السلام عليكمأثناء بحثي في محرك البحث غوغل وجدت هذه المقالة المميزة أحببت نقلها لهذا الموقع المميزمكانة أورشليم
عند آباء اسرائيل وملوكهم
من المثير للانتباه حقاً، الا نجد ذكراً لمدينة أورشليم ـ التي يتمسك بها الاسرائيليون اكثر من دينهم نفسه ـ في الاسفار الخمسة الاولى من العهد القديم والمسماة بالتوراة، والتي تعترف بها كل الفرق والطوائف اليهودية، حيث تبقى بقية أجزاء العهد القديم البالغة أربعة وثلاثين سفراً محل اختلاف، لا بين اليهود فحسب، بل بين المسيحيين في العالم باسره كذلك.
لم يذكر (الآباء) الأوائل للإسرائيليين القدس، فلم تكن هذه المدينة تعتني إبراهيم (عليه السلام) من قريب أو بعيد، ولم يذكرها على الاطلاق ابنه إسحق ولا حفيده يعقوب ولا الاسباط الإثنا عشر.
لم يذكرها كذلك ـ وربما لم يعرفها ـ موسى (عليه السلام)، ولا الخارجون معه من مصر، ولا حتى يشوع الذي بدأ الغزو الاسرائيلي لفلسطين.
ومع ان ملك اورشليم ـ ادوني صادق ـ قد تحالف مع ملوك آخرين، حيث توجهت قوات التحالف الاموري الى جبعون والجلجال في طريقها لمحاربة قوات الغزو الاسرائيلي بعدما شاع عنهم ما ارتكبوه من فظائع في حق المدن الفلسطينية التي حاربوها، ومع أن يشوع قد تمكن من هزيمة قوات التحالف، بل وقتل يشوع ملوك التحالف الخمسة (وعلقهم على خمس خشب وبقوا معلقين على الخشب حتى المساء) (يشوع 10/26)، مع كل هذا، لم يخطر ببال يشوع احتلال أورشليم وتركها لمن بقي من اهلها بعد الهزيمة، (إذ رآها غير ذات قيمة بالنسبة له ـ ولمن معه من قوات غازية ـ من الناحية الاستراتيجية)[1]، وظلت اورشليم خلال قرنين ونصف القرن من الزمان ـ هي الفترة الفاصلة بين يوشع وداود ـ في ايدي اليبوسيين، على نحو ما يقر ذلك الباحثون بلا اختلاف[2].
ولم تكن لأورشليم أية خصوصية أو قداسة في عصر القضاة، وهو العصر الفاصل بين يشوع والملكية، ودليل ذلك ما جاء في سفر القضاة:
(وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوا وضربوها بحد السيف، واشعلوا المدينة بالنار) (1/8).
فلو أن ثمة تقديس او حتى احترام لأورشليم، ما وصل الامر الى إهلاك من فيها، وحرقها بالنار.
وفي عصر داود ـ كما تروي أسفار الكتاب المقدس ـ لم تكن للمدينة في نفس داود وأولاده أية قداسة او مهابة.
فسفر صموئيل الثاني يخبرنا ان داد قد زنا مع زوجة أوريا الحثي في أورشليم (11/1 – 26).
وأمنون بن داود قد سار على سنة أبيه في الزنا، وزنا بأخته ثامار في أورشليم كذلك (13/1 – 15).
وأبشالوم بن داود يؤكد عدم قداسة أورشليم ويدنسها بالزنا أيضاً، وعلى مرأى ومسمع من كل بني اسرائيل، حيث زنا بسراري أبيه، على نحو ما تم تفصيله في نفس السفر 16/15 – 23).
وتآمر أبشالوم بن داود لقتل أخيه أمنون في أورشليم (13/28 – 35) دون أن تكون للمدينة ـ آنذاك ـ أية حرمة أو مكانة في النفس الاسرائيلية.
داود وأورشليم
كانت أورشليم في زمن داود أهم مدن الداخل من الناحية الاستراتيجية، فهي تتحكم في الطريق الرئيس بين الشمال والجنوب، وتشكل (الوصلة) بينهما، وكان فشل بني اسرائيل ـ حتى ذلك الوقت ـ في الاستيلاء عليها سبباً من أهم الاسباب التي أدت الى ظهور تجمعين منفصلين من اسباط بني اسرائيل، ومن ثم قيام مملكتين منفصلتين: اسرائيل شمالاً، ويهوذا جنوباً، ولم تكن أورشليم آنذاك تابعة أو ملحقة بأي من هاتين المملكتين، بل كانت ارضاً محايدة).
ويذكر انه بعد موت شاؤل ـ اول ملك في تاريخ بني اسرائيل ـ انقسم القوم الى فريقين، الفريق الاول قام بتنصيب (إيشبوشت بن شاؤل) ملكاً على كل اسرائيل، بينما قام الفريق الثاني ـ وهم سبط يهوذا ـ باختيار داود وتنصيبه ملكاً في حبرون (صموئيل الثاني 2/8 – 11)، ولم يكن اختيار داود هنا، والذي تم بوساطة سبط يهوذا، ذا صبغة مقدسة، فهو لم يعين من قبل أي نبي، ودليل ذلك هو إجماع الاسباط الاخرى على تعيين (إيشبوشت) بن شاؤل[3].
ونشب صراع سياسي بين بيت شاؤل وبيت داود: (وكانت الحرب طويلة بين بيت شاؤل وبيت داود، وكان داود يذهب يتقوى وبيت شاؤل يذهب يضعف) (صموئيل الثاني 3/1).
واستمر الصراع الذي استطاعت (الاغتيالات الداخلية) ان تحسمه لصالح داود، حيث تم اغتيال (إيشبوشت)، وجاء جميع اسباط اسرائيل الى داود الى حبرون وتم تنصيبه ومسحه ملكاً من قبل شيوخ اسرائيل (صموئيل الثاني 5/1 – 3).
وتخبرنا روايات سفر صموئيل الثاني مباشرة بعد تنصيب داود ملكاً على كل اسرائيل بتوجهه ورجاله الى (اورشليم الى اليبوسيين سكان الارض) لاحتلال المدينة.
وقضية احتلال داود لأورشليم لا تحظى بالاهتمام اللائق بها إذا قارنا تفاصيلها مع ما يزعمه الاسرائيليون من مكانة للمدينة في نفوسهم وتاريخهم، ومن ثم ينبغي ذكر هذه التفاصيل للوقوف على دقائقها وما تعكسه لنا من ملابسات.
(كان داود ابن ثلاثين سنة حين ملك، ملك اربعين سنة، في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر، وفي أورشليم ملك قرناً وثلاثين سنة على جميع اسرائيل ويهوذا، وذهب الملك ورجاله الى أورشليم الى اليبوسيين سكان الارض، فكلموا داود قائلين: لا تدخل الى هنا ما لم تنزع العميان والعرج، أي لا يدخل داود الى هنا، وأخذ داود حصن صهيون، هي مدينة داود، وقال داود في ذلك اليوم: إن الذي يضرب اليبوسيين ويبلغ الى القناة والعرج والعمى المبغضين من نفس داود، لذلك يقولون لا يدخل البيت أعمى أو اعرج، وأقام داود في الحصن وسماه مدينة داود، وبنى داود مستديراً من القلعة فداخلاً، وكان داود يتزايد متعظماً والرب إله الجنوب معه) (صموئيل الثاني 5/4 - 10).
النص السابق على نحو ما نرى ـ وهو الوحيد الوارد حول احتلال داود لأورشليم ـ غامض تماماً.
فهو لا يفيد غزو المدينة او احتلالها على الاطلاق، وانما يشير وحسب الى إقامة داود في حصن صهيون.
وليس ثمة قتال بين داود ورجاله من جانب، واليبوسيين سكان المدينة من جانب آخر.
ولا نجد أثراً لتدخل (إله الجنود) في تلك الواقعة، على عكس تدخلاته المباشرة، وتخطيطه وقيادته لمعارك يشوع.
يقولون الاسرائيليون موشى برلمان وتيدي كوليك: (لا يتضح لنا من مرويات العهد القديم واحداثه كيف تغلب داود على اليبوسيين سكان اورشليم في بداية ملكه، وربما قبل ان يمسح ملكاً على كل اسرائيل، أو بعد ان حسم امره مع الفلسطينيين، لم يستطع كثير من العلماء حل تلك المسألة، وهناك حيرة كبيرة بشأن خطة احتلال المدينة)[4].
وتبقى قضية القناة والعرج والعمى محيرة لمفسري وعلماء العهد القديم.
لم نلاحظ ضمن ملابسات الغزو للمدينة إذن ما هو معهود في تلك المعارك المقدسة التي خاضها الاسرائيليون من قبل، فليس ثمة أمر إلهي، ولا وعد رباني بالنصر، ولا تخطيط من قبل إله اسرائيل، ولا طقوس هنا تتعلق بالعمليات العسكرية.
والأكثر من ذلك أنه بعد الاستيلاء على المدينة، لم يقم داد ومن معه ـ كعادة الاسرائيليين آنذاك ـ بذبح السكان الاصليين وإبادتهم، بل حتى ولا بطردهم، بل أبقاهم، وبذل جهداً خاصاً في كسبهم الى جانبه، وفي الوقت نفسه، وجه اهتامه ـ على صعيد عسكري ـ بترميم أسوار المدينة، وباحتلال قلعة (صهيون)، وأقام ثكنات لرجاله، وبنى قصراً لنفسه، ثم أتى بعد ذلك (بتابوت العهد) الذي كان أثمن أثر ديني يملكه الاسرائيليون ويعد رمز وحدتهم، وجعله في حماية عرشه وجيشه، رامياً من وراء ذلك الى دمج هويته كملك بهوية الشعب وديانته، وأميناً للعرش، حتى يظل في سلالته من بعده[5].
وهنا يعن لنا سؤال: لماذا اختار داود مدينة اليبوسيين ـ أورشليم ـ لينقل اليها عاصمة ملكه من حبرون؟!
هل ثمة توجيه إلهي، وأمر سماوي، يتعلق بقداسة المدينة ومكانتها عند الرب وعند الشعب؟
إن العوامل الكانة وراء اختيار داود لأورشليم كي تكون عاصمة مملكته الموحدة كانت عوامل سياسية واستراتيجية بحتة.
فمن الناحية السياسية، كان استمرار داود في قيادة شعبه من مدينة حبرون (الخليل) التي ترتبط باسباط الجنوب من شأنه ان يوحي بانحيازه الواضح الى مملكته السابقة ـ مملكة يهوذا ـ قبل توحيد الشمال والجنوب، ومن ثم كان عليه إختيار (مدينة محايدة)، لا تنتمي للشمال أو الجنوب، وفي نفس الوقت كانت قريبة من ديار سبط يهوذا، عشيرة داود، لكنها ليست من نصيب أي سبط من الاسباط[6]، وفقاً (لتقسيم الاراضي) الذي قام به يشوع إثر غزو فلسطين وأرض كنعان.
اما من الناحية الاستراتيجية، فإن أورشليم وعرة المسالك بالنسبة للقادمين من الاردن او البحر أو الشمال، وهي حصينة غير مكشوفة للغزاة، وكانت تقع في وسط عشائر فلسطينية قديمة، يبدو انهم كانوا يميلون الى المسالمة اكثر من اهل الشمال[7]، لقد كانت أورشليم ذات تحصينات منيعة، وتقع في مكان مرتفع وسط التلال، مما يحقق لها الامن من أي اعتداء مفاجئ يقوم به الفلسطينيون او قبائل سيناء والنقب، أو أي من المملكتين الجديدتين: مملكة عمون ومملكة موآب على الضفة الشرقية لنهر الاردن[8]، ويؤكد لنا تلك الاهمية الاستراتيجية ذلك التركيز من قبل داود على الاستيلاء على جبل أو حصن صهيون وكانت فيه قلعة أمامية لليبوسيين يدافعون منها عن أورشليم.
ولما كان داود قد استولى على أورشليم بجنوده هو، فقد أصبحت المدينة ـ وفقاً لعادات المنطقة ـ من ممتلكاته الشخصية، ويعكس هذا المفهوم تغيير اسم المدينة الى مدينة داود (صموئيل الثاني 5/9)، وهناك من يرجح هذا الانتقال السلمي ـ دود حروب او معارك ـ للحكم من أيدي اليبوسيين في أورشليم الى داود والإسرائيليين، إنما كان بمثابة (انقلاب عسكري) تمكن داود وجنوده من خلاله من احتلال مكان الملك اليبوسي وحاشيته المقربة، دون المساس على الاطلاق لا بالمدينة ولا بسكانها، على النحو المألوف في تاريخ الغزوات الاسرائيلية، وربما مهد لذلك أيضاً ما تشير اليه الفقرات العديدة من الكتاب المقدس من تعايش سلمي بين اليبوسيين والاسرائيليين منذ زمن:
(وأما اليبوسيون السكانون في أورشليم، فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم الى هذا اليوم)
(يشوع 15/63).
(وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم، فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم الى هذا اليوم) (قضاة 1/21).
فلولا ان ثمة علاقة بين الغازين الاسرائيليين واليبوسيين سكان اورشليم الاصليين، ما التزم داود العدل والرحمة تجاه المغلوبين، وهو (رجل الدماء) (صموئيل الثاني 16/7).