بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وأيده بالسلطان النصير، الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة، ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة خالصة خلاص الذهب الإبريز، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، وشهادة يكون صاحبها في حرز حريز. (أما بعد) فهذه رسالة مختصرة، فيها جوامع من السياسة الإلهية والإنابة النبوية، لا يستغني عنها الراعي والرعية، اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ثبت عنه من غير وجه: {إن الله يرضى لكم ثلاثة: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم} موضوع الرسالة (وهذه) وهذه رسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله، وهي قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا. يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} (قال العلماء) نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل. فهذان جماع السياسة العادلة، والولاية.
الباب الأول أسس اختيار الولي
• استعمال الأصلح
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة طلبها منه العباس، ليجمع له بين سقاية الحاج، وسدانة البيت، فأنزل الله هذه الآية، بدفع مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين، أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم {: من ولي من أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله}. وفي رواية: {من قلد رجلا عملا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين} رواه الحاكم في صحيحه وروى بعضهم أنه من قول عمر لابن عمر روي ذلك عنه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين وهذا واجب عليه فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات، من نوابه على الأمصار، من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر والصغار والكبار، وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين. وعلى كل واحد من هؤلاء، أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين، والمقرئين، والمعلمين، وأمير الحاج، والبرد، والعيون الذين هم القصاد، وخزان الأموال، وحراس الحصون، والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن، ونقباء العساكر الكبار والصغار، وعرفاء القبائل والأسواق، ورؤساء القرى الذين هم الدهاقون. فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين، من هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع، أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية، أو يسبق في الطلب. بل ذلك سبب المنع، فإن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن قوما دخلوا عليه فسألوه الولاية، فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه}. وقال لعبد الرحمن بن سمرة: {يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليه} أخرجاه في الصحيحين وقال صلى الله عليه وسلم: {من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه، أنزل الله إليه ملكا يسدده} رواه أهل السنن. فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس، كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}. ثم قال: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم}. فإن الرجل لحبه لولده، أو لعتيقه، قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه، فيكون قد خان أمانته، كذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه، بأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله، وخان أمانته. ثم إن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه، يثبته الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله، ويذهب ماله. وفي ذلك، الحكاية المشهورة، أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين أقفرت أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم وكان في مرض موته، فقال: أدخلوهم علي، فأدخلوهم، بضعة عشر ذكرا، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بني، والله ما منعتكم حقا هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني قال: فلقد رأيت ولده، حمل على مائة فرس في سبيل الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها. قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين، من أقصى المشرق، بلاد الترك، إلى أقصى المغرب، بلاد الأندلس وغيرها، ومن جزائر قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها، إلى أقصى اليمن وإنما أخذ كل واحد من أولاده، من تركته شيئا يسيرا، يقال: أقل من عشرين درهما - قال وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه، فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار، ولقد رأيت بعضهم، يتكفف الناس - أي يسألهم بكفه - وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله، ما فيه عبرة لكل ذي لب. وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع، مثل ما تقدم، ومثل {قوله لأبي ذر رضي الله عنه في الإمارة: إنها أمانة،
وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها}. رواه مسلم. وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي قال: {إذا ضيعت الأمانة، انتظر الساعة}. وقد أجمع المسلمون على معنى هذا، فإن وصي اليتيم، وناظر الوقف، ووكيل الرجل في ماله، عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح، كما قال الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} ولم يقل إلا بالتي هي حسنة وذلك لأن الوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه، وهو مسئول عن رعيته، والعبد راع في مال سيده، وهو مسئول عن رعيته، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} أخرجاه في الصحيحين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما من راع يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لها، إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} رواه مسلم. ودخل أبو مسلم الخولاني، على معاوية بن أبي سفيان، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل السلام عليك: أيها الأمير، فقال السلام أيها الأجير فقالوا: قل أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا قل الأمير فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هنأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخراها وفاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها وهذا ظاهر الاعتبار، فإن الخلق عباد الله، الولاة نواب الله على عباده، وهم وكلاء العباد على أنفسهم، بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم معنى الولاية والوكالة، ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلا، وترك من هو أصلح للتجارة أو المقارب منه، وباع السلعة بثمن، وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن، فقد خان صاحبه، لا سيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قربة، فإن صاحبه يبغضه ويذمه، أنه قد خان وداهن قريبه أو صديقه.
• اختيار الأمثل فالأمثل
إذا عرف هذا، فليس أن يستعمل إلا أصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده، من هو صالح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب يحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل والمقسطين عند الله، وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره، إذا لم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم} ويقول: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. وقال في الجهاد: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين}. وقال: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} فمن أدى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم} أخرجاه في الصحيحين، لكن إذا كان منه عجز ولا حاجة إليه، أو خيانة عوقب على ذلك وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما قال تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين} وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} وقال تعالى في صفة جبريل: {إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين}. والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب، وركوب وكر وفر، ونحو ذلك، كما قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا} وفي رواية: {فهي نعمة جحدها} رواه مسلم والقوة في الحكم بين الناس، ترجع إلى العدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام. والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس، في قوله تعالى: {فلا تخشوهم واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} ، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل، فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به، فهو في الجنة} رواه أهل السنن والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة أو سلطانا، أو نائبا، أو واليا، أو كان منصوبا ليقضي بالشرع، أو نائبا له، حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط، إذا تخايروا، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو ظاهر.
• قلة اجتماع الأمانة والقوة في الناس
اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية، الأصلح بحسبها. فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضررا فيها، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينا، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزو؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه، لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيغزي مع القوي الفاجر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر} وروي {بأقوام لا خلاق لهم}. فإذا لم يكن فاجرا، كان أولى بإمارة الحرب مما هو أصلح منه في الدين، إذا لم يسد مسده. ولهذا {كان النبي صلى الله عليه وسلم، يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال: إن خالدا لسيف سله الله على المشركين} مع أنه أحيانا كان قد يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه - مرة - رفع يديه إلى السماء وقال: {اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد}. لما أرسله إلى خزيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتى وداهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل. وكان أبو ذر رضي الله عنه، أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم {يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم}. رواه مسلم. نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية؛ لأنه رآه ضعيفا. مع أنه قد روي: {ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر} {وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم، على من هم أفضل منه وأمر أسامة بن زيد، لأجل ثأر أبيه}. ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه، في العلم والإيمان. وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه ما زال يستعمل خالدا في حرب أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها، بل عتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة، في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه؛ لأن المتولي الكبير، إذا كان خلقه يميل إلى اللين، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة، وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين، ليعتدل الأمر ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يؤثر استنابة خالد، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يؤثر عزل خالد، واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه؛ لأن خالدا كان شديدا، كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان لينا كأبي بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه، ليكون أمره معتدلا، ويكون بذلك من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو معتدل، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أنا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة}. وقال: {أنا الضحوك القتال}. وأمته وسط قال تعالى فيهم: {أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} وقال تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}. ولهذا لما تولى أبو بكر وعمر
رضي الله عنهما صارا كاملين في الولاية، واعتدل منهما ما كان ينسبان فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من لين أحدهما وشدة الآخر، حتى قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: {اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر}. وظهر من أبي بكر من شجاعة القلب، في قتال أهل الردة وغيرهم، ما برز به علي وعمر وسائر الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين. وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد، قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها، فأما استخراجها وحفظها، فلا بد فيه من قوة وأمانة، فيولى عليها شاد قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته. وكذلك في إمارة الحرب، إذا أمر الأمير بمشورة أولي العلم والدين جمع بين المصلحتين وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد، جمع بين عدد، فلا بد من ترجيح الأصلح، أو تعدد المولى، إذا لم تقع الكفاية بواحد تام. ويقدم في ولاية القضاء، الأعلم الأورع الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع، قدم - فيما قد يظهر حكمه، ويخاف فيه الهوى الأورع، وفيما يدق حكمه، ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم. ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إن الله يحب البصر النافذ، عند ورود الشبهات، ويحب العقل عند حلول الشهوات} ويقدمان على الأكفأ، إن كان القاضي مؤيدا تأييدا تاما، من جهة والي الحرب، أو العامة ويقدم الأكفأ. إن كان القضاء يحتاج إلى قوة، وإعانة القاضي، أكثر من حاجة إلى مزيد العلم والعلم، فإن القاضي المطلق، يحتاج أن يكون عالما عادلا قادرا بل وكذلك كل وال للمسلمين، فأي صفة من هذه الصفات نقصت، ظهر الخلل بسببه، والكفاءة: إما بقهر ورهبة وإما بإحسان ورغبة، وفي الحقيقة فلا بد منهما. وسئل بعض العلماء: إذا لم يوجد من يولى القضاء، إلا عالم فاسق أو جاهل دين فأيهما يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد، قدم الدين وإن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم. وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة واختلفوا في اشتراط العلم هل يجب أن يكون مجتهدا، أو يجوز أن يكون مقلدا، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر؟ على ثلاثة أقوال وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة، إذا كان أصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال، حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه، من أمور الولايات والإمارات ونحوها، كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه، وكما يجب الاستعداد للجهاد، بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف الاستطاعة في الحج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها؛ لأن الوجوب هناك لا يتم إلا بها.
• معرفة الأصلح وكيفية تمامها
والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود، فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر. فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا، دون الدين، قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد، وكان من يطلب رئاسة نفسه، يؤثر تقديم من يقيم رئاسته، وقد كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم، هم أمراء الحرب، الذين هم نواب ذي السلطان على الجند، ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة، قدمه المسلمون في إمارة الحرب وغيرها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على حرب، كان هو الذي يؤمره للصلاة بأصحابه، وكذلك إذا استعمل رجلا نائبا على مدينة، كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف وعليا ومعاذا، وأبا موسى على اليمن وعمرو بن حزم على نجران كان نائبه هو الذي يصلي بهم، ويقيم فيهم الحدود وغيرها، مما يفعله أمير الحرب، وكذلك خلفاؤه بعده، ومن بعدهم من الملوك الأمويين وبعض العباسيين، وذلك؛ لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد. ولهذا كانت أكثر الأحاديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضا، يقول: {اللهم اشف عبدك، يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا}. {ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن، قال: يا معاذ إن أهم أمرك عندي الصلاة}. وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الصلاة عماد الدين}. فإذا أقام المتولي عماد الدين، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات، كما قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}. وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين} وقال لنبيه: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا، نحن نرزقك، والعاقبة للتقوى}. وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم. وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه، وعقوبات المتعدين، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه. ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: إنما بعثت عمالي إليكم، ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، ويقيموا بينكم دينكم فلما تغيرت الرعية من وجه، والرعاة من وجه، تناقضت الأمور، فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان، كان من أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله، فقد روي {يوم من إمام عادل، أفضل من عبادة ستين سنة} وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغضهم إليه إمام جائر} وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه}. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أهل الجنة ثلاثة: سلطان مقسط، ورجل رحيم القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل غني عفيف متصدق} وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال {: الساعي على الصدقة بالحق، كالمجاهد في سبيل الله} وقد قال الله تعالى، لما أمر بالجهاد: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله}. {وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} أخرجاه في الصحيحين. فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، وهكذا قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} فالمقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، أن يقوم الناس بالقسط، في حقوق الله، وحقوق خلقه. ثم قال تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}. فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين
بالمصحف والسيف. وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف} فإذا كان هذا هو المقصود، فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب، وينظر إلى الرجلين، أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي، فإذا كانت الولاية مثلا، إمامة صلاة فقط، قدم من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل في سلطانه، ولا يجلس في بيته على تكرمته إلا بإذنه} ، رواه مسلم فإذا تكافأ رجلان، أو خفي أصلحهما أقرع بينهما، كما أقرع سعد بن أبي وقاص بين الناس يوم القادسية، لما تشاجروا على الأذان، متابعة لقوله صلى الله عليه وسلم {لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا}. فإذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر، وبفعله - وهو ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر - كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها
للإمام ابن تيمية