جلس أحد الدعاة مستنداً على جذع شجرة ، في حديقة منزلة وقد بلغ من العمر ستين عاماً وقد كان له عطاء دعوى مميز ، فأخذ يتفكر في أيامه الماضية
، ويتذكر أصحابه وإخوانه الذين كان يدعو معهم ، وكيف أنهم سقطوا في الفتنة ، ونجا هو بعون الله تعالى ، ثم بدأ يسترجع الذكريات ويتساءل :
لماذا فتن فلان ؟
ولماذا ترك العمل فلان؟
لقد كان أصحاب همة ، وأصحاب عطاء وحركة .. فما السبب يا ترى ؟
كما كان أحدهم سبباً في هدايتي ودعوتي ، ولكن لا أعرف لماذا ترك الدعوة ؟
هل فتن بالدنيا ؟ لا أظن ذلك ، أم بالمال ؟ إنه أكبر من ذلك ؟ أم بالنساء ؟
لا أعتقد ذلك ، لأنه كان ينصحني بكيفية التعامل مع النساء .
ثم رفع الداعية بصرة إلى السماء وقال :{اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك }.
وفي هذه الأثناء ، قطع تفكيره ودعاءه صوت جرس المنزل ، فقام وفتح الباب وإذا بالفتنة تقول : هل تسمح لي بالدخول ؟
الداعية : وهو ينظر إليها : وهل تدخلين زائرة أم فاتنة ؟
الفتنة : لا بل زائرة .
الداعية : تفضلي .ثم أصطحبها إلى الحديقة ، حيث كان جالساً ، فجلس متقابلين .
الفتنة : إن معنى أسمي هو { الابتلاء والامتحان والاختبار ، وأصلها مأخوذ من قولك فتنت الفضة والذهب إذا أذبتها بالنار لتميز الردئ من الجيد .
وهكذا أنا أفتن الناس حتى أميز من كان معدنه فضة أو ذهب .
الداعية : وبما أنك الخبيرة بذلك ، فكيف يكون ذلك بيننا معاشر الدعاة ؟!
الفتنة : فإني أخرج لدعاة بثوب قصير فإن ثبتوا خرجت إليهم بثوب أطول فإن ثبتوا ذلك .كان ذلك دليلاً على قوة إيمانهم وأن معدنهم من الذهب ..
ومن كان غير ذلك وسقط في حبائلي كان معدنة رخيصاً.
الداعية : ومن أي صنف أنا ؟
الفتنة : لقد حاولت معك كثيرا ولكن لم أنجح .
الداعية : ومتى كان ذلك ؟
الفتنة : لقد تمثلت لك أثناء دراستك لأصرفك عن الدعوة فكنت موفقاً في تقييم وقتك وعطائك .
*ثم تمثلت لك أثناء زواجك لأفتنك بالنساء فلم استطع ، بل كانت زوجتك عوناً لك على الدعوة .
* ثم تمثلت لك في عملك فكلما رشحت لمنصب زينته لك ، ولكنك كنت ثابتاً جلداً .
وهكذا كنت أخرج الناس على الدعاة فمن ثبت كتب في ديوان الرجال كما أخبر أبو سعيد البصري – رحمه الله - عندما قال : { الناس في العافية سواء ، فإذا نزل البلاء تباين عنده الرجال} .
الداعية : ولكن هذا غير معقول .. لأني أعرف بعض الدعاة من الرجال ولكنهم فتنوا ؟
الفتنة : لا يمكن كلامك عاماً يا صاحبي ..، وناقش الأمر بموضوعية .
الداعية : على سبيل المثال ماذا عن الداعية أبي ( س) ؟
الفتنة : صحيح أنه كان له قدم في الدعوة ،ولكنه سقط في حب فتاة جميلة كانت تتردد عليه أثناء عمله ، فمن هنا أتى صاحبك ، لقد فتن من عينه.
الداعية : وماذا تقولين في أبي ( ص)؟
الفتنة : أما هذا فقد كانت له تجارة ، وتوسع بماله ومحلاته حتى نسى صلاته.
الداعية : مستغربا ً غريب هذا الكلام .
الفتنة : لا غرابة فيه طالما أن الإيمان قد نقص في القلب ، وبدأ الميل إلى الدنيا ، فإن هذا الجو الذي أتحرك فيه أنا .
الداعية : ولكن هذا الكلام لا ينطبق على الداعية أبي ( ع) لأنه ترك الدعوة ولكنه مازال على إيمانيا ته ومحتفظاً بسمته .
الفتنة : كلامك صحيح ..ولكن أبو (ع ) لم يفتن في إيمانه وإنما فتن في فكره ومنهجه ، فقد اجتهد وتأول حتى انحرف في الفكر الذي تبناه وهكذا سقط .
الداعيالفتنة : أحياناً المرء يعرف أنه قد فتن ، ولكن يعترف بتقصيره ، وأحياناً يقع في الفتنة وهو لا يعلم ، وخصوصاً إذا كانت الفتنة منهجية ، ولهذا قال الزبير – رضي الله عنه متحدثاً عن شعوره في الفتنة التي حدثت بين علي ومعاوية – رضي الله عنهما – قال : { إنها الفتنة التي كنا نتحدث عنها }.
فقال مولاه : أتسميها فتنة وتقاتل فيها ؟
فقال الزبير : { ويلك إننا نبصر ولا نبصر .. ما كان أمر قط إلا وأنا أعلم موضع قدمي فيه غير هذا الأمر .. فإنني لا أدري أمقبل ، أنا فيه أم مدبر}
الداعية : منتهداً لا حول ولا قوة إلا بالله .
ولكن أرى الفتن قد كثرت في زماننا هذا ، فقد يفتن المرء منا اليوم وهو بين أهله وفي منزله .
الفتنة : كلامك صحيح وخصوصاً وسائل الإعلام فإني أعرف داعية نشيطاً ترك الدعوة بسبب لقطه مخلة بالآداب رآها عفوياً في التلفاز أثناء دخوله لمنزله .
الداعية : نسأل الله أن يحفظنا بحفظه ويرعانا برعايته ، وأن يحفظ الجيل الصاعد من الدعاة إلى الله .
الفتنة : ولهذا قال الصحابي حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – { ليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه غلا من دعا بدعاء ، كدعاء الغريق . ويعني ذلك كثرة الفتن فيه .
الداعية : أعوذ بالله من الفتن !!
الفتنة لا تقل ذلك ، واستمع لنصيحة ابن مسعود حين قال { لا يقل أحدكم أعوذ بالله من الفتن ، ولكن ليقل : أعوذ بالله من مضلات الفتن ، ثم تلا قوله تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة }
الداعية : أعوذ بالله من مضلات الفتن ، وأسال الله أن يعافيني – والقارئ منها ، ولكن أخبريني هل من سبيل أسلكه للنجاة منها .
الفتنة : نعم وقد ناقش ذلك ( سيد قطب ) رحمه الله عليه وهو معرض في الفتنة عندما سجن وعذب فكتب وقال : { فأما الذين اتصلت قلوبهم بالقوة الكبرى فهم لا يفتنون بالقوة العارضة التي تخول لهم في الأرض لأنهم يخشون من هو أقوى ، فينفقون قوتهم في طاعته ، وإعلاء كلمته وهم لا يفتنون بألا موال والأولاد }
فالاتصال بالله تعالى كلما كان قوياً كلما كان نسبة ثبات الداعية أكبر وأقوى ، فلا يغتر بالزينة المؤقتة في هذه الدنيا الفانية .
الداعية : وهل تظنين أن هذا الشعور يكفي ؟!
الفتنة : إن هذا الشعور هو الأصل في حفظ النفس ، ولكن ينبغي للداعية ألا تزل قدمه في الفتنة ، وأن يحفظ نفسه لان البداية فيها مهلكة .
كما قرر عبد الله بن المبارك – رحمه الله – عندما قال : ( إياك وبدايات الفتن : من أعطى أسباب الفتنة من نفسه أولاً ، لم ينجح آخراً ، وإن كان جاهداً )
الداعية : أعتقد أن كلامك هذا ينطبق على الفتن إذا كانت من زينة الحياة الدنيا ..
وكني أعرف الداعية ( أبا عبد الحكيم ) لم يفتن من هذا الباب وإنما كانت فتنته من باب المصائب فإنه لم يتحمل مرض ابنه وفشله في دراسته فترك الدعوة من اجل ذلك كما يدعي هو .
الفتنة : كلامك هذا صحيح فقد تكون الفتنة مصيبة تأتي على الداعية فتزعزع ثباته .. ولكن من ملك النفسية العمرية فإنه لا يهتز أبداً .
الداعية : وما هذه النفسية ؟
الفتنة : هى نفسية عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عندما تحل عليه المصائب فإنه يقول : { ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نعم :
أولاً : أنها لم تكن في ديني .
ثانياً : أنها لم تكن أعظم مما كانت .
ثالثاً : أن الله يعطي عليها الثواب العظيم والأجر الكبير.
ثم قامت الفتنة وقالت: والآن يمكنني أن تصرف ، فقد انتهت مهمتي .
الداعية : ولكن لم أنته من تساؤلاتي .
الفتنة : ( وهي تسير متجهة إلى الباب لخروج ) : سأزورك مرة أخرى عن شاء الله تعالى .
الداعية : ( وهو يقف عند باب منزله ) : بقى عندي سؤال أخير .
الفتنة : تفضل .
الداعية : أرى بعض الدعاة يضيعون وقتهم في أمور لا تنفع ، وإذا لزمهم حق في وقت أخروه إلى وقت آخر ، وأحياناً يتكاسلون عنه كطلب علم أو قيام ليلة أو عيادة مريض أو غيرها من الطاعات ، فهل لذلك علاقة بالفتنة أم لا ؟! .
الفتنة : إن لهذا السؤال مبحثاً طويلاً ، وبما ، أنه متعلق بالفتنة فسأجيبك عليه ، وأنقل لك ما حكاه الشيخ القدوة أبو محمد التستري حين قال :
وفتنة أهل المعرفة أن يلزمهم حق في وقت فيؤخرونه إلى وقت ثان
فهذه هي فتنة القد وات والحريصون على استغلال الأوقات ، من الدعاة في سائر الطاعات .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ثم أغلق الداعية الباب وقال وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته . لا تقطعيني
من زيارتك لأني أجد الراحة في مصارحتك .
ثم ضحك وقال : ولكن زوريني لتنفعي لا لتفتني .
اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلببي على دينك ...