الدلالات السياسية لتصريحات بابا الفاتيكان أخطر من دلالاتها الدينية د. إبراهيم علوش
من المعروف في مناهج البحث العلمي، وفي المنطق اليومي العادي، أن المرء لا يقتبس مثالاً سائراً أو مقتطفاً أو مقولة، ولو كانت لعدو، إلا ليعزز موقفه بها حول هذه النقطة أو تلك، كما نفعل عندما نورد فقرات من وثيقة صهيونية كوثيقة كيفونيم تؤكد نية العدو بتفتيت بلادنا طائفياً مثلاً...
أما إذا كان الاقتطاف أو الاقتباس يتم بغرض الدحض أو التفنيد، فإن المرء لا يورده هكذا بدون تعليق. وما يفسر نفسه بنفسه، فلا يحتاج إلى تعليق، هو ما يؤكد موقفنا بداهةً، لا ما يعارضه!
السؤال المنهجي إذن: إذا كان البابا بنديكت السادس عشر قد اقتطف فقرة تتهجم على الإسلام رسولاً ومنهجاً وتاريخاً وهو لا يتفق معها، فأين تفنيده لها ورده عليها؟! أين معالجته التحليلية أو المدعمة بالأدلة التي تكشف مواطن الخلل فيها؟! لا يمكن إلا أن نستنتج إذن أن البابا بنديكت السادس عشر كان يعرف ماذا يفعل عندما أورد الفقرة التي تهاجم الإسلام بدون تعليق، وما هو بالأمي أو الجاهل. كان ببساطة يريد أن يهاجم الإسلام، وبقضية تتعلق بعلاقة الدين بالعنف بالذات.
وهذه ليست قضية خلل فردي يخص بابا روما بالذات في إتباع مناهج البحث العلمي بالأساس، بل تحريضاً واعياً من شخص مسئول ضمن سياق سياسي وتاريخي محدد... ولو كانت مجرد هفوةٍ أكاديمية، لسارع بالاعتذار عنها، ولكنه لم يفعل، بل حاول الالتفاف عليها، على الأقل في رده الأول الذي قال فيه أنه يأسف للألم الذي سببه، دون التراجع بوضوح عن جوهر ما نقل عنه، كما يفعل أي عاقل يجد نفسه فجأة دون قصدٍ في موقعٍ مناقض لقناعاته.
فالسؤال المنطقي التالي إذن يصبح: لماذا أراد أن يهاجم الإسلام، ومن الزاوية الجهادية بالذات؟ يعني كما هي الحال في كل مسالة سياسية، لا بد أن نتساءل: من المستفيد ومن المتضرر من إثارة هذه القضية، وبهذه الطريقة، ومن خلال المنبر البابوي الكاثوليكي بالذات؟
وكان من الملفت للنظر أن صحيفة النيويورك تايمز المسيطر عليها يهودياً (وليس فقط صهيونياً) كانت معنية بصب الزيت على النار في افتتاحيتها قائلةً بأن تصريحات البابا كانت "مفجعة وخطيرة"!
وهي كذلك فعلاً، ولكن لماذا هي مفجعة وخطيرة بالضبط؟ وهل يمكن أن نفهمها بمعزل عن نموذج "صراع الحضارات" في فهم العلاقات الدولية الذي يروج له المحافظون الجدد والمسيحيون المتصهينون في الإدارة الأمريكية والحزب الجمهوري، هذا النموذج الذي استخدم لتسويق مفهوم "الضربة الاستباقية" و"الحرب ضد الإرهاب"، وعددٍ من المصطلحات وأوراق التين الأخرى التي تسوَغ بها الحروب ومخططات الهيمنة الأمريكية؟
هل يمكن فهم تصريحات البابا خارج تأثيرها في تكوين رأي عام موالٍ للسياسات الأمريكية والمعولمة فيما يسمى "الحرب على الإرهاب"؟ وهل يمكن فهمها خارج انعكاساتها على المشروع الإقليمي لأمريكا وحلفائها في الوطن العربي بالذات، مشروع تفكيك المنطقة العربية، تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد أو الكبير"؟! بالتحديد أكثر هل يمكن فهم تصريحات البابا خارج سياق انعكاساتها على البلدان العربية التي تتواجد فيها كثافة مسيحية مثل السودان ولبنان في هذه المرحلة؟
تصريحات البابا إذن، ولا نحاكم النوايا هنا، لا بد من تفحص دورها من زاويتين: 1) زاوية تحشيد رأي عام مسيحي عالمي وراء مشروع محاربة "الفاشية الإسلامية"، كما اسماها المحافظون الجدد منذ سنوات (ولم يكن بوش الابن واضع ذلك المصطلح)، 2) وزاوية إثارة النعرات الطائفية، خاصةً في لبنان والسودان في هذه المرحلة، ضمن سياق مشروع فكفكة وإعادة تركيب الوطن العربي على أسس طائفية واثنية وجهوية، أي مشروع المذابح والخراب وضياع السيادة الذي تعمل قوى العولمة والإمبريالية في الغرب على نشره في بلادنا.
لقد كان تصريحات البابا وقحة فعلاً، خاصة أن البرتغاليين الكاثوليك أبادوا إبادةً كل القبائل الهندية الحمراء في البرازيل التي رفضت أن تتنصر، ولكن تلك التصريحات لم تصدر عن نزق أو جهل. بل هي استفزازٌ مدروس يستهدف استدراجنا إلى المربع الجهنمي، مربع الحروب الأهلية والتقسيم، الذي يقوم عليه مشروع "الشرق الأوسطية". والرد يكون بالوعي والوحدة من خلال:
1) التأكيد على مقاومة الهيمنة الخارجية وذرائعها،
و2) بالتأكيد على التراث العربي والإسلامي المشترك لكل أبناء الأمة، وكلهم، دون استثناء، مستهدفون.