ـ 1 ـ

أهاجته الذكريات وهو يسترجع العمر الذي ولى. بلغ الستين من العمر. شخص نظره إلى الجسر أو النفق كما اعتاد الناس أن يطلقوا عليه، وتحديدا يشير إليه المارة من أهل المنطقة قائلين " نفق المنيرة "، أما الوافدون من خارج المدينة فقد يسمونه "نفق إمبابة".. وهو جسر تعبر فوقه قطارات السكة الحديدية الذاهبة والقادمة من الصعيد، وثمة فرع عند بشتيل يتجه إلى الخطاطبة وكوم حمادة في الوجه البحري. أما الجسر عند حمزة فوضع يختلف تماما عما ألفه الناس، فقد اعتاد أن يحكي لكل من يأنس منه مودة كيف بنوا الجسر. كيف شارك والد جده في أعمال حفر لخطوط السكك الحديدية مع زملائه عمال اليومية، وإن كان لا يحدد تاريخ بناء النفق بالضبط، مكتفيا بقوله إن أجداده عاصروا بناءه منذ عشرات السنين. أما هو فيعتز باسمه بالكامل حمزة بن محمد بن صابر بن رمضان، مؤكدا أن رمضان والد جده شارك في مد القضبان الحديدية. يتحدث عن نفسه فيقول إنه في مقتبل عمره بدأ يتكسب قوت يومه في غرزة، أقامها من الخوص والخشب عند مدخل النفق، خصصها كمقهى لعمال التراحيل والمزارعين والبائعين الجوالين الذين يجرون عربات الخضر والفاكهة.
في جعبة حمزة مرويات كثيرة تتداعى إلى خاطره، أشهرها ما كتب من عبارات تثير الحماس، على جدران النفق أيام حرب بور سعيد : سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. يستطرد مزهوا بأنها كلمات الزعيم جمال عبد الناصر في خطبة الأزهر المشهورة. ألهبت الكلمات حماسه فانضم إلى صفوف المقاومة الشعبية، وشارك في قوات الدفاع المدني. تسلل مع المتطوعين عبر بحيرة المنزلة إلى بور سعيد. يستطرد باعتزاز راويا قصة الرصاصة التي استقرت في فخذه، وأثر الجرح ما زال ندبة تزين جسمه. يرفع طرف الجلباب ليعرض أثر الجرح، كلما استدعت المناسبة أن يحكي وقائعها، أو أنه يقحمها بلا مناسبة لكل من يأنس منه أذنا منصتة.. وتتداعى الخواطر معتزا مزهوا بأنه لم يترك مكانه بجوار النفق.
منذ وعى الدنيا والجسر شاخص في مخيلته، وإن كان يرى أن عمر الجسر من عمر آبائه وأجداده. لا يدري أحد كيف حسب حمزة هذا العمر الطويل، إنما يتمثل الجسر شريانا في قلبه، مثلما هو شريان يتدفق منه الناس يعبرونه إلى أحياء إمبابة.. إلى المنيرة الشرقية والغربية، وإلى مدينة العمال، ومدينة التحرير، ووراق العرب، ووراق الحضر، بل بات الجسر منفذا آخر إلى بشتيل..
ما زال حمزة يلذ له استرجاع صورة المنطقة التي تضم سيدي إسماعيل الإمبابي وأرض عزيز عزت والجرن وسوق الجمال وسوق الجمعة والكيت كات وعزبة الصعايدة.. والمدرسة الثانوية.. والترعة الممتدة في شريط واسع يمر من الجهة الغربية لكل هذه المناطق، ثم يقع النفق في نهاية الترعة. كان يمر منه الناس إلى مزارع المنيرة، وبيوت متناثرة شحيحة يعيش فيها البسطاء..
هكذا كانت الصورة في الماضي.. تغيرت الأحوال.. هجم سكان من بولاق أبي العلاء والفرنساوي والسبتية وجزيرة بدران والسيدة زينب وغيرها من أحياء القاهرة ليستوطنوا إمبابة. هجموا كالتتار، فأتوا على كل شيء أخضر, وأقاموا بيوتا أسمنتية. وفد السكان الجدد عابرين النهر إلى الغرب. إمبابة من أكثر مدن مصر كثافة سكانية، ومركزا جاذبا للنازحين من الريف إلى القاهرة خاصة أبناء الوجه القبلي لقربه من العاصمة ورخص القيمة الإيجارية وانخفاض مستوى المعيشة. تقع إمبابة على الضفة الغربية من النيل في مواجهة جزيرة الزمالك في الجزء الممتد بين كوبري الزمالك وكوبري إمبابة، وتمتد شمالا إلى صوامع الغلال وما بعدها. إمبابة في الأصل من القرى القديمة.
اسمها الأصلي في قول " نبابة " كما ورد في كتاب " جني الأزهار "، وفي قول ثان إن الاسم يرجع إلى نبات كان يزرع بكثرة في هذه الناحية، على شكل أنابيب، فيقال عن المنطقة أنبوبة أو أنابيب، وأدغمت النون والباء فأصبحتا ميما، فقيل عنها " إمبابة ". كانت تقع بين شطيْ النيل، لذلك يسمى جزء منها حتى اليوم " جزيرة إمبابة ". وفي سنة 715 هجرية تم تقسيم إمبابة إلى ثلاث نواح هي : تاج الدولة ومنية كردك ومنية أبو علي التي تعرف اليوم باسم كفر الشوام. وفي سنة 1274 هجرية فصلت ناحية رابعة هي كفر الشيخ إسماعيل الإمبابي. وفي سنة 1300 هجرية فصل منها جزء خامس هي جزيرة إمبابة. وظلت إمبابة على حالها حتى عام 1940 ميلادية حين صدر قرار وزير الداخلية بإنشاء بندر شرطة إمبابة.
تتناثر العوامات على صفحة النيل بمحاذاة العجوزة، وقليل منها قبالة الكيت كات.. وفي الكيت كات أقيم في الماضي قوس من أيام الحملة الفرنسية، عليه كتابة ونقوش شاهدة على عهود بائدة، ومستعمر كان يبحث عن شمس دافئة قرب أبي الهول والأهرام الخالدة.
أما اليوم فقد تغيرت الأوضاع، وانقلب الحال.. هدم السور وبني مكانه جامع خالد بن الوليد. يضحك من أعماقه وهو يذكر ملهى ليليا كان مقاما في البقعة نفسها، يحمل اسم صاحبته الراقصة الأجنبية كيتي. كان يؤم الملهى الباحثون عن سهرات ليلية، من الوجهاء وعلية القوم.. وسكنت في عوامة على النيل سلطانة الطرب منيرة المهدية، التي آثرت الحياة على صفحة النهر الخالد حتى وافتها المنية منذ شهور قليلة وهي في الثمانين من عمرها. ذاعت شهرتها قبل أن تظهر أم كلثوم. من أغانيها المشهورة " أسمر ملك روحي "، وكان يجتمع في عوامتها نخبة من وزراء مصر.
ما زالت إمبابة القديمة كما هي.. سيدي إسماعيل الإمبابي، شارع مراد، شارع السلام. إلا أن الترعة الغربية ردمت، وشق فوقها طريق أسفلتي، مزدحم بالمارة والمركبات.
اختفت المزارع الخضراء، والغيط الذي كان يحلو له الذهاب إليه، وهو في شرخ الشباب، يتنسم هواء يهز أوراق شجر البرتقال. يتبادل الحديث مع فلاح، الذي يعطيه كيزان الذرة، ويسمح له بالتقاط ثمار الفاكهة المتساقطة من الشجر.
أفاق من تأملاته على صوت سيد سبرتو، الطاغية المستبد، وهو يصرخ بصوت أجش:
ـ أنت يا زفت..
هرول إليه مذعورا، كمن لدغته حية رقطاء.. وأخذ الفتوة يعيد برم شواربه..
ـ الأكل جاهز يا معلم..
أتى إليه بطبق " مسقعة " أعدته حميدة.. التهم الطبق ولحس بإصبعه " دِمْعَة " الطبيخ.. ودون أن يطلب أسرع يقدم طبقا آخر، فالتهمه كسابقه.
خبط بكفيْ يده على كرشه، وتجشأ، وهمّ بالانصراف، فطلب منه انتظار الشاي، فثار في وجهه :
ـ أنا رائح أشرب بيرة من ثلاجة عمك توفيق..
وعم توفيق ليس أسعد حظا منه، فالمعلم يتجرع زجاجة البيرة، ولا يدفع ثمنها. إنه يعيش على إتاوات وسطو، نظير حمايتهم ـ هكذا يدّعي ـ والويل كل الويل لمن يعترض عليه.
استراح كثيرا حين انصرف. تمدد على الكنبة البلدي في الصالة الضيقة المطلة على الجسر، ونام نوما هادئا ساعة القيلولة، ريثما تعود ابنته وزوجها من سوق الخضار عصرا.