مقامات آخر الزمان



المقامة البيطرية



كاظم فنجان الحمامي

حدثنا صابر بن حيران. قال : قادني هوّس الشباب. وهوى الاكتساب. إلى تجارة الأبقار والدواب. فوصلت البصرة. للتعرف على إجراءات البيطرة. وشراء بقرة. صفراء فاقعة اللون. كبقرة آل فرعون. فبذلت المساعي. حتى وصلت إلى محلة الساعي. فشمرت عن ذراعي. وكممت أنفي بردائي. حيث الروائح الكريهة تطوف. فتزكم الانوف. والروث مرميا فوق الكتوف. والمسلخ في أسوأ الظروف. وأحرج من التابوت. وأوهن من بيت العنكبوت. فولجت المسلخ متجرعا الغصص. كما يلج العصفور القفص. وكانت دهاليزه مجللة بحواجز مخرقة. ومكللة بمخاطيف معلقة. في مكان ينتهك وسط المدينة. والفضلات حوله دفينة. وكان الله في عون سكان البيوت الحزينة. الذين سعوا سعيهم المثابر. وأحتجوا عند أصحاب الشأن والمخافر. ثم خرسوا ولا خرس سكان المقابر. بعد أن أحجمت مديرية البيطرة إحجام المرتاب. وطوت الإحتجاج كطي السجل للكتاب. .

قال صابر بن حيران : وغدوت وقت الإشراق. إلى محلة المشراق. وتجولت في بعض الأسواق. فوجدت الأغنام. ترعى بلا انتظام. وتهيم في الزحام. وتتسكع تسكع المستهام. وقد ركبت متن الطريق العام. وتدفقت الماشية في أزقة البصرة. زمرة في أثر زمرة. ترافقها الكلاب السائبة. والقطط الصاخبة. وشاهدت الأبقار تلعب وتمرح. وتجتر وتنطح. وتروح وتسرح. وقد هفا بها البين المطوّح. والسير المبرّح. في الشوارع والدروب. من الشروق إلى الغروب. فتتجول بلا احتراس. ومن غير أمراس. كأنها في ضواحي دلهي أو مدراس. وأدهشني منظر الحمير والخيول. وهي تصول وتجول. بالعرض وبالطول. وتجر العربات. وتتبختر في الطرقات. وتنطلق في كل الاتجاهات. وتتسابق مع السيارات. وتعجبت من الجاموس البري. وهو يقطع الطريق البحري. ويمارس العوم والسباحة. في المساحة المخصصة للملاحة. اما النوارس البحرية. فلم تعد تتمتع بالحرية. بعد أن لطختها الملوثات. وامتلئت بيئتها بالنفايات. فرأيتها تطير وتحط. بأجنحتها المكللة بقطرات النفط. فتطلق الزعيق. في أسى عميق. وتوزعت محلات بيع الدواجن. بين العيادات والمخازن. والأفران والمطاحن. وتراكمت الفضلات. بجوار أكشاك بيع الخضروات. التي فتكت بها الآفات. وهرب الأوز العراقي. بعد تجفيف السواقي. فأدمع العيون والمآقي. واطلق النحيب. وبكى بكاء المحب على الحبيب. ولما رقأت دمعته. وانفثأت لوعته. أذعن لنداءات الشنفرى. وردد لاميته اليتيمة. وأبياته الأليمة. التي يقول فيها :

أَقِيمُوا بَني أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِكُـمْ

فإنِّي إلـى قَـوْمٍ سِوَاكُـمْ لأَمْيَـلُ
وفي الأَرْضِ مَنْأًى لِلْكَرِيمِ عَـنِ الأذَى
وفيها لِمَنْ خَـافَ القِلَـى مُتَعَـزَّلُ
لَعَمْرُكَ ما بالأرْضِ ضِيقٌ على امْرِىءٍ

سَرَى رَاغِبا أو رَاهِبـا وهـو يَعْقِـلُ


قال صابر بن حيران : وبينا أنا بجانب النهر. هجم عليّ ثور له طباع النمر. هجوم السيل المنهمر. فخفت والله أنْ ألحق بالقارظين. وأصير خبرا بعد عين. وهو خصم ألدّ. وثور لا يرد. وإذا بغلام ميسمه ميسم الشبان. ولبوسه لبوس الغربان. وبيده سكين الرومان. وفي عينه حمرة السكران. فحسر عن ساعد نهم. وحمل على الثور حملة الفيل الملتهم. وهو يلحظني كما يلحظ الحنق. ويود من الغيظ لو أختنق. فتصارع مع الثور بين عقد وحل. وجر وسحل. والثور في ضمن تأبيه. يخلب قلبي بتلوّيه. فقال لي : ابتعد قبل أن ينهتك الستر. وينعقد فيما بيننا الوتر. فلا تلغ تدبر الإنذار. وحذار من التخاذل حذار. فطلبت منه أن يذبح الثور. فذبحه على الفور. وكنت واقفا في الظلماء. بإزاء الماء. وقد انقطعت الكهرباء. فبحثت عن مصباح يؤمنني العثار. ويبيّن لي الآثار. وأنا في موقفي المتهالك. أشفق على الثور الهالك. فقلت للغلام : هل لديك ترخيصا من البيطرة ؟. وهل الثور ملقحا ضد فيروس الجمرة ؟. وهل سبق تحصينه من طاعون البقرة؟. فنظر إليّ نظرة منكرة. وقال : ما كل سوداء تمرة. ولا كل صهباء خمرة. فأسكت وكف عن الثرثرة. وأخرج سكينه من كمه. وأقسم بأبيه وأمه. إنه سيقطع عرقي ويسيّح دمه. ثم قال : أنا لست لك بزبون. ولا أغضي على صفقة مغبون. فرضخت لأمره. وتفاديت شره. فاعطيته من اللحم حصة. وناولته من الدنانير قبصة. فهش الغلام هشاشة المصدوق. وانطلق باللحم والدنانير إلى السوق. .

قال صابر بن حيران : وجبت الأرياف والأمصار. والمدن والأقطار. من طنجة إلى ظفار. ومن الخرطوم إلى سنجار. فوجدت إنّ واجبات البيطار. ترتكز على ضمان سلامة الإنسان. وفحص منتجات الحيوان. كالبيض والألبان. والحليب والأجبان. واللحوم والشحوم. الطازجة والمبردة. والمجففة والمجمدة. ومسحوق اللحم. وهلام العظم. وفحص مخلفات الحيوان. كالجلود والفراء. والصوف والأمعاء. والحوافر والشعر. والريش والوبر. والتأكد من خلوها من الطاعون البقري. والإشعاع الفطري. والإلتهاب البلوري. والإجهاض المعوي. والتسمم الدموي. ودفتريا العجول. وخنّاق الخيول. والسالمونيلا. والباستريلا. والبيروبلازما. والإمفزيما. والسقاوة والركتسيا. والسراجة والبراكسيا. والإلتهاب السحائي. والطاعون الوبائي. والبلاك لق. واللسان الأزرق. والنيوكاسل. وكل أنواع السل. وتيفود الطيور. وكوليرا العصفور. وحمى الزرزور. ويفترض أن تختم الذبيحة بأختام اسطوانية. ذات ألوان بنفسجية. مستخرجة من قشور حبات العنب. وموضوعة في سائل رطب. لا تذوب بالماء. ولا تشبه أحبار المطابع الزرقاء. وخالية من ذرات الرصاص السوداء. أما المسالخ فينبغي أن تبنى خارج المدينة. وبجوارها محاجر الكرنتينة. فالعلم نعمة. والجهل نقمة. وأعلموا إنّ العلم أحسن على علاته. والجهل أقبح على حالاته. .

قال صابر بن حيران : فقررت أن أكتب هذا المقام. عسى أن يتحقق المرام. فرب رمية من غير رام. فاشرح للناس بما رأيت. وما ورّيت ولا رأيت. عن كيت وكيت. عسى الشرح يشفي الصدور. ويلين الصخور. ونسأل الله أن يجنبنا التقلب مع الأهواء. والتخبط خبط العشواء. فطوبى لمن سمع ووعى. وحقق ما ادّعى. ونهى النفس عن الهوى. وعلم أنّ الفائز من ارعوى. وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى. وأنّ سعيه سوف يرى. .

البصرة 26/9/2008