(خارج المفكرة)

تلفّت حوله متأملا المقبرة الشاسعة الموحشة : لوحة ترابية صامتة شاحبة تبرز على سطحها مئات الأحجار المتوسطة الحجم . الهواء يصفّر بين جدران المقبرة وينشر في المكان رائحة غريبة . شمّرعن ساعديه وانضم إلى الرجال الواقفين حول القبر الذي حفر توا . التحمت أذرعهم القوية لحمل الجثمان وإنزاله في الحفرة المعتمة . همهمتهم امتزجت بوجيب قلوبهم حين دنوا من حافة القبر ، يسبرون بأعينهم ذاك الظلام الرهيب. كان حفّار القبور يرفع معوله عاليا ثم يهوي به إلى الأرض ويغترف ترابا ثم يهيله على القبر . صوت احتكاك المعول بالتراب يهيمن على الموقف . تبادل الرجال نظرات وجلة وكلمات وآيات بدوا وكأنهم يسمعونها لأول مرة :) إنّا لله وإنّا إليه راجعون(، ( رحِمه الله ) )كل من عليها فان( . أطبق الوجوم عليهم عندما انتهوا من دفن الميت ،أما هو فقد صافحهم بيد مرتعشة متعرقة ثم توجّه صوب سيارته وهو ينفض عن ثوبه الغبار العالق به . ارتمى على مقعد السيارة ،أخرج من جيبه مفكرة و أنشأ يقرأ صفحتها الأخيرة : ـ
ثلاث مهام عليّ إنجازها اليوم :
صلاة الفجر ثم دفن جاري فؤاد .
شطب بقلمه الموعدين الأولين ثم قرأ بشغف: ـ
أذهب إلى السوق لشراء الأثاث .
أدار مفتاح سيارته وانطلق بها كالسهم يشق طرقات البلدة التي بدأت تستيقظ على أولى خيوط شعاع الشمس ، وإذ نجح في تبديد الظلال القاتمة لأحداث الساعة الماضية ندت عنه صرخة طفولية ، وهو يتخيل منزله الجديد الذي فرغ من بنائه مؤخرا . غمرته نشوة عارمة فقال بنبرة مترعة بالفرح : ـ
رباه ! ، بعد عشر سنوات من الانتظار والعناء والديون ، اكتمل بناء منزلي ! .
أخذ يترنم بكلمتين ( بيتنا الجديد) ويمد صوته بالكلمة الثانية .
ـ كيف مضى الوقت بسرعة ؟ ! . تساءل وهو يغادر السوق وينظر في ساعته .
ركب سيارته وطفق يقلب فواتير المشتريات قائلا : الحمد لله لقد انتهيت من شراء الأثاث وجميع الأجهزة الكهربائية خلال ساعات قليلة . شرد هنيهة ثم قال بارتياح عميق : ـ
سيكون البيت مهيئا لاستقبال ناهد والأولاد حين يعودون غدا من السفر .
قاد سيارته باتجاه بيته الجديد يحدوه الشوق إليه . بدا له البيت كنجم بعيد في السماء أو قصر أسطوري ، كلما اقترب منه تتسارع نبضات قلبه . وضع قدمه على عتبته فغمرته موجة قوية من الدهشة ، أشعل المصابيح فتلألأت الثريات المتدلية من الأسقف وعكس البلاط الصقيل ضوءها . استنشق بعمق رائحة طلاء الجدران ثم ردّد : ما أجمل أن يمتلك المرء بيتا ! .

ضحك وهو يتخيل ملامح الإعجاب والحبور على وجه زوجته وأبنائه ، وهم يصيحون و يتراكضون بين الحجرات والسلالم .
غمغم متثائبا : ـ
كل شيء أُنجز كما أريد . أمر رائع ! .

الهواء الفاتر المتسرب من النوافذ ، والهدوء المخيم على البيت أغرياه بالنوم بعد يومين لم تذق فيهما أجفانه طعم الكرى ، فاستلقى على الأرض مداعبا المفكرة بفتور . أغمض عينيه واسترجع المهام التي أنجزها خلال اليوم . بغتة استيقظ من نومه مذعورا . نظر إلى ساعته التي تشير إلى العاشرة مساءا ،نهض متثاقلا وخرج من البيت . في الطريق إلى شقته بدأ إحساس قاتم ثقيل يكتنفه. طفق يتحسس المفكرة بإلحاح ، يقلّب صفحاتها ثم يضغط عليها بشدة فيزداد إحساسه بالضيق ، تكلم بصوت خافت : ـ
لقد نسيت شيئا ما .
استدعى المهام التي أنجزها من ذاكرته ورتّبها ثم تساءل بحنق : ـ
أف ، ما الذي نسيته ؟ .
دلف إلى شقته ، تهالك على السرير وأغمض عينيه . تراءى أمامه شريط أحداث اليوم المنصرم بكل تفاصيله : القبر ، محلات الأثاث ، وجوه الباعة ، الفواتير والمنزل الجديد . تقلب على فراشه محاولا الاسترخاء . أخذته سنة وما لبث أن استيقظ فزعا ، جلس على حافة السرير ، التحمت الهواجس في ذهنه كذرات تيار كهربائي يسري في جسمه المتعب مخلفا وراءه ألما ممضا ووهنا شديدا . امتدت يده إلى مفكرته واسترجع في مخيلته المواعيد السابقة المنجزة قائلا : ـ
أقسم أنني نسيت موعداما .
ومضت فكرة في ذهنه وسرعان ما انطفأت وتركته غارقا في ظلام دامس. استلقى على السرير فتراءى له مكان هلامي ، يقترب منه ببطء. عبثا يستجلي تفاصيل المكان ، يوشك أن يهتدي إلى ذلك الشيء ، ذلك الموعد الذي يحسه وشيكا جدا . نهض من السرير واعتصر رأسه بكفيه بقوة كأنه يستخرج شيئا مختبئا في تلا فيف ذاكرته . أحس بغصة قوية في حلقه فخرج من المنزل.
أنشأ يسير على الرصيف . تهدهده نسمات الليل و حفيف أوراق الأشجار .
يباغته صداع حاد وخدر ثلجي.، تتراءى له مصابيح الشارع كدخان رمادي بعيد ، يترنح في سيره ، يسقط على الرصيف ، يحاول سدى أن يستغيث . كأن أطنانا من الأحجار تسحق صدره وتخمد أنفاسه . يهبط في خواء سحيق موحش حيث ثمة رائحة غريبة تنداح في الهواء ، و رجال يحملون جسده الساكن وينزلونه في حفرة معتمة .