كيف تصبح شيطاناً
ــــــــــــــــــــــ
لقد انشغل العم سام ومنذ نهاية القرن التاسع عشر بصناعة المصطلحات عبر علماء لغة التحشيش السياسي، فأخذ يُجيّش المصطلحات ويتمّ ذلك وفق جغرافية المكان، فلكلّ مصطلحٍ المكان الذي يناسبه : الحماية، نشر المعرفة، المساعدة، العطف، وأخيراً الديمقراطية. لكنّه عندما أراد أن يشعل غليونه في نهاية القرن المنصرم ويجلس ليراجع إنجازات المصطلحات، ومن ثمّ يمنح الأوسمة لهنّ وكلٌّ حسب إنجازاته. كان الوهن واضحاً على وجوه المصطلحات، حيث كُنَّ أكثر ما يُشبهْنَ القادة العائدين لتوّهم من معركةٍ داميةٍ.. إنّها مسيرة مائة عام، فأشعل غليونه بقلق، وراح يدفع سُحُبَ الدّخان إلى الأعلى تارةً، ويُمسّد على رؤوس المصطلحات بعطفٍ تارةً أخرى، ثم ملأ كأسه بالفودكا، لكنّه لم يستطع الجلوس، أشغله تعب المصطلحات، هناك قرن قادم وعليه أن يجد مصطلحاً يواكب عصرنة هذا القرن !! بعد أن تثلّمتْ جميع المصطلحات.دلقَ كأسَهُ بعد ذلك ونهض يردّد : اليوم يوم رؤوس، وليس يوم كؤوس ، سحب نَفَساً عميقاً من غليونه ، ثمّ نادى على مريديه للتدارس . وحالما دخلوا عليه بدأ التداول حول القرن القادم والمصطلحات التي يجب أن تواكبه، كان النقاش حادّاً لكن لم يتأتَّ لأحدٍ لأن يجيء بمصطلح يقنع فيه العم سام، على الرغم من كثرة المقترحات : الأبوّة، الأخوّة، الصداقة، الحرص... إلخ.. هكذا فُضَّ الاجتماع دونما نتيجة تُذْكَر، على الرغم من الجوائز المغرية التي وضعها العم سام لمن يستطيع أن يأتي بمصطلح عصري.ملأ كأساً جديدةً بعد خروج المجتمعين، وراح يمسّد على ظهر الكرة الأرضية التي صنع لها مجسّماً على شاكلة كرة القدم تارةً، وأخرى يبحث في معاجم اللغة عن مخرجٍ لهذه المعضلة، لكنّه رشف الرشفة الأخيرة من كأسهِ وبدون جدوى، نهض بعدها وهو يحمل الكرة بين يديه لا يعلم ماذا يفعل، وحال وصوله إلى حديقة المبنى طرح الكرة أرضاً ثمّ ركلها بقدمه نحو كلبه الذي كان على مقربةٍ منه، ولربّما للسبب نفسه، هرَّ كلبَهُ وهو يُرجعها إليه، ففجّر هذا الهرير موهبة العمّ سام اللغوية، فتناول الكرة، ودخل مكتبه مسرعاً بعد أن قبّل كلبه بين عينيه، ثمّ جلس على كرسيّه بعد أن وضع الكرة تحت قدمهِ وراح يركّب الحروف ، حيث أضاف ألفاً قبل الهاء ، ثمّ أرجع الراء لتسبق الهاء ، وأخذ ينطقها بطريقةٍ هجائيةٍ : إ.. ر.. ﻫ.. / ردّدها أكثر من مرّةٍ، لكنّه لم يستطع أن يتمّها، فملأ غليونه الذي تناثر ما بداخله أثناء هرولته وخرج إلى الحديقةِ مرّةً أخرى علّه يجد مخرجاً ، لكنّه لم يتابع إلى الحديقة، فحالما رأى كلبه قفز إلى الأعلى ، على الرغم من نحول ساقَيه ، وهو يصرخ : وجدْتُها.. وجدْتُها... فجلس على كرسيّه من جديد ليأخذ من كلبه حرف الباء، فأصبحت إ ر هـ ا ب... ردّد أكثر من مرّة غير مصدّق : إرهاب.. إرهاب..ثم نهض بعد أن أخذ الكرة ليضربها على الأرض، ومن ثمّ ترتطم بها وترجع إليه.وضع الكرة تحت قدمه مرّةً أخرى وهو يردّد : عِمْتَ مساءً يا إرهاب ، عِمْتَ مساءً أيّها المستقبل.. غداً سأجعل لكَ مجسّماً من ذهب أيّها المستقبل...هكذا تمّ اكتشاف هذا العجيب «إرهاب» في لحظة كَلْبَنَةٍ ، المصطلح الذي خوّل العمّ سام لأن يكون إلهاً ! ثمّ نفخ فيه من روحه وأطلقه عصفور نار ، أُطلِقَ من هناك، وهرولنا هنا، فكنّا كَمَنْ يهرب من ظلّهِ، فأينما كنّا، وحيثما حللْنا، وكيفما اختبأنا نجده يسبقنا إلى المكان الذي نريد.منذ أن أطلقه العمّ سام ونحنُ نفرُّ منهُ دونما أن نحاول أن نمسكه ونضعه في قفصٍ لنتعرّف عليه عن كثبٍ من خلال دراسةٍ دقيقةٍ مكثّفةٍ عبر أبحاث علميّةٍ جادّةٍ.هكذا أُطلِقَ بعلمٍ، ونفرنا بجهالةٍ ، وكلٌّ منّا يفاخر الآخر بالطريقة التي ابتكرها علماؤه لينجوا بأنفسهم مفاخرين بما قاله عنّا كسرى : «ما أظرفكم أيّها العرب ! إنّكم تزيّنون كلّ شيءٍ حتى هزائمكم».. هكذا أُطلِقَ هذا المصطلح عصفور نارٍ، دونَ أن نحاول ولو بلحظةِ جنونٍ أن نرميه بحجارة... عفواً ! ماذا قلْتُ؟ نسيتُ أنّنا أمّةٌ مسلمةٌ لا يسمح لها دينها الحنيف لأن تتحمّل وزر عصفور حتى وإن كان عصفور نارٍ غذاؤه بيادرنا، وثقافتنا ومناهجنا الدراسيّة ، حتى ألبسة طلاّب علمِنا.قهقه العمّ سام لنجاحه وهو يقلّد الأوسمة للنحّاتين الذين أنجزوا مجسّماً لكلبهِ المُلهِم ، وكان ذلك بمناسبة عيد ميلاد هذا المصطلح.بينما كنّا لحظتئذٍ نعزّي بعضنا بعضاً وبالخفاء أيضاً، ونتدارس فيما بيننا نوعيّة الهديّة التي سنقدّمها بالعلن لهذا الإله بهذه المناسبة الجليلة، وبإلهام علمائنا الأفذاذ وصلنا إلى رأيٍ مفاده أنّه لا يجوز أن نقدّم هديّةً عينيةً، إنّه إلهٌ، والإلهُ لا يقبل إلاّ القرابين.. وبدأنا بالمقترحات من الدجاجة حتى الناقة، لكن لم نصل إلى ما يرفع رؤوسنا ويضمن لنا الجنّة. وإنّ كلّ ما تقدّمنا به من مقترحات لن يفيدَنا في شيء.. هكذا قال علماؤنا ، وتمّ الاتّفاق فيما بعد وبلحظة إلهام أن نقدّم «وطناً» وهو يختار ما يشاء...صفّقنا لهذا النجاح المنقطع النظير، وبدأنا نجهّزه كما تُجهَّز العروس في ليلةِ عُرسِها، ومن رأسه حتّى أخمصِ قَدَميهِ، وكلٌّ منّا يمنّي النفس بالجواري الحِسان، والولدان، والسواقي بمختلف مشاربها من سواقي العسل حتّى سواقي الخمر وبأنواعها ، هكذا كنّا ساعتئذٍ في لحظة تجلٍّ لا ينقصها إلاّ أجراس الكنائس . أمّا علماؤنا الملهمون وبما لديهم من مَلَكات تخيُّل كان منهم مَنْ بدأ يظهر عليه السُّكْر دونما أن يبرح مكانه ، متخيّلاً سواقي الخمور، ومنهم من تحرّكَ عضوهُ متخيّلاً الجواري الحِسان.هكذا ظَنَنّا في لحظةِ حمرنةٍ أنّنا بعملنا هذا قد قيّدنا هذا المصطلح، لكن قبل أن ينقضي العام ويجيء عيد آخر بدأت تلوح في الأفق أسماءُ جديدة متّهمة بالإرهاب كنّا نظنّ في البدء لا يُتّهم بالإرهاب سوى الأشخاص ، لكن أن تُتَّهَم فيه الأمكنة هذا إبداعٌ آخرُ يُسجَّلُ للعمّ سام في عالَمِ الابتكارات.فقد اتُّهِمَ النفط بالإرهاب وصدّقنا هذا ، بل ذهبنا إلى ما هو أبعد، حيث أخذنا نردِّدُ ما يُقال ونثبتُ إرهابيّة النفط، فالنفط وحده قابل للاشتعال. لكن أن يكون النهر إرهابياً أيضاً فهذا شيءٌ أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع ، ليس هذا وحسبُ ، بل كان الأكثر إدهاشاً إرهابيّة المتاحف ممثّلة بشيخ الإرهاب الأكبر «الناي السومري»، وإرهابيّة اللغة ممثّلة بإرهابيّة المناهج الدراسيّة.إذاً، هنالك أيضاً : إرهابيّة نفط، إرهابيّة نهر ، إرهابيّة شجر، إرهابيّة متاحف ، إرهابيّة لغة...ولكي لا يُنظَر إلينا بعين الجهل ، اندفع أباطرة إعلامنا الأفذاذ يقدّمون أطروحاتهم المميّزة وبشكل بالغ الدقّة والاجتهاد :أطروحةٌ في إرهابيّة النفط أطروحةٌ في إرهابيّة النهرأطروحةٌ في إرهابيّة المتاحف أطروحةٌ في إرهابيّة الشجرأطروحةٌ في إرهابيّة اللغةوالكلّ نال درجة الدكتوراه بامتياز مع وسام الشرف ، إنّنا نصعد قمّة الشجرة ونحزّ جذعها دون أن ندري !!!أيّها المجهول أيّها الطائر الخرافي أيّها الإله عفواً ومغفرة إن كنتُ قد سمحْتُ لنفسي في لحظةِ طيشٍ أن أكتب عن هذا المصطلح، فلن أسمح لهذاالمجنون الذي صفعني فجأة بعدأن أخذ قلمي وكسره أمام ناظري وهو يقهقه لا لن أسمح له أبداً لا لن أسمح له أبداً