الرائد العربي والشاعر العبقري
شغل الناس بروائع قصيده ، وحرك القلوب بحسّ وطنيته وقوّة صموده وعناده ، وقفز حدود المساحة المكانية والزمانية التي رافقته في مسيرة حياته لتحقيق ما يصبو إليه..
بانت عظمته في رباطة جأشه ؛ اقتحم سرايا الملوك والوزراء وساهم في كل ألوان وأنواع المسؤوليات الوطنية فعيّن مديرا للشرقية ، ووزيرا للحربية ، ووزيرا للتعليم والأوقاف ، ورئيسا للوزراء ، ونصيرا لثورة الأحرار في رفضها للتدخل الإنجليزي والفرنسي في مصر زمن توفيق مما عهد لأعداء الثورة أن تصدر الحكم عليه بالنفي مع أصحابه الضباط الأحرار ليقيم في المنفى سبعة عشر عاما خارج وطنه ..
اشتدت عليه وحشة الغربة وقسوتها ،واستمكن الحزن قلبه وضاقت عليه دنياه بعد أن غدر الصحب به ، وكفّ بصره ، وفقد الأمل بالعودة لوطنه ؛ فلم يرَ معينا ولا سلوى لشكواه وحسرته إلا بالعودة إلى ربّة الشعر ملهمته ليبثّها همومه وأحزانه ....
ومما جاء في مقدمة ديوانه لـ محمد حسن هيكل
( وهذا الإيمان بالشعر هو الذي جعله يتوّفر عليه في المنفى ويجعله بغية الحياة فيه . فلقد أيس من العودة إلى الوطن ، إذ أبت عليه نفسه أن يضعف فيسترحم كما فعل زملاؤه . بل إنّ له في هذه الفترة لأبياتاً ثائرة لا تقلّ عنفاً عن أشدّ الثورات المسلّحة . وليس طبيعيا أن يكون هذا الشعر وسيلة للعفو عنه . من ذلك قوله :
فحتّام في دياجير محنة = يضيق بها عن صحبة السيف غمده
إذا المرء لم يدفع يد الجور إذا سطت = عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده
عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش = بها بطلاً يحمي الحقيقة شدّه
وإني اُمرؤ لا أستكين لصولة = وإن شدّ ساقي دون مسعاي قدّه
تقدمت به السنّ ، وطال به النوى ، وتخطّف الموت في أثناء ذلك ابنته وزوجه وأصحابه ، بدأ بصره يضعف ، وصحته تضمحلّ ، ونذر الفناء تدبّ إليه . هنالك رأى أولو الأمر أن يعود المنفيون من سيلان إلى بلادهم . وعاد البارودي مهيض الجناح محطماً ليس فيه (( غير أشلاء همّة في ثياب )) لكنه عاد يحمل معه كتاب الخلود الذي لا يبلى ))
إنه الرائد العربي والشاعر العبقري
محمود سامي البارودي
لقبه ( البارودي) نسبة إلى إيتاي البارود إحدى بلاد مديرية البحيرة ، وهو من أسرة كريمة سليلة الفخر والأنساب ، ونجل الأثرياء والمثقفين النجباء تنتمي أصولها للمماليك ؛ ترعرع في أحضانها ليعيش حالة الحرمان واليتم بعد أن فقد والده ولم يبلغ السابعة من عمره ..
أمه ذات الأصول الجركسية العريقة أبت إلا أن تبث فيه حب العلم والأدب ، فجمعت له كبار المعلمين لتدريسه في مختلف العلوم سعيا منها أن تجعل منه كبيرا له شأو في عصره مما ساعده على دراسة موهبته الشعرية التي أودعها الله فيه منذ نعومة أظفاره فكان له الفضل في إحياء الشعر وبعثه ليكون أول ناهض للشعر العربي في العصر الحديث من كبوته ...
دخل الفخر والمجد من كل أبوابه ، وأعان نهضة الأحرار والثوار في الدفاع عن وطنه وهو يتطلع إلى نهضة جديدة زمن إسماعيل الذي أراد لمصر أن تبلغ مكانتها بين الأمم الأوربية وتكون القاهرة باريس الشرق في عهده ..هذا الطموح كان له أثره الواضح لدى البارودي الذي كان حينها في معية قصر إسماعيل باشا وكاتم سرّه ..
بدأت الأنظار تتطلع إليه نظرة إعجاب وتقدير وهو يشدو بشعره الذي لم يكن يألفه أهل زمانه مما جعله يسمو ويرتقي لمكانة فحول الشعراء الأوليين في الجاهلية والعصور الأولى من الإسلام ، ويمهد السبيل لأمير الشعراء أحمد شوقي ، وحافظ إبراهيم ، وإسماعيل صبري ليسيروا على نهجه ..
عكف على دراسة دواوين الشعر الأموي والعباسي ، وأتقن اللغة التركية والفارسية ودرس آدابهما على ضفاف البوسفور حينما كان في الآستانة لكن هذا لن يغنيه أن يبقى منافحا عن اللغة العربية وأصالتها ليكون رائدا من رواد النهضة العربية الحديثة ، وسيدا من سادات الفكر والأدب ..
ثورة الشباب التي كانت تهزّه هزّا عنيفا في العشرين من عمره دفعته لئن يبحر مع ديوان الحماسة ليطرب مع صهيل الخيل ويشدو مع قعقعة السيوف وهو يطمح أن يخوض الحرب مع الخائضين لتكون غرض شعره ...
استطاع أن يخمد الثورة التي نشبت في جزيرة أقريطش ( كريت ) على الدولة العثمانية في عهد إسماعيل ، وقد أنعم عليه السلطان العثماني بالوسام العثماني من الدرجة الرابعة مما أوحى إليه أن يذكر في نونيته الرائعة مفاخر الحرب ومجدها ...
قوم أبى الشيطان إلا نزغهم = فتسللوا من طاعة السلطان
ملأوا الفضاء فما بين لناظر = غير التماع البيض والخرصان
فالبدر أكدر والسماء مريضة = والبحر أشكل والرماح دواني
والخيل واقفة على أرسانها = لطراد يوم كريهة ورهان
وضعوا السلاح إلى الصباح وأقبلوا= يتكلمون بألسن النيران
غمس مداده في سجلات التاريخ والفخر ، وغمرها ببحور المجد التليدة وعواطفه الملتهبة المخضبّة ، وصبغها بمختلف ألوان الشعر العربي الأصيل لينعم كل من دخل واحته بروضته الغنّاء الفواحة التي جمعت بين طيات صفحاتها ألوان الحماسة والفخر والمجد ، وحب الفروسية والشجاعة ..
طموحه يدفعه أحيانا للحكمة والحنين ، وأحيانا أخرى لنزوات الشباب وثورة الكهولة ولا ينسى النكسة التي أصابت النهضة والثورة لتبقى قصائده أشبه بالموج الهادر في لوحاتها الفنيّة التي لم تترك جانبا من الحياة إلا وصبغته بأزهى الرسوم والألوان .