رسائل الطاحونة
Lettres de mon moulin
Alphonse Daudet
(۱)


للكاتب: ألفونس دوديه
عربها: فيصل الملوحي
ألفونس دوديه

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة:




ولد ألفونس دوديه (Alphonse Daudet)في مدينة (نيم) الفرنسيّة عام١٨٤٠م،وألجأه فقر أسرته أن يصبح معلماً في معهد – أليس- وهو شابٌّ صغير ،عاش في (نِيمْ حتى عام ١۸٤٠ ثم في باريس حتى توفي عام ١۸٩٧ م)ارتبط بالمدرسة الطبيعية، وامتزجت في أعماله اللوحات الواقعية للحياةاليومية بالخيال. ألف عدداً من الروايات: (ذلك الشيء الهيّن، عام ١۸٦۸ م ؛تارتاران من كاركاسون عام ١۸٧٢ م؛ سافو، عام ١۸۸٤ م) بالإضافة إلى قصصطويلة وأخرى قصيرة (رسائل من طاحونتي، عام ١۸٦٧ م؛ قصص الاثنين، عام ١۸٧٣.

تمهيد



تعال معي، رافقني في وادي الرون قلب البروفنس( فرنسة الجنوبيّة الغربيّة)، وقد سيّجت ضفّتيه أشجارُ الصنوبــــــــــر والبلوط الأخضر. متّعناظريك بمرأى طاحونة سكنت أجنحتها منذ أكثر من عشرين عاماً حين غادرهاأصحابها, فسامرتها عرائش عنب بريّة، وتطفّلت عليها أعشاب خضراء فمدّتبأيديها حتّى لامست أجنحتها! « ,
تعال معي، وانظر إلى السيّد دوديه وهو يعبّر عن ارتياحه لهذه الطاحونة رغمعجلتها المكسورة، ومصطبتها التي عششت بين أحجارها الحشائش، لماذا، ما سرّهذا الجنون؟!
كلّ ما في الأمر أنّها تستُحضر شيطان شعره. لقد قبل بها رغم كلّ مشكلاتها، و أعفى البائع من كلّ التصليحات التي عليه القيام بهاعادة، و صرّح بأنّه لن يطالبه بأيّ شيء منها.
وضع الشاعر دوديه على المكتب مالاً بالعملة المتداولة محدّداً سعراًللطاحونة، يقارب سعر السوق وقتها، أدهش السيّد ميتيفيو فما كان ليحلم به،فقبل به.
جرى ذلك سريعاً على مرأى من الكاتب بالعدل والشاهدَيْن الموقّّعَيِْن ومسمعهم، ووُثّق البيع كتابة:
«
كُتب صكّ البيع في بامبيريغوست بحضور السيّد فرانسي ماماي النافخبالمزمار و السيّد لويزيه الملقّب بكويك حامل صليب الإخوة الأوّابين. وبعدتلاوة الصكّ قاما بالتوقيع عليه إلى جانب توقيعات المتعاقدَيْن و الكاتببالعدل
.. «

الرسالة الأولى

تجهيز البيت للسكن


انظر ، ألا ترى معي الأرانب والدهشة ترتسم على وجوهها! لقد وقر في نفوسها
منذ أمد غير قريب أنّها لن ترى(جنس) طحّان حين رأت باب الطاحونة يُغلق، وجدرانها ومصطبتها أخفتها الأعشاب، فراق لها أن تحوّل هذا المكان إلى حيّيروده كلّ أفراد جنسها، ومركز لأعمالها الحربيّة: صارت تُدعى: طاحونةأرانب جمّاب ( منطقة فرنسيّة بلجيكيّة الأصل)...
لا تعجبن! فلقد حضر حوالَيْ عشرين أرنباً في تلك الليلة- و جلست على سطحهامشكّلة دائرة، تدفّئ أقدامها بنور القمر!! ما إن فُتِحت الكوّة في السقفحتى تفكّك المعسكر، و وولّت هذه البُنَيّات الأدبار و اختفت مبتعدة فيالدغل.
آه، ما أشدّ شوقي إلى عودتها و التمتّع بمرآها!!
لا تعجبن! فليست الأرانب وحدها التي رسمت الدهشة على وجوهها حين رأتني،فقد دهشت معها دهشة أعجبَ بومة عجوز خبيثة كانت تسكن الطابق الأوّل منالطاحونة منذ أكثر من عشرين عاما، وجدتها في الغرفة العليا متصلّبة بلاحراك، قائمة على شجرة وسط أكوام ممّا سقط من البناء وممّا تكسّر منالبلاط,. حدّقت بي لحظة بعينها المدوّرة، ثمّ بدا لي أنّه روّعها ألاتعرفني، فأخذت تنعق متذمّرة: هو،هو، وتصفّق متألّمة بجناحيها المغبرّتينيا لهمزات الشيطان! إنّها لا تسكت على أمر. فلتفعل ما تريد فهذا لا يضرّنيبشيء، لكنّ ما يُرعب شرر تصوّبه إليّ عيناها، وعبوس يرتسم به وجههاالمكفهرّ. أمّا هذا الساكن الصامت فيعجبني أكثر من الأخرى، ولا مانع لديّأن أُجدّد له عقد الإيجار. إنّه مازال- كما كان يفعل من قبل- يلزم قمّةالطاحونة مع فتحة في السقف يحتاجها، أمّا أنا فسأكتفي بالغرفة الدنيا، وهيغرفة صغيرة منخفضة مبيّضة بالكلس، ذات قُبّة توهمك أنّها قاعة للطعام فيدير.
من هذا المكان أكتب إليك، و بابي مفتوح على مصراعيه تعانقني أشعّة الشمسالناعمة. وتلك ذرى مرتفعات البروفنس الكلسيّة تتراءى في الأفق، و ذاك تلٌّمغطّى من قمّته حتى سفحه بحرش صنوبر بديع، وهو يتألق حين يسقط عليه الضوء. لا ضجّة، ولا صخب، بل هدوء مريح، لا يخرقه من حين إلى حين سوى نغماتمزمار، أو شدو كروان في رياض الخزامى، أو رنين جُرَيْس في عنق بغل علىالطريق.
تلك المناظر ما صارت خلابة تُمتّع الأنظار لولا ضوء ساطع يغمرها.
فكيف تريدني الآن أن آسف على باريسك الصاخبة الكالحة؟! فأنا مرتاح أيّما راحة في الطاحونة! هذا ما كنت أبحث عنه:
ركنٌ طيّب الرائحة دافئ، حيث تنتشر آلاف الأمكنة لقراءة الجرائد. كلّ ماحولي بديع، فما هي إلا ثمانية أيّام منذ أن سكنت، حنى انطبعت مخيّلتيبالأحداث و ملأتها الذكريات..خذ مثلاً – ليس من زمن بعيد ، البارحة مساء- مشاهدتي رواح قطعان الماشية ( رجوعها مساء) إلى المزارع الواقعة أسفلالجبل، أقسم لك: أنا لا أستبدل بهذا المشهد كلّ عروض باريس المسرحيّة فيهذا الأسبوع. أرى أن توازن بين الأمرين!
أقول لك: اعتاد الناس في البروفنس أن يأتوا بماشيَتهم إلى جبال الألب حينترتفع حرارتها. هناك في العلوّ، يُمضي الناس والحيوانات خمسة أشهر أو ستّةفي العراء، حيث الحشائش التي تصل بطولها إلى البطون، فإذا جاء الخريف وارتعشوا رعشة واحدة هبطوا إلى المزارع في سفح الجبل، حيث ينعمون بالتلالالصغيرة الرماديّة بعِطرها ونداها..
عادت قطعان الماشية مساء أمس بعد أن كان كلّ شيء معدّاً لاستقبالها،فالبوابة فتحت منذ الصباح على مصراعيها في انتظارها، والحظائر زُوِّدتبالتبن الطريّ. خلال النهار كانت تتردّد من ساعة إلى أخرى مثل هذهالعبارة: (الآن قطعان الماشية في ايغيير ، الآن قطعان الماشية في بارادو..)، وفجأة سُمِعت صيحة عالية في المساء(ها هي، لقد وصلت)، ومن بعيدرأينا القطيع يقترب ترافقه عجاجة من تراب.
تقدّمت القطيعَ كبرى الأكباش ، و تلتها الخرفان الضخمة، فالأمّات ( أمّهاتالحيوانات) الفتيّة وعند أقدامها صغارها الرضيعة. أمّا البغال فعلى ظهورهاسلال فيها حملان لها من العمر يوم واحد- تأرجحها في سيرها، وفي ذيل القطيعكلاب تتعرّق، و تدلّّت ألسنتها من اللهاث حتّى بلغت الأرض، يرافقها راعيانكبيران لئيمان يلتفّان بمعطفين أصفرين يصلان إلى الأرض فيغطيان أكعابهما.
كلّ هذا يمرّ قبالتنا، عابراً البوّابة فيغمرنا حبورا، فتخيّل ما يقع فيالدار من حياة و حركة! وانظر إلى الطواويس الضخمة بلونها الأخضر الذهبيّجاثمةً في الأوج تتحقّق من القادمين، ثمّ ترحّب بهم بنغمات بوق بديعة، وإلى الدجاج في خمّة وهو ينهض مذعورا من نومه. لقد استعدّ الجميع: الحمائمو البطّ و ديوك الحبش ( الروميّة) ودجاج السند( الغينيّ)،لقد أصاب الخبلكلّ طير في الحقل!.. الدجاجات مثلاً تتهيّأ للسهر ليٍٍلا!.. سوف يزعمونأنّ كلّ خروف حمل في صوفه مع عِطر الألب البريّ بعض هواء الجبال الذي يبعثفي الروح نشوة، ويسكر الجسد فيرقص. وفي خِضمّ كلّ هذا يعود القطيع إلىمأواه، فما أحلى الرجوع إليه!! هاهي الأكباش تسعدها ردّتها إلى مسقطرأسها، والحملان الصغرى التي ولدت في الرحلة و ما كان لها قبل اليوم أنترى المزرعة، تتنقّل بأنظارها مدهوشة بما يحيط به.
أما إذا أحببت أن تتمتّع بالمنظر الأروع، فانظر إلى الكلاب، كلاب الراعيالشجاعة التي تنبّهت بكلّ أحاسيسها للد فاع عن الحيوانات المكلفة بها، وما كانت لترى سواها في كلّ هذه البراري. انظر إلى كلب الحراسة يشير لهاإلى دلو الآبار المشرع بالماء العذب، يدعوها أن ترويَ عطشها ، بيد أنها لاترغب أن ترى شيئاً، و لا أن تسمع بأمر قبل أن تدخل الأنعام، ويُغلقَ البابالصغير ومنافذه بالمزلاج، و يتحلّقَ الرعاة حول الطاولة في القاعة السفلىويشربوا الحساء كلّه، ويرووا لرفاقهم ما فعلوا في الأعلى على الجبلالأرجوانيّ النديّ من ذروته حتى سفوحه، حينئذٍ–فقط- ترضى بالدخول إلىوجارها ( بيت الكلب)،.