((نافذتي والليل ))

على شرفة نافذتها, أوقدت شمعتها, وترنمت بتراتيل سمعت والدتها, تترنم فيها كلما غاب غائب عزيز عليها, أوحت لها وحدتها, وحلكة الليل, أن تكتب ما يجول بخلدها, فكتبت وهي تهمس الكلمات لنفسها.. تطرد وحشة روحها عنها.
- نافذتي والليل, وتراتيل أمي , وقصة لجدتي , روتها لنا ألف مرة, ونحن صغار نجتمع حول نار المدفأة, بليالي الشتاء الباردة, فاغري الأفواه , مشدوهين, نستمع لقصة الفارس الشجاع, الذي عشقته رغما عني, وأنا أتخيل نفسي تلك الحبيبة الحسناء التي يعشقها, وضفائري مازالت جدتي تظفرها لي, بيديها المرتعشتين, مذ سمعتها تحكي لنا قصته, وهو يمتطي صهوة جواده الأرقط , يجوب البراري والوديان, سنين طويلة, يبحث عن خاطفي حبيبته السمراء, يأخذ بثأرها, ويحصد بجرأة وجسارة, رؤوس خاطفي أميرته.. بسيفه.
هالها منظر الرؤوس المقطوعة, وهي تتخيلها تتطاير عن أجسادها , تطير في الهواء ثم تتدحرج على الأرض, اعترتها قشعريرة من دماء قانية, تنتفض من أوردتها, فوق الرقاب, وأجساد تمشي بلا رؤوس بضع خطوات.. قبل الرجفة الأخيرة.
فتركت الورقة والقلم, رمتهما على المنضدة بغضاضة, وشاغلت نفسها تراقب تراقص نيران شمعتها, وهي ترسم على الجدار, ظلالا مشوهة لجسدها, شمعتها التي توقدها منذ غياب السلم, والأمان, وآخر وهج تلألأ بغرفتها, بعد انقطاع التيار الكهربائي عن بغداد ومدن العراق كافه, لتغرق المدن بظلام دامس, إلا من أضواء شحيحة تجود بها فوانيس شاحبة وشموع, تطل بنورها الخجل من بين شرفات ونوافذ المنازل.. الغارقة بالعتمة.
لم تدر من أين أتاها شعور غمرها بالأمل, يدغدغ روحها, بالرغم من الحرب ودمارها, بأن فارس قصة جدتها سيأتي يوما, يحمل حبه وأشواقه, وتوق للقياها لم يفتر أبدا, فيطفئ مجيئه نيران الخوف, والظنون, التي رافقتها مذ غاب الأمان عنها, يوم دُكت حصون قلعة مدينتها العريقة, مدينة السلام, والحب, لتنعق أسراب الغربان, بسمائها, وتغفو جدتها, ذات يوم شديد الريح غفوتها الطويلة, ولم تستيقظ, تحتضن عيناها وجع غزوة, كونية, أخرست قلبها, وحصدت من روحها ذاك العنفوان والإباء, الذي كانت تحكيه بحماسة لأحفادها, عن الفوارس والشجعان, غزا ملامح وجهها وجع غريب, ودمعة مكابرة أبت أن تنزل, بقيت متحجرة بمقلتيها.. حتى واروها التراب.
الصباح لم يكن يحمل معه, سوى روتين اعتادت أن تقوم به, غير عابئة بأصوات قصف الصواريخ, تستمع بحزن من جاراتها, أخبار العائدين من جحيم النار الذي تقذفه, شياطين تطير بأجنحة سوداء, يحملون معهم حكايات لا تصدق, تشبه حكايات جدتها الخيالية, وهم يسردون قصصا مرعبة, عن أيام قضوها في العراء, يأكلون من حشاش الأرض, ويختبئون بسذاجة من الشياطين التي تجوب السماء, كأسراب من الجراد الأسود, بتكويم أجسادهم فوق بعض بخنادق تشبه القبور, حفروها بأيديهم, حين تُفتح بوابات الجحيم عليهم, بحاويات تقذف الحمم النارية التي تصهر الأجساد بلهيبها, لتبقى الملابس بلا مرتديها, يسيل بين شقوقها تكتلات اللحم والعظم المنصهرة, ويتسرب عصير الدماغ من الأذنين, سائلا أصفرا داكنا.. ولزجا.
قبل اقتراب الليل وعتمته, وشمس آذار الفتية, المتشحة بلون الدم عند الغروب, لاح لها من بعيد وهي تنظر من خلف زجاج نافذة المطبخ, رجل بملابس عسكرية يتوكأ على خشبة, جعلها عكازا يتعكز عليه, فكان منظره محزنا, والتراب يغطيه, وكأنه قد خرج من قبره لتوه, يجر رجله اليسرى جرا, وجسده يتمايل بين الفينة والأخرى, وكأنه سيغمى عليه بين لحظة ولحظه, اقترب الرجل أكثر.. بانت ملامحه الشابة التي غزتها أسراب الغم والخذلان, وشبح الهزيمة.. ودماء لم تزل ندية تغص فيها ملابسه.
غمرها إحساس بالشفقة على رجل جريح, يجوب الطرقات وحيدا, يجر معه أذيال خيبة تظهر جلية على تقاطيع وجهه الحزين, وعيناه المفعمتان بالوجع, تبحثان عن مُعين.
كان الشاب يمعن النظر بين واجهات البيوت بدهشة وذهول, يدير رأسه خلفه كلما أحس بأنه أخطأ الطريق, فيقف قليلا, يتوكأ العكاز الخشبي, يمسح عينيه بيده التي اختلط فيها الدم بالتراب, فغدا لونها طينيا محمرا, ثم يعاود الكرة بتصفح واجهات البيوت التي اختلف منظرها, وهي تزخر بثقوب شظايا الصواريخ التي استهدفت المنطقة كلها, فتهدمت أسوار الكثير منها, وفتحت ثغرات كبيرة بعدة بيوتٍ, وهدِّ بيتين على ساكنيهما, فأصبحا ركاما حجريا, تظهر بعض آثار قطع أثاث و ملابس من كانوا يسكنوها.
بان اليأس والقنوط الشديد على وجهه, وذهول وحشي غزا ملامحه, فتهالك جالسا على الأرض, يفترشها, وأجهش ببكاء مرير.. يائس.
بكت بحرقة لبكائه, مستذكرة رجال وطنها, الذين أحرقتهم مرة نيران يصبها المحتل عليهم, وأخرى وهم يحترقون لفراق الأهل والأحبة, حين اغتالتهم أسلحة لا يعرف منفذوها, معنى الرحمة, ابتلعها الغمُ, فنادت بصوت جزع على أخيها جعفر, تستغيث به.. أن يُغيث الشاب.
هرع جعفر إلى حيث يجلس الشاب.. أعانه بالنهوض, لكنه سرعان ما سقط مغشيا عليه, بعد أن عرف من جعفر إنه لم يخطئ الشارع والعنوان, وأن بيت أهله هو أحد البيوت التي هُدت, على ساكنيها, جراء القصف الوحشي, وأن جميع من فيها قد مات.. وأنه الناجي الوحيد.
أحست زبيدة بالزهو وهي تراقب أخاها وهو يحمل الشاب, وكأنه يحمل طفلا صغيرا, بالرغم من جرحه الكبير الذي أصيب فيه, بآخر معركة دارت رحاها على الحدود الجنوبية للعاصمة العراقية, عاد بعدها مخضبا بدمه, والقهر يملأ روحه, لأن عاصمة الرشيد لم تصمد طويلا, تحت دك القنابل والصواريخ, التي انهمرت عليها مثل المطر, وتكنولوجيا الألفية الثالثة تفوقت على شجاعة رجالها الفوارس.. الذين يشهد لهم التأريخ.
أسند جعفر جسد الشاب على أقرب أريكة, وهرعت زبيدة وجلبت منشفة مبللة بالماء, غمرتها بقليل من رغوة الصابون تمسح بها وجهه, الذي لم ير الماء منذ أيام طويلة, لا يُعرف كم عددها.
أشعل جعفر فتيل فانوس آخر, فالليل صار حالك الظلمة, وعم أرجاء المكان, وضع الفانوس على طاولة قريبة من الشاب.. فبان وجهه.
شهقت زبيدة شهقة خفيفة, حين أضاء نور الفانوس وجه الشاب, وبانت وسامته, بسحنته السمراء, وملامحه الرجولية, التي تشبه ملامح فارس جدتها, الذي عشقته وهي صبيةٌ بعد.
حملقت بوجهه, طويلا, وعيناها الواسعتان, تتراقصان فرحا, احمرت وجنتاها, تعلن البهجة والحياء.. انتبه الشاب لها, بادلها نظرة متسائلة!! وعيناه التي غمرها الحزن, تتفرسان بوجهها الصبوح, بتعجب!! وكأنه يعرفها سابقا.
تهللت أسارير زبيدة, وعلت فمها الجميل ابتسامة ساحرة, وهي تسمعه يجيب أخاها بصوت دافئ رخيم, حين سأله عن اسمه فأجابه.. قائلا:
- أنا.. فارس.
تهالكت زبيدة جالسة على المقعد القريب منها, وهي تشهق مرة أخرى.. والسعادة تغمر كيانها, وضعت يدها على صدرها, وكأنها تحمي قلبها, الذي خفق بقوة, حتى ظنته سيطفر من بين ضلوعها.. وهي تهمس لجدتها بسرها:

- جدتي.. لقد التقيت.. بفارس.. قصتك!!!