ما نحن وهذا الكون الدائر من حولنا إلا كوريقات صغيرة في مكتبة عظيمة الأسفار.
والكون الذي تحكمه إرادة هي فوقنا وفوقه محط لما يكون من أعمالنا فسدت أم صلحت ، والطريق أمامنا مفتوح للعمل بهذه وتلك ،فما أحد منا ولد والأغلال في عنقه ، أو أفاق ليجد نفسه حبيس الأوامر التي توجهه وتسيره نحو أحد الطريقين الفساد أو الصلاح، إذ مهما بلغت الأوامر والنواهي مبلغاً فهي لن تصل حد تكبيل الأيدي والأرجل وإغلاق الفم والأعين وتجميد العقل و الفكر، لكنَ إعمار الكون هو الذي يرتبط بما نقوم به إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.
والقلوب التي نملكها وبما بها من خير ندرك سر الحياة، وبإحساسنا المتولد عنها نعرف معنى الوجود هي ما يصلنا بالعالم حولنا و فوقنا ، فما نحن لولا قلوبنا ومن نكون وما نكون لو لم يجعلها الله في صدورنا ، أولم يجعلنا ممن يملكونها.
قلوبنا هي سر ارتباطنا بحقيقة الوجود إن كانت عقولنا هي واقع ارتباطنا بظاهر الوجود ، لذا أعيب على من يقولون بالسير في الحياة تحت راية العقل وحده،فالعقل إن جعلناه مرشدنا الوحيد صيَر حياتنا أفكاراً مجردة، بلا سعادة ولا حزن ولا حب ولا كراهية ، فنعيش ونحن لا نعيش ، وربما نموت ونحن لسنا بميتين.
فالقلب البشري هو محط الخير في نفوس البشر‘ فدون الحب والشفقة والرحمة والإخلاص والإيمان والحزن والفرح لا يكون الإنسان إنساناً،ولا ترتفع عنه غشاوة البهيمية الرعناء إلا بسعيه في ركاب العلو بتنمية تلك العواطف الخيرة والتعبد في هيكل ترويض الشهوات والحد من سلطانها،ذلك الهيكل الذي كان سر ظهور الديانات الوضعية التي سعت لخلق عالم الأبدية انطلاقاً من الأرض لا صعوداً نحو السماء.
والقلب البشري الذي يحمل كل ذلك، ويصنع بناءً عليه قصر السمو الإنساني المشمخر أو هاوية الوحش البهيمي التي لا قرار لها، إنما هو مملكة لا حدود لسلطانها ، إن شاء الإنسان سعى بها نحو السمو فغدت عنده سلماً ذهبياً يصله بالملكوت السماوي المطلق فيخلد فيه دون رجوع ولا أوبة.
وتلك المملكة التي تسكن أجسادنا وتقبض بزمام قضائها على أرواحنا أكثر الممالك جهلاً لدينا ، فقد يعرف العالم عدد المجرات والكائنات وأحوالها، لكنه لا يعرف شيئاًَ ولو قليلاً عن سر ما يعتلج في داخله ، في تلك العضلة الحمراء العجيبة . وذلك دليل واضح على أن القلب و مملكته غير المحدودة إنما هما من شأن إلهي لا يحيط به البشر ، ف(و في أنفسكم أفلا تبصرون)ولو شاء الملحدون أن يؤمنوا لكان كافياً أن ينظروا في حال النفوس التي بين جوانحهم ليخبوا في طريق الإيمان خبباً، ولكن (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً).
وعندما يجنح بعض من لم يدركوا حقيقة الأمور، و اكتفوا بظاهر الحياة وعموا و صموا عما سواه إلى حد سلطان العقل السامي وتحويله إلى العقل المجرد بدعوى ضبط الشهوات والرغبات فهم إنما يسيرون نحو الجنة من بوابة جهنم، لأن العقل المجرد يجعل الإنسان صنماً أثرياً كالحجارة المعروضة في متاحف اليونان ، وإن أردنا من الإنسان أن يخضع لما يسمونه العقل وحده فكأنما نقول له اخضع لنداء شهوتك و مصلحتك المغلفة بإطار فكري مثله كمثل قشرة نبات ذابلة تتفتت عند أول لمسة يد أو نسمة هواء .
فالعقل مكان المحاكمة الفكرية والمعرفة العلمية ، لا مكان الإحساس والشعور وترويض ذئب الشهوات ليس بإبراز سيف العقل الصقيل في وجهه ، بل بتسليط نور الخير و أشعته المنبعثة من القلب الصالح عليه ، لأن الظلام قد يحيا مع النار ، لكنه أبداً لا يحيا مع النور .
و إن نظرنا إلى أكثر الناس ازدهاراً في عقولهم وجدناهم يعيشون ازدهاراً مثله في قلوبهم ، فلا فيلسوف ولا أديب ولا عالم ارتقى مرتقى صعباً إلا وهو ذو قلب موار بالأحاسيس يغذي بها نفسه و يزقها إياها زقاً، كالذبالة التي لا يضيء السراج من دونها وهي ليست وقوداً يشتعل ، لكن لولاها ما كان للوقود فائدة.ولذلك فإن كان العقل حوذياً في مركبة الحياة ، و إلى جانبه حوذي آخر هو القلب، سار الإنسان بأمان إلى تلك السعادة التي هي غاية كلٍ منا في داخله و إن لم يصرِح بها .
و يا أيها القلب الإنساني العظيم ، يا سر الإنسانية المنبعث من الأزل ، يا شعاع الإلهية المقذوف في جسد البشر ، يا حامل رسالة إصلاح الكون و السير به نحو السمو اللا نهائي ، نرجو أن تصلح أمرنا لنصلح بك ، و أن تقودنا حاملاً لواء الخير ، فدونك لن تقوم للإنسانية قائمة من غفوتها ، ولن تسترد قدراً من عافيتها ، وسيغدو البشر بهائم عاقلة ليس لها من الإنسانية إلا رسمها ، ومن الحضارة إلا اسمها.