ما بين يومي ١١ يونيو و١٨ ديسمبر من عام ١٨١٢ م ، كانت بداية النهاية للامبراطور ( نابليون بونابرت ) ، وهي تلك الفترة التي قضاها ؛ ما بين خروجه من ميناء ( دانتزج ) ، علي رأس جيشه الضخم المكون من أربعمائة وعشرين ألف رجل ، قاصدا غزو روسيا .. وما بين عودته سرا إلي قصر ( التويلري ) بباريس .
كانت فترة عصيبة ، عاني خلالها ( نابليون ) مع جيشه ؛ وبرغم أنه لم يدخل حربا بمعناها المعروف إلا أنه فقد الآلاف المؤلفة من جيشه ، راحوا ضحايا الجوع والعطش والبرد والقتل علي أيدي رجال حرب العصابات الروسيين ، الذين اعتمدوا في قتالهم للأمبراطور علي استراتيجية جديدة وغريبة ، تعتمد علي الحرق والتدمير وجره إلي السفر بجيشه الجرار لمسافات شاسعة ، في ظل ظروف جوية ومناخية قاسية ، بشكل لم تعرفه الحروب العسكرية من قبل ، أفقدت الأمبراطور عبقريته العسكرية التي عرفت عنه .
وكانت تلك الإستراتيجية - التي اعتمدها قيصر روسيا - تتلخص بكل بساطة في الإنسحاب الدائم أمامه ، وتدمير القري والمدن التي يتم الإنسحاب منها ، وكذا تدمير وحرق كافة صور الحياة علي وجه الأرض ، لحرمانه من التذود بالمؤن أو الراحة ، ثم استخدام أساليب جديدة في الهجوم علي جيشه ، بواسطة فرق صغيرة العدد خفيفة الحركة ، حرمت الجنود وقادتهم طعم النوم ، أو الاحساس بالراحة .. فتجمعت كل تلك العوامل ، لتهزم الأمبراطور !
وتحالف الأعداء مع غدر الخصوم السياسيين ، لتهزم ( نابليون ) من جديد في ( واترلو ) .. التي أفل فيها نجمه إلي الأبد ، وعاد محطما إلي ( باريس ) ، التي ساد فيها الفزع والهلع ، بعد أن وصلتها الأخبار بتقدم جيوش التحالف المعادية نحوها بقيادة القائدين ( بلوخر ) و ( ولنجتون ) .. وعبثا حاول الأمبراطور اقناع مجلسي ( النواب ) و ( الشيوخ ) الفرنسيين ؛ بتجهيز حملة جديدة لإنقاذ الوطن ، حيث رأي أن الجيوش المعادية يتقدم في سرعة وبغير نظام باتجاه العاصمة ، ومن السهل علي أي جيش منظم هزيمتهما .. لكن المجلسين رفضا طلبه وقررا اقالته ، استجابة لطلبات خصومه السياسيين ، الذين روجوا أن ( نابليون بونابرت ) هو أس الفساد ، وأن الحرب القائمة أعلنها الحلفاء ضد هذا الرجل وليس ضد فرنسا ، مطالبين بنبذه حتي يجنبوا البلاد حربا طاحنة ؛ غير مضمونة العواقب .
لكن الأمر العجيب ، أنه كان بإمكان ( نابليون بونابرت ) حل المجلسين والتخلص من مضايقات أعضائهما إلي الأبد ، لكنه قال كلمته الشهيرة :
- لن أضحي بفرنسي واحد في سبيل تحقيق مطامعي !
وهكذا انقضي يوم ٢١ يونيو عام ١٨١٥ م في مناقشات حادة بمجلسي البرلمان والحكومة الفرنسيتن ، ولم تنم ( باريس ) تلك الليلة ، بل اشتعلت شوارعها بالمظاهرات الشعبية الحماسية ، لتطالب بحماية الأمبراطور المحبوب ، لكن تلك المظاهرات لم تكن لتفعل شيئا ، أمام اصرار نواب الشعب علي عزله وابعاده عن سدة الحكم نهائيا .
واستجاب الأمبراطور لرغبة النواب ، وقرر التنازل عن العرش - لصالح ابنه ( نابليون الثاني ) - ووضع نفسه تحت تصرف عدالة القانون الإنجليزي ، وأرسل رسالة الي الملك ( جورج الرابع ) ملك انجلترا ، يعرض فيها عليه انهاء حياته السياسية ، والحياة في بريطانيا أو الولايات المتحدة كأي مواطن عادي ، رغبة منه في تجنب سفك المزيد من الدماء .. ثم سلم الأمبراطور نفسه إلي البارجة البريطانية ( بليروفون ) التي استقبله طاقمها بحفاوة بالغة ، تليق بمكانته كمحارب شجاع .. وأقلعت البارجة باتجاه الشواطئ الإنجليزية .
وكان استقبال الشعب الأنجليزي للأمبراطور المهزوم حافلا ، في كل الموانئ الانجليزية التي وصلت اليها البارجة ، حيث كانت الجماهير الغفيرة تخرج إلي كل ميناء يصل إليه ( نابليون ) لرؤيتة والتلويح له وتحيته ، ولكن قرار الملك ( جورج الرابع ) جاء مخيبا لآمال الجميع .. فقد قرر بعد مناقشات مع حلفائه نفي الأمبراطور المهزوم إلي جزيرة ( سانت هيلانه ) ، لمنعه من القيام في المستقبل بأي عمل ، يؤثر علي السلم والامن الدوليين .. وأسقط في يد الأمبراطور ، فما كانت صحته لتتحمل جو الجزيرة شديد الحرارة ، واحتج ( نابليون ) بشدة علي هذا القرار ، مناشدا الشرف الأنجليري أن يعيد النظر في أمره ، بصفته محاربا نبيلا .. حارب انجلترا عشرين عاما ، ثم وضع نفسه تحت تصرف قانونها العادل ، وأنه قدم إلي بلادهم طواعية كضيف وليس كأسير حرب .
لكن احتجاجه هذا ذهب أدراج الرياح ، فما كانت الحكومة البريطانية لتلتفت إليه أو تعيره أدني اهتمام ، أمام اصرار قادة التحالف علي معاقبة الرجل ، بل كلفت السير ( جورج كوكبورن ) باصطحاب الأمبراطور في رحلته إلي الجزيرة ، وتم التنبيه عليه مشددا أن ينادي ( نابليون ) بلقب جنرال وليس ( امبراطور ) أو ( مولاي ) ، وتجريده من سيفه الأمبراطوري .. كما أجبر ( نابليون ) علي التخلي عن صحبة حاشيته الضخمة ، ويختار منهم طبيب واحد وأربعة ضباط واثني عشر خادما ، يعاملون جميعا كأسري حرب .
وتم اختيار السفينة الحربية ( نوتمبرلاند ) لتقل ( نابليون ) إلي منفاه النائي البعيد .. التي أقلعت في صباح يوم ٩ أعسطس عام ١٨١٥ م تحمل الأسير العظيم الذي دوخ العالم طولا وعرضا .. ومعه حاشيته الصغيرة المكونة من الكونت والكونتس ( مونتولون ) وابنهما ، والكونت والكونتس ( برتران ) وأطفالهما الثلاثة ، والبارون ( جورجود ) والكونت ( لاس كاساس ) والدكتور ( أوميرا ) .. تحرسها عشر سفن حربية انجليزية .
وبينما بدأت السفينة في التحرك ، وقف الامبراطور علي سطحها ، وراح ينظر ببصره عبر القنال الإنجليري ، عله يرقب الشاطئ الفرنسي للمرة الأخيرة في حياته ، نظر الأمبراطور في صمت وخشوع إلي تلك الأرض التي عشقها .. وحارب من أجلها .. ثم خلع قبعته وانحني للأرض النائية البعيدة ، هاتفا من أعماق فؤاده :
- وداعا فرنسا .. يا أرض الأبطال !
واضطر كل من رآه إلي مشاطرته حزنه ووداعه لأرضه الغالية .. ووطنه العزيز ، فسرعان ما خلعوا قبعاتهم هم أيضا وانحنوا محيين تلك الأرض التي عشقها الأمبراطور الأسير !