نظيران في موسم القتل - أسد محمد
في اجتماع تناصف فيه الضجيج مع الهدوء ، وانزوت أضواء المنبر تحت ألسنة المنادين ، قرر مجلس الأمناء بأغلبية عضو واحد بأنهم سيعاقبونه شر عقاب ، لملموا أوراقهم المختلفة وسجلاتهم ، وأهملوا عن عمد ما قدمه أحدهم في اقتراح مضاد " إنه الأنسب لنا ، ويخدمنا بشكل غير مباشر.."
وقبل تلاوة البيان الختامي ، تساءل عضو متربع على إليتيه الدهينتين المنفوختين ، وهو يلعب بكرشه المندلق أمامه" إذا لم نحاصره ، فمن نحاصر ..؟ " ثم امتص شفتيه ، وعبر عن سخرية لاتخلو من زحلقة لأفكار كان قد طواها الجدل الضبابي منذ بداية الجلسة ، كأكأ جاره من وراء ضحكة تبعتها كلمات خالية من الإيحاء واللباقة ومؤيدا لوجهة نظره ..
كما جاراه ثالث جاحظ العينين ، بارزتين من وراء نظارة شفيفة ، لديه شراهة في طرح الأفكار وقلة التركيز " نحاصره ، فنربي به جيرانه.."
وكان الجواب من عضو مكارثي ، معروف بمذهبيته السلفية : " نعم ، فلنحاصره إذا كان لابد لنا من عدو.. "
وجاء الاجتهاد العبثي الخالص من رفقاء في الظل ، اجتهاد مطّعم بعدمية يقصي الحكمة بعيدا، ويفسر كيفية استخدام الممنوعات الأخلاقية ، وأدوات الحصار والخنق والتجويع ، وذكروا متشدقين ضرورة منع حتى السجائر والزبدة والأدوية وإحكام الحصار البري والجوي والبحري .. وبعد هرج ومرج ، جال مفعوس الشعر وهو يلعب بخفيه بين قسوة نارية وتريث ممغنط وانتهى بفكرة صبيانية طرحها مستسهلا " وحتى الهواء .. اقطعوا عنه لهواء .." وبلفتة تنم عن خلاف في رأي ما بعد ديمقرطي ، وبجعل الكلمات تناطح الكلمات ويسيل المعنى من جروحها قيئاً ، أجابه شخص يواجهه الجلوس " عفوا ، نحاصره هو ، وليس شعبه ..هو زعيم مارق ، لكن ما ذنب شعبه المسكين " .. استأثرت هذه الجملة وغيرها بعناوين الصحف ، ووصلت الآراء إلى الناس كالحقيقة الدامغة ، كما سمع الداني القاصي بأخبار حزمة العقوبات : تجويع ، ترهيب ، ترويع ، تجسس ، تطويع .. حتى يأتي زاحفا على بطنه ..
ولول بعض الزعماء من هنا وهناك ، وهفهف بعضهم الآخر دعما للقرار الحكيم خشية أية تهمة استباقية بالتعاون معه ..
* * *
أمام عدسات الكاميرات ، مسدّ الزعيم العجوز والمتهم شاربه ، وكشف عن وجه عنيد، وردّ بشفتين ممطوطين وبلهجة غامضة " فشروا ، فأنا لها .." كان حوله أعضاء مجلس حكمه التاريخيين الذين عفَّنوا الزمن بخميرة التقزز والقرف ، يصغون إليه السمع ، تبجح وترفع ودندن ولطم فجوة صمت متأتية من خوف مزمن لبطانته برأيه ما قبل الديمقراطي ، وفي لقطة درامية أمام العدسات طلب من الحراس أن يوزعوا سجائر من صناعة العدو على أعضاء مجلس حكمه.. وقبل نهاية الاجتماع ، نطق نائب الزعيم قائلا باعتزاز : " أنا لا أدخن يا سيدي، لكن كرمال عيونك مستعد للموت " ، فض الاجتماع الفاصل بهزة رأس من الزعيم ، فهزَّ تابعوه برؤوسهم ، قهقه فقهقوا ..
ثم تفرقوا ، وهم يرددون في أنفسهم :
- يا لها من هزة رأس جبارة !
انطلقت الشائعات بين صفوف الشعب ، خاصة حول تصرف نائب الرئيس الذي ظهر وهو يدخن على غير العادة .. وأحدثت وسائل إعلامه وفق أوامر عليا ضجة حول السجائر المعادية وتدخين النائب ..
* * *
بعد حين تلقى الزعيم تقرير استخباراته، وجاء فيه : " ما يحدث هو مقدمة لضربة عسكرية من العدو " قرأ التقرير وحسب ، وطلب من وسائل الأعلام أن تشن هجوما مضادا .. بينما انشغل طاقم حكمه بلغزي : علب السجائر وهزة الرأس .. دون أن يتفوه أي منهم ببنة شفة بانتظار التوجيهات السامية ..
في لقاء عابر مع النائب ، تكلم الزعيم بالهاتف مطولا ، وخرج النائب دون أن يفهم أي شيء ، سوى أن الزعيم تكلم بلهجة رقيقة وغزلية مع أنثى، ووعدها بتوفير كل شيء لها رغم الحصار الجائر..
* * *
بعد أن قرأ تقرير استخباراته الأخير، أقام حفلا بمناسبة عيد ميلاده في جو من الألق المثير، والاستعراض المؤدلج ، والبهجة المفرطة .. خاصة وأن الصحف قد انتهت من ترسيخ عدوانية مضادة : << عدو متغطرس وغاشم ، ضحايا الحصار في تزايد : بطالة ، جوعى ، موتى ، فقراء ، وطوابير أمام مؤسسات الحكومة التموينية .. و.. >> هزَّ عنقه ، رفع كتفه إلى سوية شحمة الأذن ، لكن هذه المرة لم يره أحد .. تلمس فروة رأسه ، ثم وضع قبعته البطريركية ووقف أمام المرآة .. تلفت حوله بريبة ، ونطق .." أنا .. أنااااااااا .."
مضى وقت من نار ، وقت محصور بين فكي موت وجنائز واستغاثات جوعى ومرضى ، وكان الزعيم قد تناسى الحصار الذي حصد الأخضر واليابس كالجراد في طول البلاد وعرضها ، وبدأ ينسى معه بقية أعضاء قيادته المرتاحين في ظله معنى هزة رأسه ، وهم على يقين بأن خطته قد أتت أوكلها رغم كل المعاناة والكراهية الشديدة للعدو ..
* * *
جاء في كبرى صحف العدو مقالا بعنوان : " جون يكره أبو عبد الفوال، وأبو عبد يكره جون " ، وتم تحليل الخبر بذكاء ضمني مع لمسة من ايحاءات مبهمة، واقترحت الصحيفة أن يلتقيا ويتحاورا ليكتشفا كم هما مواطنان بسيطان وطيبان .. وعرضت بقية الصحف مدى الوضع السيئ والمتدهور الذي وصل إليه شعب البلد المحاصر ..
* * *
كان موعد اللقاء السري قد نضج بعد سلسلة من النجاحات المتفق عليها ، وعلى سطح يخت بالقرب من جزيرةالأحلام ، التقيا :
- نحن حميناك من شعبك ، وثروتك من النفط لا تكفينا وحدها ..
- اتركوا لي بعض الموارد .
- ما تطلبه غير متفق عليه .
- كيف أدبر أمر شعبي ؟
- هو يدبر نفسه .
- وكيف أدبر مساعديّ ؟
- هم يدبرون أنفسهم من الشعب .
- وكيف أتدبر أمري ؟
- أعطيك راتبا مجزيا ..
- أرفض الحصول على راتبي منكم .
- أنت حر ، وأنا جاهز لكشف كل الأسرار ، إذا لم ..
أطرق الزعيم رأسه مليا ، فكر ، ثم قال فجأة :
- حسنا ، اكشف الأسرار .
- سأكشفها وتروح في ستين داهية .
- لا تنس ، يا حضرة القائد ، إنك أنت أيضا ستروح في ستين داهية .
- كيف ؟
- شعبك لن يسكت على الفضيحة ، وما ألحقه بشعبي من أذى ودمار وخراب و ..
- كان ذلك لحمايتك ، هكذا اتفقنا ..
- وأنا أيضا حميتك ..
- ما هذه السخافة ؟
- نعم ، لقد انشغل شعبكم بكراهيتنا بدل أن يطالبكم بتنفيذ برنامجكم الانتخابي الذي لم تنفذوا منه أي شيء حتى الآن ، سوى التطبيل والتزمير و إلهاؤه بمحاصرة شعبي ، لقد تحمَّل شعبي الموتَ والعذابَ والحصارَ من قبل شعبكم وجنودكم الذين كانوا من المفترض أن يطالبوكم بحقوقهم المختلفة والكثيرة ، وها نحن الآن نجلس وجهاً لوجه ، أنت ساعدتني بجعل شعبي يكرهكم ، أي بتحويل كراهيته عني إليكم ، وأنا كذلك جعلت شعبكم يكرهني ويلتف حولكم ، ساعدتني وساعدتكم.. لقد تلوث شعبكم بإثم كبير لن يرضاه لو عرف الحقيقة بأنه ضحية تأمري معك ، ما فعلناه هو حماية لي ولك ..
كان القائد يغور في نفسه ، يذوب كالزئبق في دمه ، تبتلعه بلاغة هذا المارق وتجربته الطويلة ، ويكتشف كم كانت لعبته خسيسة وضرورية في آن معا ، بينما استرخى الزعيم وراء طاولته وهو يحتسي كأس الوسكي ، ويحث شريكه أن يحتسي جرعة فوزهما ، وهو يرفع الكأس ليضربها بكعب كأس نظيره ..
أسد محمد