المتنبي على مائدة سيف الدولة
كان أمير دولة بني حمدان سيف الدولة ذواقاً للشعر العربي ، وكان يقرب من مجلسه صفوة الشعراء وعلى رأسهم الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ، وكان لسيف الدولة رجال القصر الذين يعتمد عليهم في إدارة حكمه ، وكان يلبسهم ألبسة خاصة كلٌّ حسب مهمته ، فرجال البشارة يرتدون الأبيض ، أما رجال النذارة فلباسهم الأسود ، وقد اعتاد الشاعر أن يأتيه في المساء المبشرون يدعونه إلى حفلة سمر في قصر الخليفة لينشده أجمل شعره ثم يعود بالهدايا والعطايا .
لكن حصل مرة خلاف ذلك ، فماذا حصل ؟
مرَّ موكب سيف الدولة أمام بيت المتنبي وألقى الأمير على الشاعر التحية لكن الأخير كان غارقاً في أحلامه التي لا تنتهي فلم ينتبه على الموكب و بالتالي فلم يردَّ على الأمير تحيَّته ولما رجع الأمير إلى قصره والغضب يتملكه ، أرسل رجال النذارة إلى الشاعر وأمرهم أن يقتادوه إليه في الحال .
ولما مثل المتنبي بين يدي الأمير عاجله قائلاً : ويحك و ويح أمك وأبيك ، بلغت بك الجرأة أن تتجاهلني ولا تردَّ عليَّ السلام ؟
دُهِشَ المتنبي وقال : جُعِلْتُ فداك ، متى حصل ذلك مني ؟
أجابه : قبل قليل .
قال المتنبي في سره : ليس لك إلا الشعر لينقذك ، فارتجل على الفور :
أنا عاتبٌ لِتَعَتُّبِكْ مُتعجبٌ لِتعجبكْ
قد كنتُ حين لقيتني متوجعاً لِتغيُّبكْ
فشُغِلْتُ عن ردِّ السلا م ، وكان شغلي عنكَ بكْ
تبسم سيف الدولة وقال له : بارك الله فيك ، ولا حرمنا من فيك ، ثم ناوله كيساً من الدراهم .
تصنَّع المتنبي العفَّةَ والنزاهة وقال : سيدي ، لم أقل فيك شيئاً أستحق عليه المكافأة ، فقال سيف الدولة : هذا لقاء ما روَّعناك .
وكان قرب سيف الدولة ابن عمه الشاعر أبو فراس ،فقال له : والله إنه لكاذب .
فقال الأمير : والله إنك لصادق ، ولكنني كافأت النبوغ فيه .