الفصل الثاني :









قلوب تهجس بالقلق ..



كلما بدأت الوساوس تنشط في رأس "الريم" إلا ويغشاها شعور من يواجه ريب المنون.. كبر الشأن عندها أو قل .. لا فرق ما دام رأسها في اشتغال.. إن أهمها أمر مريب فلا يفارق فكرها ثانية حتى يجد حلا عندها.. مثل أمر زوجها هراوة الطارئ..
جدد لها فجأة سيرة السهر التي اعتزلها منذ حلول والديه ببيته وعاد لطبعه القديم.. رغم تنكيدها عليه في سبيل الإقلاع عن جلسات الليل إلا انه ما انثنى بالإذعان لمخاوفها أو لمخاطر الاعتداءات الليلية.. واستمر في كل ليلة يدخل عليها ليجد من في البيت نيام .. باستثناء يوم الخميس..فإن به أمرا حميدا فرضته العادة في أسرة هراوة منذ زمن فينزعون للسهر قليلا.. ولم تنقطع به السبل حتى أضحى سلوكا أسبوعيا واجبا مثل المأكل والمشرب ومختلف الممارسات.. إنه سمر الخميس.. بيد أن الفتور بدا يضرب بمخلبه على آل بيته نحو هذا السمر..لا سيما في والدته - الحاجة بن نيلي مسعودة- الشديدة القلق عليه هي لأخرى.. إذ عصف بها البرود تجاه خميس الأسرة الذي ما حادت عن انتهاجه سلفا ولم تمنعها الحوائل عن النهوض به .. رغم حيرتها الشديدة على ابنها.. والخوف مما يدس الغيب له.. وأساها الشديد على ابنتها تركية في فقدها للزوج الرحيم الحاج جمعة محمد بن عبد العالي آل حايز..وتعمدت دائما إخفاء مشاعرها أمام أهل البيت.. فقد كان مما يدعو إلى توثيق الحب وتعزيز الدفء العائلي في هذه الأسرة أن يلتقي أفرادها على اختلاف أعمارهم من الأب والأم إلى الأولاد تباعا إلى الجد نفسه.. متحلقين حول الجدة التي لاحت بسلامتها الموفورة.. صانعة بما أوتيت من شخص يتراوح طبعه بين الجد والهزل والحزم والطيبة جوا مليئا بالمسرة والحبور..يمتد إلى قطع من الليل فيطرب له صغيرهم قبل كبيرهم لما في السمر من شوق يدغدغه القصص القديم عن أيام وتواريخ تحفل بها الذاكرة .. ويفترق الجمع على غنائها الشجي.. وعلى أمل التسامر بالمقام الخميسي المقبل .. وإن ظهرت عليها أمارات التعب هذه الجمعة.. فلا غرابة أن تتحرك عظامها في الصباح على وعكة السهر أو تستيقظ على حال من الوجوم.. إلا أن مجلس الأمس ذكرها أنسه وبهجة ساعته.. وما تخلق فيه من النوادر الزاهية.. تنظر برهة في وجه كنتها ثم تبتسم ملخصة ليلة أمس لنفسها.. إنها نعيم من الله . ففيم الوجوم وقد استيقظت
" كالشمس وافت يوم أسعدها ".. أم معززة مكرمة في بيت ابنها .. فيحلو السمر يوم يحلو بميثاق لا يخلفه الزوج ولا الولد ولا الحفيد.. وتشعر بزهو لا تنتهي أطرافه.. كان مجمعهم إبان السهرة يغتبق بعطر اللهو البريء ويفوح بأنفاس الكلام الشريف من قول ديني أو حكمة خالدة .. وغالبا ما تشرك الجدة شيخها في غمرة الوصال حين تستفسره عن تفاصيل حكاية شعبية أو بيت شعر قد يغيب عنها لانشغال بالها بلحن قصيدته.. وتنطلق المعزة بين أناسها .. لا تكرع من جدولها إلا محبة المستهيم بروحه نحو من معه.. أو كقصيدة تصنعها الجماعة في حوار روحي يدور على راحته.. يرتفع بالنبل وينزل برحمة الأرحام..أرجوحة حب لا تجود بها إلا الأسرة الكبيرة.. حيث تنعدم الضغائن.. وتسكن محركات الهجر والعداوة .. حتى انه وبشهادة الشاهدين من المعارف .. لا يوجد إلا الصفاء الدائم بين الجدة وكنتها .. بعيدا عن المماحكات التي تستحكم في بعض الأسر والعائلات.. بل على العكس من ذلك .. فقد انكشفت الأيام الأولى من زواج هراوة بالريم على علاقة وثيقة صادقة حببت بين المرأتين.. وألفت بين قلبيهما بألوان التواؤم والانسجام لسابق قربهما..كون الريم هي أخت الحاج محمد زوج ابنتها.. وهو ما يتندر به يوسف في كل لقاء أسري كبير " لست أدري أي الجدتين خططت لزواج خالي من عمتي" وحين أبدا الحاج بن نيلي عبد القادر للحاجة مسعودة رغبة الانتقال للمدينة وترك الريف.. أنبأت ولدهما هراوة .. فقررت الريم استضافة الجدين لما تردد إلى سمعها الخبر وأسرت على دعوتهما.. باتخاذ كل حجة حتى تضغط على زوجها ليقنع أحدهما أو كلاهما بالإقامة بينهم بدل انفرادهما بسكن مستقل.. وكانت مشورة خير لحقتها تصرفات موحية بطيبتها وسلامة رأيها .. ولم يبق لها سوى تعهد بيتها بالعناية والنهوض بشؤون المحيطين بها.. معتمدة على نفسها أحيانا.. وعلى ابنها لخضر أحيانا أخر.. لذلك استقامت أمورها .. وأفلحت في القيام على رغباتهم بارتياح لم تستسغ طعمه إلا بعد جهد جهيد.. وقد اطمأنت فوق ذلك كله على إقامة والديها في بيت الجناني الكبير يحظيان برعاية تركية زوجة أخيها المرحوم.. أين كانت تسكن قبل أن تتزوج هي وأختيها اللتان يكبرنها.. حيث رحن بتتابع إلى نصيبهن من الزواج ..قبل أن يرحل الأخ الأكبر إلى مثواه بعد أن أدى الأمانات إلى أهلها تاركا والديه و أرملته في وكالة ابنه يوسف.
لخضر هو الركيزة الثابتة في بيت الريم.. و معها يتحرى العافية والأمن بكل ما أوتي من حكمة وبصيرة .. إن قل حرصها غطاه بحضوره .. وان ابتعد الوالد عن مدار البيت عوض دوره ملتمسا الأعذار لكليهما إزاء جميع ما يحدث فتبلورت رجولته في المنزل وفي الحي رغم أنه في ريعان الشباب وأوله، إلا أنه لا يألو في حشر أنفه بكل ما يحيط به .. متوخيا النجاح في سائر ما يعنيه.. ولقد تبوأ مكانة طيبة في حيه ومدرسته واتخذ من يوسف ابن خاله المرحوم القدوة والصديق، حتى أن الجارة أم السعد تخصهما بالدعاء عقب كل صلاة.. وهما اللذان أنقذاها من كيد اللصوص وانبريا لغوثها ونصرتها في محنة السرقة والاتهام يوم اجتاح بيتها فتية مجهولون للنصب على أموالها وزادوا على ذلك أن خلفوا بفناء بيتها كمية كيف لتوريطها.. وقد شغلت تفكير لخضر إلى وقت قريب.. علاقة والده بالسيد سليمان موسى.. فمنذ أن توثق عقد صداقتهما أمام عينيه، وقلبه يحدثه بكرب وشيك، وينفطر كلما وقع بصره عليهما راكبين أو راجلين.. وقد زعموا له أن أباه أضحى القوة التي يتحصن بها السيد وهو الجديد- كما ادعوا- على المدينة مذ عين مديرا على أهم إداراتها .. ولطالما استطار شرا من احتمال وجود نية سيئة يضمرها السيد لاتخاذ أبيه مطية لجس النبض وقضاء مآرب أخرى، أو لاستعماله عينا يعلم بها الموازين والقوى .. كي يتسنى له مجابهة المتنافسين في قيادة رأي الشارع من المحتكرين وذوي النفوذ.. خصوصا وأن نفوذه أوصله لمنصب لا يقتنص إلا بشق الأنفس فلماذا لا يطمع في تعبئة جيبه من نافورة المدينة التي ما بخلت على مسؤول ولن تبخل في نظره بالصفقات وكنز المال والعقار بعد تأمين الحياة في كنفها .. وكان حدسه قاب قوسين أو أدنى من الاهتداء إلى السر المخفي وراء المجيء المتكرر للسيد المدير إلى دارهم أنصاف الليالي.. والذي بدا في تقديره أبعد من أن يكون زيارات بين رجلين لم تمض على صداقتهما فترة وجيزة فتتجاوز حد الصحبة والتلاقي الذي يجعل من موظف يستغل الحافلة ويتبضع من سوق الطبقة الفقيرة بلا هوادة .. يصاحب مسؤولا كبيرا ثريا نافذا .. لا يهدأ هاتفه من الرنين .. وبلغ العجب عند لخضر أن يسخر السيد سيارة بسائقها تحت إمرة والده.. لولا أن فهمه يوسف أن بواكير العلاقة بين الرجلين إنما تعود لما قبل ميلاده فلا عجب من سبب المعزة بينهما .. بل أفشى له سر اقتراح الثورة على السيد سدة الحكم في الماضي وكيف نكص وتقهقر ثم غادر.. حتى أم الفتى ضنت بأبيه الضنون وراودتها شكوك طالما قضت مضجعها وهي التي تطير كومة عقلها لأتفه الأسباب وأقلها قيمة .. مع أن الحذر والتريث كانا دوما خليقين بجعلها امرأة بيت وأم عيال يعمل لها ألف حساب .. فبالأمس القريب وقفت موقفا جسورا مع جارتها أم السعد يوم استدعيت للشهادة في مديرية أمن "عين الحلفاء" إذ قالت بحزم وعزم..ودونما اكتراث أو خوف للضابط المسؤول عن التحقيق:
- وهذا القانون.. ألا يولي للنساء حرمة .. فتتهمون باطلا.. وتحبسون باطلا .. وتضربون كأنكم أوصياء على قصر.
ليهمس الضابط إليها في هدوء دون أن يعير لقولها أهمية رغم تطاولها.. حين شفع لها عمرها عنده فما خرج عن حدود الأدب.. وتضن المخلوقة أن حديثها بطولي يستثير مواطن الرجولة والأنفة فيرأف بجارتها .
وكان يعاين قلما جافا بيده:
- يا أميمه .. صلي على النبي .
فأجابته واضعة يدا على يد في تحد مستفز:
- اللهم صلي على الحبيب.. وهل تركتم لنا فيها من صلاة .. الولية لم تعمل شيئا يغضب ربي لا سمح الله..
ثم أردفت ويدها تسوي الملحفة :
- يقطعني ربي إن كنت كاذبة.. جارتي بريئة .. إسأل عنها السامرة الجديدة كلها إن أردت.
اعتدلت واستوت على كرسي بعد أن أذن لها الضابط بالجلوس وهو يشد على ابتسامة وواصلت حديثها:
- ومع ذلك- أصلك ابن عائلة.. وليدي .. ومن نغمة حديثك يظهر لي سامري .. وليدي أترضى العار والذلة لبنات البلد وولياته..
قال الضابط بلهجة خبيثة كأنما يود امتصاص جرأتها الزائدة والتمكن من الأخذ بسمعها قبل أن تطنب في الكلام :
- قلت لك صل على النبي.. فبدأت تخلطين في الهذر.
ثم بصراخ :
كأني أمامك فارغ شغل.. ينقصني سوى الاستماع لدرسك..
ثم باللهجة الأولى:
- فلتصل على النبي يا خالة..
واستطرد يقول بعد أن عاد قلمه للكتابة :
- هاه.. أنت الشاهدة على ما حصل إذن..
نهارها يا سيدي الشرطي كانت......
- عندما أسألك تجيبين.. بعقلك يا أميمه بعقلك..
وانكب على ملف قبالته تارة يقرأ في صمت أوراقه وتارة يملي على كاتب المحضر صيغته.. وبين الحالين يطرق لحديثها وهي تقص عليه كل شاردة وواردة عن ملابسات المؤامرة التي حيكت بقذارة ضد جارتها "المغبونة" على حد نعتها..وكيف فكر أبناء الحرام في الوقوع ليلا على بيتها- لعلمهم بوحدتها- وسرقت ما تكتنزه من مال بعلها المرحوم .. وكيف أنهم حاولوا اتخاذ الفناء الخلفي لدارها نقطة عبور ليلي لتوزيع ونقل السموم المخدرة.. وهو ما تأكد لرجال الأمن.. والمغبونة لا تدري ما يحدث لها.. تشتكي من اللصوص .. لتجد بيتها .. محطة- كيف - هي منه براء.
كان الضابط صغير السن ويبدو من أبناء المنطقة لسمرته ولهجته السامرية الحرة الموسومة بشيء من البدو وشيء من الحضر..ارتاحت الريم لتحقيقه.. فما هان عليها ولو من باب الفضيحة أن تكون بقسم الشرطة.. نصرة لجارتها وانخفض غيظها بعد أن ساقها الحديث مساقا كلمت عبره الضابط في كل جواب بيا وليدي .. وهو بين أميمه وخالتي إلى أن حصل منها على ما يهمه من معلومات و رسا التحقيق بعد مدة على كمش المجرمين .. فارتاح قلبها من آخر استدعاء قيد الضابط فيه أقوالها واقفل التحقيق.. مطمئنا أم السعد والريم بان الفقير – أو الغني – سينصره القانون أن كان من المظلومين.. ولم تنس أم السعد صنيع جارتها الجلل .. بل ضلت لأيام تعيد على معارفها " فحولة" الريم وموقفها الرجولي تجاه محنة السطوعليها.. بعد حسن معيشة آمنة لم تضن يوما أن ينغصها السفلة وأبناء الكلاب في حي مسالم له سمعته.. لكنه لسان المباهاة الطويل.. تفتخر بمناسبة وبدونها .. بمقدار الإرث والمنحة اللذين آلا إليها بوفاة زوجها..
لشد ما قلقت عليها "العمرية " بائعة الحمام طوال فترة التحقيق.. وعندما أتتها البشارة بتبرئتها وعودة مسروقاتها.. ضحكت حتى سقط سواك الزينة من خلف شفتيها .. وما أن فرغت من ضحكتها المجنونة حتى قالت:
- وهذه أخبار قلبي يرضاها.. لقد لطف ربي بالمكشوفة ..
لكأن سعادتها بالخبر.. تفوق فرحتها بانفراج كربة الأرملة .. لتلعب لعبتها كالعادة بنشر الخبر بين النساء اللواتي اعتدن الاستحمام واللغو في حمام " الصنعة" مروجة لسلعتها من ملابس داخلية وعطور وصابون وغسول مستورد.. فتسخر أي خبر لجذب النسوة.. ولو أن الريم لا تحب أن تنوه بائعة الحمام بسيرتها أمام العدد الغفير من نسوة المدينة.. خصوصا أمام الغريبات مجهولات الأصل..اللواتي لا هم لهن إلا الولوغ في أعراض النساء السامريات.
واليوم عندما زارتها أم السعد شكت لها قلقها من علاقة هراوة بالمسؤول ذو السيارة الفخمة وسهرهما المفرط والانعزالي ..وضاقت روحها من أقاويل أهل الحي حين وصفوا العلاقة بالمشبوهة رغم أن أسرتها تسير نحو نشوء أواصر قوية مع أسرة السيد سليمان موسى بسبب توطد الرابطة بين أبناء العائلتين في مدة قصيرة.. متناسية وقع الزيارة التي قادت حرم السيد سليمان نحو بيتها وكيف تكررت بشكل لافت .. وحاولت بفطرتها السليمة أن تبرأ المسؤول وزوجته من الشكوك لولا انقلاب هراوة على حياته الروتينية.
قالت لام السعد وهي تتوج القدر بالكسكاس:
- من ذا الذي يجمع البحر بالصحراء.. أنا زوجي موظف بسيط.. ليس له بالصفقات دراية حتى يقلقونه نصف الليل بمنبه السيارة .. ولولا خوفي من خيبة النية.. لقلت أن زوجته هي الأخرى.. لها من وراء التردد علي حكاية.. يا ودي .. يظهر المخلوقة طيبة .. استغفر الله يا ربي .. حاشى .. حاشى..
فلم تجد الريم بدا من مواساتها .. إلا أنها انقرصت لذكر الجارة الجديدة كأنما تخشى مزاحمتها في عشرة الريم.. إلا أنها سالت:
- وهل الرجل بعلك موظف بإدارة المسؤول هذا حتى يفضله على بقية الموظفين..
ومع أن الريم غاضها أن تتحدث أم السعد على بعلها بمثل هذا الانتقاص إلا أنها ردت بلطف:
- يا حنانتي هذا سوق الرجال .. عندهم المادة أهون من مصاحبة فحل..أو لم أخبرك؟.. قال لي هراوة أنه صاحب سليمان موسى قبل أن أولد؟؟..أنظري قول العشير..بيد أن الفضول ينغص علي ..
فقالت أم السعد:
-وكيف وجدتي زوجه؟ ..
- كاد الكلام يستعصى بيننا.. لازالت المرأة تحكي بالحلبي ولم تعتد على لهجتنا .. وما تأخذيه من المظهر وتعابير الوجه واليدين.. يشي بقلب أبيض كاللفت..آمني بكلامي .. أو تلك الصبية؟ ابنتها الكبيرة.. القمر نسي فوق الأرض محاسنه.. سبحان الله .. والظن من أين إذن؟؟..
فقالت لها أم السعد مطمئنة ككل وقت:
-أما بعلك فدعيه.. وهل رجال المدينة بمستطيعين أن يجالسوا كبار البلد.. الله يسجيه لك .. قافز وجاعل للأيام عاقبة وألف حساب..على الأقل - يا أختي- يفكك من هم المعيشة ببعض العمولة من وراء قضائه لحاجات الناس كتسريع عملية أو تمرير ملف.. الدنيا فرص..
ضربت الريم صدرها في هلع:
- يرتشي؟؟.. لم يبق له إلا توسيخ يديه بالمشبوه من العطايا.. أموت شرا ولا ينبت لحم أولادي من مال حرام .. عمولة؟؟.. هذا ما ينقص الريم..
كانت كابنها لخضر ميالة للحرص على سمعة بيتها قبل كل شيء.. وتلج بها الحيرة فتحدث نفسها جهرا وتقلب الأمر على وجهه وظهره وبطنه.. غير أنها خلصت إلى أن هراوة ليس بالرجل الذي يرضع سبابته..وأن له مواقف لا يتنازل عنها.. طارت هي أم نزلت فلا يتزحزح البتة.. فليصاحب الرجل من يشاء وكيف يشاء.. كأنما يئست من حصر الأسباب التي لمت عامل البريد والمواصلات مع مسؤول إدارة لا يدخلها إلا السعيد.. وليأسها سبب تبطن في وعيها.. قد يرد بين الفينة والأخرى في حديثها مع أختيها زهوا وحبا في بعلها.. وهو حذره الدائم من الغرباء .. ما ارتابت في شأن من شؤونه إلا وجلت لها التجارب بعد نظره وسخف ارتيابها.. وقد علمتها الأيام – مثلما روضتها – تبعة استقصاء القضايا التي يخوضها زوجها فتزجه الأقدار فيما لا يعلم.. فيخرج سالما غانما .. ويسقط واقفا على رجليه.
ولكن لخضر ما يسكن له ساكن إلا وتضطرب نفسه بفضول يتمخض على قلق دائم.. فيجشم نفسه مسؤولية البحث عن سر التآخي بين الأب وجاره المسؤول ..أخبروه يوما أن أباه تعود منادمة رجال الأعمال والأثرياء والمستثمرين الأجانب..بل كان يناقش ويفاوض ويفرض وجهة نظره على خصومه .. ويستشار فيعطي المشورة بلا عقدة نقص أو خجل أو اعتصام بصمت.. ولعل هذا ما قلص من قلق لخضر .. غير أن رغبة البحث عنده صارت فضولا.. والفضول انقلب عادة من أجل اللهو واستبيان الحقائق ولو أرضته.
وبعد الغداء قال لأمه :
- إذا كانت السياسة قد ربطتهما فمبارك لأبي .. ليته يتعاطاها.. وهو الذي يضن ألا فائدة للمدينة ترجى من وراء تسيسه.. أمام ذوي النفوذ والمال.. أبي تعرفه السامرة دارا دار فلا فضل فيه لوما استغل شعبيته.
أخذ بيدها إلى دار العيال ثم واصل:
-لا تأخذي قولي مأخذ الهزل أو اللغو.. أنا جاد فيما أقول من رأي يبث في نفسك سببا يدفعك لفهم ما تنطوي عليه نفوس السامرين البسطاء مثلي.. ولتعطني سببا واحدا يبيح للوالد منعي من التحزب حين رفضه لنفسه..
- اسمع كلام والدك .. فانا لا أضمن ثورة غضبه عليك.
وقامت لبعض شؤون البيت لكنه استوقفها مرة أخرى:
- يجب أن يعي أن بين جيلي وجيله فصل الخطاب.. سنستأصل فساد المدينة بسلطان الحكمة البتار..
علقت أمه مع أنها ما فقهت من قوله شيئا:
- وهل في السياسة كنز قارون حتى تنغمسوا بها كالمجانين؟..
- المقصد لا يعدو مسألة واحدة.. تحميلك أمانة إقناع والدي بتركي أجرب.. يعز علي ألا تعينيني عليه.. بل الواجب على الجميع الأخذ بأيد الشباب للخروج بالمدينة من وضع الإنهاك المستمر وتنظيفها من طلقاء السوء.
ثم قال حين همت أمه بتركه:
- المدينة تندثر على أيديهم .. تهتز من ضرباتهم .. أفنغيب نحن ونحتجب؟؟ .. أين الضرر في نصرة المدينة يا أمي؟..أخبريني ؟؟
- جدك يا ولدي كانت ثورة التحرير تجري في عروقه كالدم..بيد أنه حرق دمه من أجل ماذا.. الشر أمس واليوم وغدا .. الحرية لا تعني السلام أبدا يا ولدي..هاهم اليوم شبابا وشيبا يتشبثون بالكراسي.. يعضون عليها النواجذ كأنها ستمنع عنهم نار جهنم أو تخلق من سلطانهم جنة الخلد وهم يراءون الناس .. اسأل أباك فيخبرك..
وما تدري الوالدة أن تحجيم ثمار الثورة هو خيانة لا تصدق في حق المتبقين ممن جاهدوا ضد الاحتلال.. مادام وريد ثورة الشهداء ينبض حيا بين جنبات رعيلها الحي .. منهم فقراء وأئمة.. كما أن المندسين فيهم عاهدوا توريث نصر الثورة كأنه متاع يباع ويشترى.. منهم سفراء وولاة .. وقضاة ونواب.. ومدراء عامون وجنرالات.. ولكن بأي حق تثور على الثورة كلها دون أن تورد استثناءات على والدها ومن حذا حذوه.. فلا تدري أين تصب جام غضبها .. على النزيه والمندس سواء.. فأثارت في نفس نجلها شعورا عارما بالمتناقضات فينفر منه ويأوي إليه وهو ناقم على السياسة التي تغمط أولياء الثورة ونسلهم وتقدم نكرة وإمعة.دون وجه حق .." الثورة .. الثورة.. اعتذر على وصفك بالتأنيث وبيننا إناث في صفة ثور..يطيب لهن الاعتلاف من خيرك بتحضير الطبخات السياسية بتوابل القذارة والإطاحة والتعنت والوصاية..بقرات سمان تأكل أبناءك العجاف..والدوامة تجرفك.. تستصرخين من الردة والعذاب.. تحتجب الأيادي عن سحبك من دائرة البوار و السوء..إناث في إناث.. مميلات رؤوسهن عن النجاة.. يا أبتي ارفع جناحك نكاية في كل من يزهو بكبوتها ولا تخف"
ثم قال لأمه جهرا:
- لك يا أمي أن تجعلي في لبك أنه من الفضيلة بما كان.. أن تتكرمي بإقناع الوالد فنحن خارجين لتونا من فترة تكون عصيبة .. الوضع لا يطاق يا أمي..
وعندما خيبته بالصمت قال وهو يملأ فنجانا من القهوة:
- ستلفظ المدينة أولاد الشر من بطنها .
ثم أضاف مبتسما في زهو كأنما آلت مقاليد الحكم إليه:
- سيمد الله في عمرك مددا وترين ابنك تهتف باسمه الجماهير.
فجأة وبدون مقدمات صاحت الريم في وجهه:
- فز من مكانك وامضي للصلاة.. تنقصني إلا السياسة لم تعوج رأسي هي الأخرى..
فقال الفتى وهو يضحك - بعد أن رشف آخر جرعة من فنجانه-:
- لو تدري شجر الدر بأن رأسك يحمل أرجح لب لما تمنعت لحظة في جعلك مسؤولة التنظيم.
- تنظيم أنفك يا شيطان.. انطلق عني ..
وإذا بالفتى يعجل بالخروج كي ما تصيبه الريم بشيء يقع في يدها وانطلق إلى الجامع الكبير.