وجسده, وثقل الجسد الجاثم على ظهره.. أثقل عليه أنفاسه.. حتى لم يعد يطيق السكون.. فانتفض.. دفع الجثة بكل ما أوتي من قوة, ونهض واقفا, توقف إطلاق النار بلحظة وقوفه, أحس باقتراب أحدهم منه, عاوده الخوف مجددا.. انتزع العصابة السوداء من عينيه بعجلة.. ليجد نفسه أمام رجل يحمل غدارة سوداء.. وأربعة آخرين مدججين بالسلاح يحيطون فيه من كل جانب.. صعق لمرآهم, غزاهُ الشعور بالغبن.. أحس بالغضب يكتسح كيانه.. والحنق الشديد يملأ صدره.. مزق قميصه المغطى بالدم يعرض صدره أمام الرجال يتحداهم.. ثم صرخ بصوت هادرٍ يعلن العصيان:
- هيا.. اقتلوني.. ماذا تنتظرون !؟ لقد سئمت هذه اللعبة القذرة.
نظر الرجل إليه.. وظل ابتسامة تعلو محياه الرزينة.. وهو يقول له:
- المعذرة.. دكتور.. جئتك ورفاقي منقذين.. لسنا قتلة أو مجرمين.. حمدا لله على سلامتك.