(حافظ إبراهيم)
شاعر النيل، توفي سنة 1932م، فرثاه شوقي بهذه القصيدة:
يـا مُنْصِـفَ المـوْتى مـن الأَحيـاء
******
قــد كـنتُ أُوثـرُ أَن تقـولَ رِثـائي//
يـا مُنْصِـفَ المـوْتى مـن الأَحيـاءِ
لكـنْ سـبَقْتَ، وكـلُّ طـولِ سـلامة//ٍ
قـــدرٌ، وكــلٌ مَنِيَّــةٍ بقضــاءِ
الحـقُّ نـادَى فاسْـتجَبْتَ، ولـم تَـزلْ//
بــالحقِّ تحــفِلُ عنـدَ كـلِّ نِـداءِ
وأَتيْـت صحـراءَ الإِمـامِ تـذوب من//
طُــولِ الحـنينِ لسـاكن الصحـراءِ
فلقيــت فـي الـدار الإِمـامَ محـمدًا//
فــي زُمْــرَةِ الأَبــرارِ والحُنفـاءِ
أَثَــرُ النعيــم عـلى كـريمِ جبينـه//
ومراشـــدُ التفســـيرِ والإِفتــاءِ
فشــكوتما الشَّـوْقَ القـديمَ، وذُقْتُمـا//
طِيــبَ التـداني بعـدَ طـولِ تنـائي
إِنْ كــانت الأُولــى منـازلَ فُرْقـةٍ//
فالســمْحَةُ الأُخــرى ديــارُ لِقـاءِ
وودِدْتُ لـو أَنـي فـداكَ مـن الـرَّدَى//
والكـــاذبون المُرْجِــفونَ فِــدائي
النــاطقونَ عـن الضَّغينـةِ والهـوى//
المُوغِــرُو المَـوْتَى عـلى الأَحيـاءِ
مــن كــلّ هَــدَّامٍ ويَبنـى مجـدَه//
بكـــرائم الأَنقــاضِ والأَشــلاءِ
مـا حَـطَّموكَ، وإِنمـا بـكَ حُـطِّموا//
مــن ذا يُحـطِّم رَفْـرَف الجـوزاء؟
اُنظُـره، فـأَنت كـأَمْسِ شـأْنُكَ بـاذخٌ//
فـي الشـرقِ، واسْـمُكَ أَرفعُ الأَسماءِ
بــالأَمسِ، قــد حَــلَّيْتَني بقصيـدةٍ//
غــراءَ تُحــفَظُ كــاليدِ البيضـاءِ
غِيـظ الحَسُـودُ لهـا وقمـتُ بشـكرها//
وكمــا علمــتَ مَــوَدَّتي ووفـائي
فــي مَحــفلٍ بَشَّـرْتُ آمـالي بـه//
لمــا رَفعـتَ إِلـى السـماءِ لِـوَائي
يــا مـانِحَ السُّـودانِ شـرْخ شـبابِه//
ووَلِيَّــهُ فــي السّــلمِ والهيْجــاءِ
لـمَّــا نـزلْت عـلى خمائلـه ثـوَى//
نبْــعُ البيــانِ وراءَ نَبْــع المـاءِ
قلَّدْتَــهُ الســيفَ الحُسـامَ، وزدْتَـهُ//
قلمًــا كصــدرِ الصَّعْـدةِ السـمراءِ
قلـم جـرى الحِـقبَ الطِّوالَ فما جرى//
يومًـــا بفاحشـــةٍ ولا بهجــاءِ
يكســو بِمدْحَتِــه الكِــرامَ جلالـةً//
ويُشَــيِّعُ المــوْتى بحســنِ ثَنـاءِ
إِسْــكَنْدَرِيّةُ يــا عــروسَ المــاء //
وخميلـــةَ الحكمــاءِ والشــعراءِ
نشــأَتْ بشــاطِئِكِ الفنـونُ جميلـةً//
وتَرعــرعَتْ بســمائِك الزهــراءِ
جــاءَتْكِ كــالطيرِ الكـريمِ غرائبًـا//
فجمعتِهـــا كـــالرَّبْوَةِ الغنَّـــاءِ
قـد جـمَّلوكِ، فصِـرْتِ زِنْبَقَـةَ الثرَى//
للوافـــــدين ودُرَّةَ الدَّأْمــــاءِ
غرَسُـوا رُبـاكِ عـلى خمـائلِ بـابلٍ//
وبَنَـوْا قصـورَك فـي سَـنا الحمراءِ
واســتحدثوا طُرُقًـا مُنـوَّرة الهـدى//
كسـبيلِ عيسـى فـي فِجـاجِ المـاءِ
فخُــذي كـأَمِس مـن الثقافـة زينـةً//
وتجـــمَّلِي بشـــبابكِ النُّجَبــاءِ
وتقلَّــدي لغــةَ الكتــابِ، فإِنَّهــا//
حَجَــرُ البنــاءِ، وعُــدَّةُ الإِنشـاءِ
بَنَــتِ الحضـارةَ مَـرَّتيْن، ومهَّـدتْ//
للمُلــكِ فــي بغــدادَ والفَيْحــاءِ
وسَــمَتْ بقرطبـةٍ ومصـرَ، فحلَّتـا//
بيـــن الممـــالكِ ذِرْوَة العَليــاءِ
مـاذا حشـدتِ مِـن الدمـوع لحافظٍ//
وذخـرْتِ مـن حـزنٍ لـه وبُكـاءِ؟
ووجــدْتِ مِـن وقـع البـلاءِ بفقـدهِ//
إِن البــلاءَ مَصــارِعُ العظمــاءِ
اللــهُ يشــهدُ قــد وَفيْـتِ سـخيَّة//ً
بــالدَّمع غــيرَ بَخيلــةِ الخطبـاءِ
وأَخـذتِ قِسـطًا مـن مَناحـةِ مـاجد//ٍ
جَــمِّ المــآثِرِ، طيِّــبِ الأَنبــاءِ
هَتــف الـرُّواةُ الحـاضرون بشـعره//
وحــدا بــه البـادون فـي البَيْـداءِ
لبنــانُ يَبكيـه، وتبكـي الضـادُ مـن//
حَــلبٍ إِلـى الفيْحـا إِلـى صَنْعـاءِ
عـربُ الوَفـاءِ وَفـوْا بذمّـةِ شـاعرٍ//
بــانى الصفـوفِ، مُـؤلفِ الأَجـزاءِ
يا حـافظَ الفصحـى، وحـارسَ مَجْدِهـا//
وإِمــامَ مَــنْ نجَـلتْ مـن البُلغـاءِ
مــا زِلْـتَ تهتـفُ بـالقديم وفضلـهِ//
حــتى حَــمَيْت أَمانــةَ القُدمــاءِ
جــدّدت أُســلوبَ (الوليدِ) ولفظَــه//
وأَتيْــت للدّنيــا بســحر (الطائي)
وجـريْت فـي طلـبِ الجديدِ إِلى المدى//
حــتى اقـترنْت بصـاحب البُؤسـاءِ
مـاذا وراءَ المـوت مـن سَلْوَى، ومن//
دَعَـةٍ، ومـن كـرَمٍ، ومـن إِغضاءِ؟
اشـرحْ حقـائقَ مـا رأَيْـت، ولم تزل//
أَهــلاً لِشــرْح حقــائِقِ الأشـياءِ
رُتـبُ الشـجاعةِ فـي الرِّجـالِ جلائلٌ//
وأَجَـــــلُّهُنَّ شــــجاعةُ الآراءِ
كـم ضِقـتَ ذَرْعًـا بالحيـاة وكيْدِهـا//
وهتفــت بالشــكوى مـن الضَّـراءِ
فهلُــمَّ فـارِقْ يـأْسَ نفسِـك سـاعةً//
واطلُـعْ عـلى الـوادي شُـعاعَ رجاءِ
وأَشــرْ إِلـى الدنيـا بوجـهٍ ضـاحكٍ//
خُــلِقتْ أَسِــرَّتُهُ مــن السَّــراءِ
يــا طالمــا مَـلأَ النَّـدِيَّ بشاشـة//
ً وهــدى إِليــك حــوائجَ الفقـراءِ
اليــومَ هـادنْت الحـوادِثَ، فـاطَّرِحْ//
عِـبْءَ السـنين، وأَلْـق عِـبْءَ الداءِ
خــلَّفْت فــي الدنيـا بيانًـا خـالدًا//
وتــركْت أَجيــالاً مــن الأبنــاءِ
وغـدًا سـيذكرك الزمـانُ، ولـم يَزل//
للدِّهــرِ إِنصــافٌ وحسـنُ جـزاءِ