( طرب وحرب وبرتقال )
أوقف سيارته أمام السوبر ماركت الذي يبيع نوع سجائره المفضل ثم ترجل من السيارة ،
المكان مكتظ بالناس . ثمة ضجيج وأغاني متنوعة تنبعث من هواتف المتسوقين .شرع يتسكع في الممرات و يحاول أن يتتبع كلمات أغنية ما يعرفها ويتذكر بقية الأغنية ، لكن تلك الأغنية ما تلبث أن تنقطع فيصغي إلى أغنية أخرى .أرهف السمع إلى مغنٍ يغني باللهجة العراقية : ـ
يا البرتقالة .....يا البرتقالة .
التفت نحو الصوت الذي بدا قريبا منه جدا ، تأمّل الحسناء التي انبعثت تلك الأغنية من هاتفها ، أخذ علبة السجائر وغادر المكان بتثاقل ، ركب سيارته ، أشعل سيجارة وأخذ نفسا عميقا ،أدار مفتاح الراديو يبحث عن نشرة أخبار ، علا صوت ذلك المغني وهو يردد : ـ
يا البرتقالة ... يا البرتقالة .
نفث دخان سيجارته منفعلا و طفق يبحث عن محطة أخرى . المذيع يقرأ نشرة الأخبار : ـ
انفجار جديد في سوق شعبي في بغداد . بلغت حصيلة القتلى ستين قتيلا وعشرات الجرحى .
كأن يدا تعتصر قلبه ، بدأ إحساس بالضيق يتنامى في نفسه ، عاد يعبث بمفتاح الراديو .كان صوت المذيع صافيا هادئا وهو يقدم محاضرة في إذاعة القرآن الكريم : ـ
الإمام أبو حنيفة : هو أحد أئمة المذاهب الأربعة ، وهو إمام أهل الرأي في العراق . لم يطق أن يصغي إلى بقية المحاضرة . عاد يبحث بين المحطات عن شيء لا يعلم كنهه ، إلا أن تلك الأغنية صفعت أذنيه تارة أخرى: ـ
يا البرتقالة ... يا البرتقالة .

أطفأ سيجارته وفكّ أزرار قميصه العلوية ثم فتح نافذة سيارته . انتابته رغبة جامحة في البكاء ولكن دموعه استعصت عليه ، حاول أن يتذكر آخر مرة بكى فيها فلم يفلح . لم يتبق أمامه سوى مسافة قصيرة تفصله عن بيته .
هناك مذيع يقرأ خبرا عاجلا : ـ
قبل قليل أغارت القوات الإسرائيلية على حي الزيتون في مدينة غزة ، وقد سقط على إثر الغارة العديد من القتلى والجرحى .ما تزال الغارة مستمرة حتى هذه اللحظة . هذا ما وصل إلينا حتى الآن ، وسنوافيكم بالتفاصيل في النشرة القادمة
إن شاء الله.
خرج من السيارة وهو في حالة من الذهول والانفعال الشديد، أخذ يهذي ويضرب رأسه بيديه : ـ
أمي وأبي ! ، غارة ! ، حي الزيتون! ... يا الله .. يا الله .... يارب استر ..يارب الطف بهم .
أحس أن أطرافه قطع من الثلج . قدماه الثقيلتان بالكاد أوصلتاه إلى باب بيته . طرق الباب فانفرج عن زوجته التي بدت متوترة وفي عجلة من أمرها ، تهاوى على أقرب مقعد. كان أبناؤه الخمسة وزوجته متحلقين حول التلفاز ، يتابعون بشغف شديد الحلقة الأخيرة من برنامج ( سوبر ستار العرب ) .
جاهد ليخرج صوته من صدره ، هزّ يده بما تبقى من قوته وقال بصوت ضعيف متقطع : ـ
يا أولاد ، انتبهوا إليّ ، إصغوا إليّ ، إسرائيل تقصف حي الزيتون في غزة الآن ! . أريد أن أشاهد نشرة الأخبار .
لم يتنبه إليه إلا ابنه الأصغر ، إذ التفت صوبه قائلا باستعطاف: ـ
أرجوك يا أبي انتظر . لم يتبق سوى دقائق على اختيار سوبر ستار العرب .
منذ أشهر ونحن ننتظر هذه اللحظة .
أخرج الأب هاتفه من جيبه ، إلا أنه فوجئ بأن الهاتف ليس مشحونا ، فقذفه باتجاه الحائط . صرخ في أبنائه وهو يضرب بيده بقوة على طاولة أمامه : ـ
ليعطني أحدكم هاتفه . أريد أن أطمئن على والديّ .

لم يصغ إليه أحد منهم . كانوا في تلك الأثناء يمسكون بهواتفهم ويرسلون رسائل لانتخاب نجمهم المفضل ، في اللحظات الأخيرة التي يسمح فيها للمشاهدين بالتصويت لاختيار ( سوبر ستار العرب ) .