هذا حوار دار معصديق جزائري يدعى "شرف الدين شكري" ويشتمل على معلومات غزيرة في الحالة الجزائريةالحقيقة. إن جهل المصريين بأحوال أشقائهم العرب مخجل ..وقد دار الحوار بيننا فيصورة أسئلة مكتوبة من جانبي رد عليها في استفاضة.
أخي الكريم شرف الدين شكري.. أسئلة كثيرة تحيرني بخصوص الجزائر.. أعترف أن المصريين شديدو الانكفاء على أنفسهم.. أعترف أننا لم نمنح أشقاءنا العرب ما منحونا من اهتمام.. لكني واثق أنك ستفهم أسئلتي على الوجه الصحيح وتقدر أني أبحث عن الحقيقة مضمرًا لشعبكم الكريم الاحترام اللائق به.
إنني أتساءل:
1 - هل الشعب الجزائري بطبيعته قصير الفتيل؟ بمعنى آخر سريع الغضب؟.
2 - هل تدل حمَّامات الدم التي جرت في عهد التحرير أو في الحقبة الحمراء طيلة التسعينيات والذبح بالجملة على طبيعة عنيفة غير مسالمة؟ (مع التفرقة الواجبة بين دماء سالت في تحرير الوطن وبين دماء بريئة أريقت بلا مبرر واضح بالنسبة لنا).
3 - ألستم نادمين على انفصالكم الدموي عن فرنسا؟.. ألم يكن من الأفضل لكم لو ظللتم تحت علاقة خاصة مع فرنسا بدون التخلي عن الإسلام؟ ألا يحاول كل العرب الحصول على جنسية أجنبية لضمان فرص أفضل في الحياة؟ أليست إيران فارسية وبرغم ذلك مسلمة؟ هل الجنسية الفرنسية عار يستدعي غسله بالدم؟ ألا يتمنى كل جزائري الآن لو هاجر فرنسا وحصل على الجنسية؟ وهل ما حدث بعدها كان أفضل مما لو ظلت الجزائر فرنسية؟
أنتظر إجابتك إذا كنت لا ترى في أسئلتي محرمات أو مضايقات.
شرف الدين شكري:
أخي الكريم أيمن.. ضربتُ بكلِّ أشغالي الإدارية عرض الحائط، وعزمت على الإجابة على الأسئلة التي تفضلت بطرحها عليَّ -الأسئلة المستفزَّة حقًّا!- والتي سرَّتني كثيرًا؛ لأن أسئلتَك كانت نافذة إلى عمق الجرح...
* هل الشعب الجزائري بطبيعته قصير الفتيل؟ بمعنى آخر سريع الغضب؟
- لقد درس ابن خلدون في مقدمته مجتمعات المغرب العربي دراسة حكيمة فخلص أن أهل تونس والمغرب الأقصى يميلون إلى الخضوع إلى السلطة العليا، بعكس أهل الجزائر الذين ينزعون إلى التعدُّد القبلي ورفض الحكم الواحد وعدم قابلية الخضوع إلى سلطة كبرى في البلاد.
هذا التحليل ما زال صالحًا حتى اليوم!؛ مما جعلنا نذوق الأمرَّين، مرارة الجموح التي قد يُصادفها نوع من الحلاوة التي قد تبدو إلى قصير النظر حرية وانتصارًا على جور الحاكم، ولكنها للأسف ذات ثمن باهظ.
وطني كالمُراهق الذي لا يهدأ عن بحثه عن ذاته، بعد أن مات والداه، مخلِّفََيْن وراءهما ثروة طائلة -تراثًا هائلاً-، وخدَمًا كثيرين، وأهلاً يكثُر فيهم الطامع. إننا وطن مُراهق في سُلَّم تاريخ الشعوب الطويل. وأنت عليم بما للمُراهقة من مشاكل عويصة، وجب التعامل معها بحذر وحيطة وحكمة.
الجزائري يغلُب عليه طابع النفور من الهيمنة، وعدم التدجين، والتعبير عن المشاعر الفجَّة، والتضايق من الفضاء الضيِّق (فوبيا الأماكن الضيقة). ولقد تسببت كثرة الإشادة بأن الكفاح المسلح هو الذي أدى إلى طرد الاستعمار، إلى زرع أفكار مضخَّمة في أذهان الناشئة عن مكانة القوَّة والسلاح في بناء الوطن أكثر من إشادتها بنضال الحركة السياسية الواعية التي تمَّ اغتيال أو تهجير أغلب عناصرها، من أجل اقتسام الطبخة الكبيرة التي يزخر بها أديم هذه الأرض.
إن تضخيم التاريخ المُشوَّه -أو المتلاعب به حسب ما تمليه المتطلبات المصلحاتية- هو الذي أدى إلى نشأة هذا الوطن ذي (الفتيل القصير!). لقد سألتني إن كان الفتيل قصيرًا أم لا؟ وأنا أُؤكِّد لك أنه كذلك. ولكني لا أراه ميزة حسنة، بقدر ما هو إساءة للعقل، وضررٌ، يتوجَّبُ علينا مُعالجته، والخروج منه بحكمة. إن الجزائر في العُمق، وفي ذهنية شعبها التي تتَّسم بالسمات الجامحة التي ذكرتُها آنفًا، تشبه أمريكا في شكلها المُصغَّر، وهي تتقلَّب وتتخبَّط وتهيج، وتفور في ساحة الحضارة الإنسانية الكُبرى. إن أمريكا مراهق كبير، لا يعرف مِن الحضارة شيئًا، وكذلك الجزائر، فهي (مراهق)، ولكنه مُراهق صغير تابع. والتابع، قد يتوب عن نزقه، ويرعوي عن جهالته وضيمه لنفسه، فيغدو صالحًا مع الزمن. أما المتبوع الذي لا يرى أن الله فوقه، أو أية قوَّة رادعة تجعله يعود عن السقوط الحتمي الذي سيُصيبه، فإن مآله هو التفكُّك مع مرور الزمن، ثم الانحلال والانتهاء في مزبلة التاريخ.. وهذا حال أمريكا مستقبلاً.
* هل تدل حمَّامات الدم التي جرت في عهد التحرير أو في الحقبة الحمراء طيلة التسعينيات والذبح بالجملة على طبيعة عنيفة غير مسالمة؟ (مع التفرقة الواجبة بين دماء سالت في تحرير الوطن وبين دماء بريئة أريقت بلا مبرر واضح بالنسبة لنا).
- لقد لامستَ الجرح العميق الذي لا أكفُّ عن الرنو إلى ندبه، متسائلاً: كيف حدث ذلك؟ وهل نجونا فعلاً من الغرق في بحر الدَّم العميق؟ هذه أسئلة مؤلمة سأكتفي بالإشارة إلى مُسبباتها التاريخية المعروفة ليس إلا، وأما أجوبتها فإنني سأمنحها أيامًا كثيرة قادمة إن كان في العُمر بقية.
إن العُشرية السوداء التي يتَّفق جميع الجزائريين على تسميتها، من مُلحد إلى مؤمن إلى داعٍ إلى التكفير، كانت نتاجًا أمريكيًّا خالصًا، بدأت منذ حركة التجنيد الأولى للعرب من أجل محاربة "الدُبِّ الأحمر" في أفغانستان في بداية الثمانينيات، وتنشيط وتسليح تلك الحركة، وتسهيل عمليات المرور والتدريب من قبل الـ CIA للمُقاتلين العرب والأفغان، وتمويل تلك الحركة بالأموال عبر دعم المسنود بملايين الدولارات لما يسمى الآن بـ"الأفغان العرب...".
لقد شهِدْتُ سفر الشباب إلى بلاد الأفغان من أجل بناء مملكة الحلم الإسلامي -المدعومة سرًّا وعلنا من قبل أمريكا-، فكانت كل الدول "الصديقة" لها تزُجُّ بأبنائها في تلك الحرب، غير مُبالية بأحلامهم التي تُهدِّدُهم هم شخصيًّا والتي تكفَّلت الدراسات الإستراتيجية الأمريكية بوعود إخمادها من بعد ذلك، إذا ما تمَّ الانتصار، وانبطاح الدبِّ الأحمر، وامتدَّ الحلم إلى خارج أسوار أفغانستان. فالمُقاتلون العرب، في نظر أمريكا، لم يكونوا سوى شرذمة من العناصر التي يكفيها صاروخ "ستينجر" واحد حتى يتمُّ إخمادها إلى غير رجعة.
وتمَّ لأمريكا ما خططت له. وتمت الإطاحة بالدُّب. وتم تحرير كابول، كبداية لإسقاط كلِّ معالم الأسوار الشيوعية الداعمة للحرب الباردة التي شارك العرب عميقًا، بأموالهم وأبنائهم في لعب أدوارها النهائية. بل أكاد أُجزم أنهم كانوا الورقة الرابحة الوحيدة في يد أمريكا والتي تم بها صفع روسيا!...
وبعد أن انتهت هالة الفوران كشّّرت أفغانستان عن أنيابها. ولمَّحت للغريب بأنه أطال المُكوث، وأنه، آن أوان عودته إلى بلاده بعد أن أطال الله في عُمره، وانتهى الجهاد في سبيل الله الذي يُقابله ثواب في السماء، لا على الأرض!...
"... فأين هي إذن أحلامنا؟.." تساءل المُجاهدون العرب. أين أرض الخلافة الجديدة التي جئنا من أجلها وتركنا ذوينا وأهلينا وشرَّدنا أغلبهم في العَوز بعد أن نال كبارنا فقط إتاوة الجهاد، وحاربنا معكم يا أيها الأفغان من أجل إقامتها؟ وحتى أمريكا حليفنا القوي، تسلّلت من هذه الأرض خلسة في الظلام، وتركتنا وحدنا لبرد المكان والخديعة.
وانفكت عقدة الدُّويلات الحمراء هي الأخرى، بفضل سقوط الدُّب. وسقطت حيطان برلين وأصبحت كثير من الدُّول التابعة لروسيا تبحثُ هي الأخرى عن مسار التحرُّر من الشيوعية، وبانت أمريكا كمُحرِّر للشعوب، وكمعينٍ للأقليات المظلومة... قمَّة الخداع للشعوب المُستضعفة، الجاهلة، المغلوب على أمرها. وعاد الغريب إلى بيته فلم يجد من يستقبله إلا الشرطة وصولجان العسكر، وغياب الزوجة والأولاد، وضياع الوطن، وتغيُّر الأوضاع كلية..
"... ماذا يُريد العم سام؟ أين يربض الآن؟ هل تتغيَّر أفكارُه 360 درجة بين ليلة وضحاها، ونغدو نحن اللعبة التي يتسلى بها الزبانية؟"...
واختلط الحابل بالنابل وسط تلك الثورة التي واكبت غزو الكُويت، وحرب البوسنة، وانتهاء الحرب الأهلية في لبنان، وآمن الشعب بعد أن لقَّنُوه لعدة سنوات -كما ذكرت- بأن الحرية لا يمكن نيلها إلا بالقُـوَّة، واغترب العقل أكثر، وظهرت قناعة إسقاط الحُكم الواحد الذي وجد نفسهُ مُرغمًا على الاعتراف بالتعدُّدية، وفتح حرية الصحافة، وتهيئة أجواء الانتخابات تفاديًا لكارثة أكبر.
واستغلَّ الإسلاميون الجزائريون النصر الذي حقَّقوه في أَفغانستان بدعم من القوة العُظمى "التي لا يُمكن لها أن تتخلى عنهم!" والتي هي مُلزمة (في اعتقادهم) على ردِّ الجميل. ولعبوا على الأوتار الحميمية الجميلة للمُعتَقَد، مستغلِّين الجهل والبطالة وتاريخ الحكومات الاشتراكية الفاشل والتسرب المدرسي بعد فشل برنامج المنظومة التربوية، ومبادئ مُحاربة الطاغوت... إلخ. فكان لهؤلاء المنبوذين من حُلم أفغانستان أن يفوزوا في أولى انتخابات التعددية الحزبية!. وانتصر حُلم القوَّة الفقيرة الضاربة، تمهيدًا لخلافة فتية ستصحو بعد أكثر من ستين سنة من العلمانية والكفر والحياد في أرض الإسلام!...
ولكن، سياسة العسكر الذكية والتي جهلها الإسلاميون، مثلما جهلوها في أفغانستان ولم يتعلَّموا من دروسها، دفعتهم إلى الدخول في انتخابات بلدية، كما ذكرت آنفًا، كان فيها الفوز ساحقًا، ولكن الفشل فيها ذريعًا؛ بسبب نقص الحنكة والرغبة المتعجلة في اقتسام الغنائم، وفجاجة التعامل مع شعب تعدَّدت مشاربه الفكرية والعرقية ويصعُبُ تطويعه بأيديولوجية متطرِّفة مهما كان منبعها.
وحين احتدم اقتسام (الغنائم) بين المُنشقين من العسكر لصالح الإسلاميين وبعض العناصر الغنية في البلاد وأحسّت القوة الكبرى الخفية بتهديد مصالحها، قام الانقلاب الشهير الذي أوقف المسار الانتخابي الثاني الذي آلَت مرحلتُه الأولى إلى الإسلاميين الذين عرفوا كيف يلعبون على الأوتار الحسَّاسة للشعب "العاطفي جدَّا" الذي يكفيه شرارة بسيطة حتى يُحيلها نارًا عارمة لا تهدأ إلا بنار أُخرى أكثر عاصفة. وهذا ما حدث فعلاً.. وانتقل الجهاد من الأرض التي خـيـَّبت آمالهم (أفغانستان)، إلى الجزائر التي أصبحت مجلبة لكل صيادي العالم الذين ضاقت بهم السُّفن. وأصبحت حرب الشوارع والسيارات المفخخة زادنا اليومي لمُدَّة فاقت العشر سنوات وانتقلت الحرب توازيًا مع ذلك إلى الجبال والدشور والقُرى التي يسهُل فيها بسط النفوذ دون عناء، وأصبح السفر من مدينة إلى مدينة مُحرَّمًا على الشعب لكثرة ما فقد ضحايا أبرياء في نقاط التوقيف المُزيَّفة للشرطة والعسكر، فاغتُصبت نساؤه، وذُبِّح شبابه، وأبيدت قرى بأكملها.
وتحت تلك الضغوطات، غير المتوقعة من قبل الدولة (والمتوقعة عند أوساط خفية أُخرى تابعة إلى جهاز الدولة ذاته والتي كانت مصالحها الاقتصادية تتطلب المزيد من الفوضى والمزيد من الدماء؛ من أجل المرور الأكيد وسط العاصفة دون علم الضحية) اضطرت الدولة إلى إعداد برنامج خاص للمُصالحة الوطنية، فاستجابت العديد من الفئات المُسلَّحة إذن للنداء، ونزل الجيش الإسلامي للإنقاذ إلى الثكنات التي تمَّ فيها تسليم الأسلحة، وإعادة إدماج عناصره في المُجتمع من جديد. وأما الجناحُ الإسلامي المُتشدِّد، الجيش الإسلامي المسلح، وجماعة الهجرة والتكفير (الذي سيتحول فيما بعد إلى جماعة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) فإنه ظل متحصنًا في الوديان والجبال الخالية والصحاري المترامية الأطراف، لاهثًا وراء حلمه الأبدي!. ورغم القضاء على العديد من عناصره النشطين، واستسلام بعض قادته بعد اتفاقيات وصفقات كثيرة مع الحكومة الحالية، ضاربة في الغموض، فإنه لا يزال يزاول بعض أنشطته التي تقلصت مقارنة مع مرحلة العشرية السوداء، ولكنها ما زالت تضرب بأطنابها في عمق الأمن الوطني الذي لا يزال بدوره غائبًا حتى هذه الساعة.
لقد آمن الشعب بالمُصالحة الوطنية، وأوقف الحرب الأهلية، بفضل عزيمة أبنائه والدماء الغزيرة التي سالت، ولكن الدولة لم تزل تُراوغ، وتبحث عن المشاكل التي أُُجزم أنها، لو اشتعل فتيلها هذه المرة أيضًا، فإنها لن تُبْقي مكانًا واحدًا للمنطق على هذه الأرض مستقبلا.
هذا هو مصيرنا... قدرنا الذي هو نتاجُ تراكمات تاريخية كثيرة، يعسُر الخروج من ربقتها... شعبٌ جامح. غير قابل للترويض. مُحبّ حدَّ الجنون إذا ما سعى إلى ذلك، وهدَّام حدَّ التطرُّف إذا ما سعى إلى ذلك. إن لشعوب كهذه مادةٌ خام، لو تم َّ استغلالها بشكل حكيم، فسيكون منها نور عظيم يخدم الأمة العربية في العُمق، وأما إذا ما أسيء استخدامُه، فإنه سيكون بمثابة القنبلة الموقوتة التي تهدِّد مصير الكثير.
* ألستم نادمين على انفصالكم الدموي عن فرنسا؟
- إن الجسد الطهور لا يندمُ أبدًا على تخلُصه من الدَّنس. وفرنسا المُستعمِرَة، كانت قمة الدَّنس، من تشويهها للهوية، وتضليلها للشعب وسرقة لثرواته التي كانت الأفضل على مستوى جميع بلاد البحر الأبيض المُتوسِّط -قبل أن تدخُل فرنسا-، وتشريد لأبنائه عبر الجزر البعيدة في أمريكا اللاتينية..
* ألم يكن من الأفضل لكم لو ظللتم تحت علاقة خاصة مع فرنسا بدون التخلي عن الإسلام؟
- للأسف، إنَ السنين التي أعقبت خروج فرنسا مُخلِّفة وراءها خرابًا لا يُمكن وصفُه، كانت سنين قاسية على الشعب الجزائري الذي أخذ يُعيد بناء بيته بشكل بسيط، ولكن بأنفة وعزة نادرتين، كان قائمًا عليهما الرئيس الراحل هواري بومدين الذي عرف كيف يُطوِّعُ "المجنون" من العسكر، ويكبح مجاهل الطبقة الغنية بما أملته عليه ظروف المرحلة... هذه المرحلة التي لم تَطُل كثيرًا؛ إذ تمَّ اغتياله سنة 1978 من قبل قوى الخفاء الضارة التي فتحت العنان أمام التَّرف، والبذخ وسرقة الشعب التي بلغت أكثر من 30 مليار دولار في ثمانينيات القرن المُنصرم.. 36 مليارًا بالتحديد..
قوى الخفاء تلك، كانت وما زالت عَمِيلة بامتياز للمُخابرات الفرنسية التي كانت تهيئ لها كل شيء من خطط اقتصادية، إلى تعليمية، إلى عسكرية إلى انتخابية مُنمَّقة بشكل لا يبعثُ على الشك... وطبعًا لم يكن هذا من أجل عيون الجزائر المسكينة، وإنما من أجل عيون حقولها البترولية والغازية التي لا تريد فرنسا أن تغفر لنفسها جريمة إخلائها، بعد أن فشلت في مفاوضات ضمِّها لها بعد الاستقلال، ثم تأميمها من قبل السلطات الجزائرية في 24 إبريل 1971 تحت سيادة هواري بومدين... الرئيس المُغتال.
إن البقاء تحت راية اغتصاب الشعوب، من قبل شعوب أخرى، بقاء مستحيل، ومنطق مُزمنٌ، أعتقد بأنه لن يكون أبدًا قرينًا بالأبدية.
* ألا يحاول كل العرب الحصول على جنسية أجنبية لضمان فرص أفضل؟
- لا أُخفيك بأنني لستُ من المُتشبثين بالهوية العمياء ولا بالشوفينية الوطنية، وإنني أؤمن بأن الإنسان مُطالب بالسعي نحو الحياة الأفضل، قدر الإمكان، وبالقدر الذي تُفرزهُ إرادته وثقافتُه التي تغذّى بها، وبالمكانة التي يشغلها في المجتمع، وبالحيِّز الزمني الذي يكون في متناوله، وبالبصيرة التي يحتكم إليها... وهذا قد يتأتى في أي مكان على هذه الأرض، بشرط، أن يتم ضمان تلك النقاط "الحساسة" والضرورية لكل من أراد الحياة كريمًا.
* أليست إيران فارسية وبرغم ذلك مسلمة؟
- إن الفُرس لم يستعمروا بلاد فارس. إن الاستعمار شيء دخيل على الجسد كالفيروسات تمامًا. ومن أجل القضاء على هذه الفيروسات وجب القيام بحملة مضادَّات قبل أن يستفحل الدَّاء، وتتراكم الآلام التي تجعل من بعض الدول كما يقول المُفكّر الجزائري الكبير مالك ابن نبي: قابلة للاستعمار.
قد نتلاعب بالكلام أحيانًا، وننعت الأنظمة العربية الديكتاتورية الظالمة بالمُستعمرة لشعوبها، ولكنها في الحقيقة، أنظمة مريضة وليست أنظمة مستعمرة، على اعتبار أن أغلب الطبقة الحاكمة فيها والتي هي من عامة الشعب ارتقت إلى مناصب سلطانها، عن طريق القوَّة أو الاقتراع، ثم زاغت عن أهدافها النبيلة التي هي خدمة الشعب... حتمًا، سيأتي يوم رفس هذه الأنظمة المريضة -بحكم طبيعة المادة-، إن عاجلاً أم آجلاً.
* ألا يتمنى كل جزائري لو هاجر فرنسا وحصل على الجنسية؟ وهل ما حدث بعدها كان أفضل مما لو ظلت الجزائر فرنسية؟
- لو أنك سألت والدي هذا السؤال لقام على الفور، وقتلك! صدّقني، لو ظلت الجنسية الفرنسية، آخر جنسية أُخيَّر في انتقائها، لما اخترتها... إنها جنسية آلمت أجدادي كثيرًا في صميم جذورهم. فرنسا بلد جميل وثقافتُه من الثقافات الغنية جدًّا التي خدمت الإنسان، وأنا من المُستفيدين كثيرًا من النتاج الفكري الفرنسي ومن المُتحدِّثين يوميًّا بنسبة تفوق الثمانين في المائة باللغة الفرنسية. ولكن فرنسيَّتي، ليست فرنسية الجندي العنيف الذي طمس ماضيَّ وربَّى الكثير من الكلاب التي تعضُّ أهلي وأصدقائي اليوم... إن فرنسيَّتي التي أختار التعامل معها، وبها أحيانًا، فرنسية فولتير وبالزاك وهوجو والمواقف العظيمة لجان بول سارتر وميشيل فوكو وغاستان باشلار وجاك دريدا...
إن في داخل كل جزائري، منفى اسمه "فرنسا"... هروبًا أو اندماجًا. فحتى هذه الساعة، ما زالت هذه الخطيئة التاريخية، تسوق أغلب تصرفاتنا.
طبيب وكاتب من زوار "إسلام أون لاين.نت"
نقلته الى اسواق المربد الشاعرة صليحة نعيجة