.
.
.
مقتطع ..
قال :
أتعرف يا أبي .. لقد زرت بيتكم الذي نشأتَ فيه .... ذهبت إليه بالأمس .. لأني سمعت أنكم قررتم بيعه .. فأحببت أن أراه قبل أن يذهب ....
بدا لي أول ما رأيته جميلا مهيبا .. لكنه ذلك الجمال الذي تحجبه ملامح الكبر التي بدت عليه .... تجاورت نوافذه في إيقاع بديع .. وهو كأكثر الأبنية التي بنيت على هذا الطراز في ذلك الوقت مربع القاعدة يتساوى طوله مع عرضه إلا قليلا ... مكون من ثلاث طوابق ... يربطها من الداخل سلم بدايته في الردهة الرئيسية للطابق السفلي ....
أحسست به يبتسم لي .. لعله لم يعتد أن يزوره أحد من جيلنا بعد أن أغلق ولم يعد يسكنه أحد .. ولا يفتح إلا مرات قليلة لينظف ..... وأنا أفتح الباب سمعت صوتا بنادي باسمك ... فالتفت فإذا عجوز تجلس في دكان على الرصيف الآخر ...
سألتني : أنت ابنه .
قلت : نعم .
قالت : لكأني بأبيك عائدا من مدرسته .. مسرعا إلى جدته يقبل يدها ... أتراك سمعت عن جدة أبيك ... كانت سيدة هذا الحي بلا جدال .... تمضي كلمتها على الكبير والصغير .. الرجل والمرأة .. من ابنائها وغيرهم من أهل الشارع .... كأنوا يقصدونا للمشورة ولفض نزاعاتهم .... وكانوا ينزلون على حكمها ...
أذكر يا أبي أنك حدثتني يوم أن عضبت من إحدى بناتها ( عمتك) لأنها اخطات في أحد اخوتها خطأ كبيرا .. فحكمت على العائلة كلها أن تقاطعها وزوجها .... ثم لقيتك عمتك هذه وابن عم لك في الطريق مرة .. فاعطتك ( قرشا ) تشتري به ( فول سواني ) وعرفت جدتك .. فحكمت أن تبيتا ليلتكما دون عشاء .... وحاولت إحدى بنات عمك أن تهرب لكما العشاء ... فقلت لها ( لأ .. نينة قالت لأ يعني لأ ...)
بقى يا راجل في حد بنوتة زي القمر يصعب عليها وتجيب له عشا تهريب ... ويردها .... دا أنتوا كنتو مملين بشكل ...
المهم دخلت البيت وأضأت مصابيحه .. ما كنت أنتظر أن تعمل لكنها أضاءت ... فطالعتني صورة كبيرة على الجدار لرجل في عنفوانه ... عرفته سريعا لأني أرى هذه الصورة في كل بيت من بيوت أقاربنا ... هو جدك ... لكنني لم اسمع عنه كثيرا .. ربما لأنه مات صغيرا ...
أدرت عيني في المكان .. فكأني دخلت زمانا غير الذي نعيش فيه ... كأني في متحف ...
آه . هذه جدتك ... ترمقني صورتها التي على الحائط .. كأنما تريد ان تعرف من هذا الذي اقتحم صمت السنين وأقلق خلوتها .. لعلها تعرفني بالشبه الذي بيننا ... قد يبدو على ملامحها الحكمة والقوة ... لا أدري .. لعله خيل إلي ...
وهذه طاولة الطعام الكبيرة التي كان يجتمع عليها .. عشرين ... وربما ثلاثين شخص ... يأكلون معا كل يوم .. هم كبار العائلة ... اما أنت وجيلك فتأكلون بعدهم .. (الأدب حلو ) ...
وغرف البيت كثيرة تسع هذا العدد كله ... ابوك واخوته واخواته وأزواجهم وابناؤهم وبناتهم .... كاني اسمع جلبتكم تملأ المكان ....
كل منكم له خصوصيته في هذا الدار ... في غرفته .. ومع ضيوفه .. وفي رايه وحديثه وقراراته ... إلا ما يمس المصلحة العليا للبيت... تجتمعون في الصباح والظهيرة ووقت العشاء عند جدتك . فكأنه عهد الأخوة بينكم تكتبونه ثلاث مرات في اليوم ....
لا أدري لما الإصرار على بيع هذا البيت .. سألت مرة .. قالوا : إن ثمنه كبير وهو لو وزع على الورثة ووارثيهم لنال كل واحد قسطا وفيرا ...
سألت : اتبيعون تارخكم ... أتتركون ذكرى أيامكم .
قالوا : تارخنا نحمله في صدورنا ... يعيش داخلنا ... تاريخنا لا تحكيه الحجارة ... تحكيه الأنفاس .. تحكيه بسمة ترتسم على الشفة إذا تذكرت عهدا جميلا.. أو دمعة تفر من العين إن ذكرت حزنا دفينا ... فأي معنى للبناء ..
عجبت لهذا الحديث كثيرا .. وتكلمت كثيرا لكن أحدا لم يسمع ....
دخلت غرفة جدي ووجدت في خزانتها طربوشا لف بعناية ... حتى إن لونه بدا كما هو لم يتغير .. ومعه قفاز ... لعله الذي تسلم به هدية أو درعا من الملك .. قلتم شيئا كهذا .. لا أذكر تحديدا ... المهم وضعت الطربوش على رأسي .. وحاولت أن أنظر في المرآة التي عكرت الأيام ماءها ... فإذا أنا أحلى بالطربوش ....
بابا ... لقد احببت بيتكم هذا كثيرا ...ايه رأيك تشتريه أنت ....
ابتسم .. ثم ضحك ... ثم نظر لأمي وقال :
ابنك دا مجنون ......