تعود الأسماء في أي لغة ؛ إلي بداية الزمن الذي نشأت فيه ، بل إن الأسماء هي أول ما يظهر في أي لغة ، ومن الأسماء أو بعدها تنشأ الأنواع الأخري من الكلمات فيها .. وبنشوء الأسماء ينشأ ما ينوب عنها في الكلام كالضمائر ، ومثلها أسماء الإشارة ، والأسماء الموصولة ، وكل علامة لسانية تدل عليها ، سواء من حيث دلالتها علي العدد ( المفرد والجمع ) ، أو من حيث دلالتها علي الجنس ( المذكر والمؤنث ) .
وإذا درسنا الأسماء من حيث دلالتها علي العدد ؛ نجد أنها في لغتنا العربية الفصيحة ؛ تختلف عما هي عليه في سائر اللغات المعروفة قديمة وحديثة ، فالأسم في فصيحتنا إما مفرد أو مثني أو جمع ، والإسم في عامة اللغات - غالبا - إما مفرد وإما جمع ، وإذا وجدت في قليل منها آثار للتثنية فهي لا تتسع ولا تطرد في كل الأسماء وما ينوب عنها ، كما في لغتنا الفصيحة .
فالقاعدة العامة في اللغات ؛ هي أن الأسماء في دلالتها العددية إما أن تدل علي الإفراد أو الجمع ، كذلك ما ينوب عنها ، والقاعدة الخاصة بلغتنا الفصيحة ؛ هي أن هذه الأسماء وما ينوب عنها ذات أحوال ثلاثة : الإفراد والتثنية والجمع ، وهذه بعض الأمثلة :
* هذا هو الشاعر الذي فاز بالتقدير .
* هذان هما الشاعران اللذان فازا بالتقدير .
* هؤلاء هم الشعراء الذين فازوا بالتقدير .
وهذا ما نقوله حين نقتصر علي حالات التذكير ، فإذا أردنا استيعاب حالات التأنيث أيضا قلنا :
* هذه هي الشاعرة التي فازت بالتقدير .
* هاتان هما الشاعرتان اللتان فازتا بالتقدير .
* هؤلاء هن الشاعرات اللواتي فزن بالتقدير .
وندع هنا دلالة الجنس من تذكير وتأنيث ، ونحصر كلامنا في دلالة العدد : إفرادا وتثنية وجمعا .
فالملاحظ في الجمل السابقة ؛ أن حالة التثنية واضحة متميزة في الإسم أو الوصف ، وفي الضمير واسم الإشارة والإسم الموصول ، ثم في ألف الأثنين الملحقة بالفعل ، الدالة علي التثنية . ( ١ )
ولغتنا الفصيحة لا تخرج في التثنية عن قاعدتها الخاصة بها إلي القاعدة العامة بين سائر اللغات إلا نادرا ، والشرط في هذه الندرة أو هذا التوسع هو أمن اللبس عند السامع اعتمادا علي فهمه ، وذلك حين يوحي إليه المقام بالمقصود ، وكثيرا ما يعتمد الفصحاء علي فهم السامع في مثل هذه الحالة ، إذ لا خوف من اللبس أو الخفاء ، فيقول العربي الفصيح أحيانا : " محمد وعلي حضروا " بدلا من أن يقول : " حضرا " ، وقد يحدث هذا في الفصيحة أحيانا وهو تعبير صحيح ، وقلما يلتفت إليه مع أنه من سنن العربية ، ولهذا يدهش من يفاجأ به إذا لم ينتبه سريعا إليه ، وقد يظنه خطأ أو لحنا .. ومن ذلك ما ذكر من أن الشعبي كان يتحدث في مجلس عبد الملك بن مروان ، فقال : " رجلان جاءوني " فقال له الخليفة " لحنت يا شعبي " فقال الشعبي : " يا أمير المؤمنين ، لم ألحن ، مع قول الله تعالي : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } ( ٢ ) فقال عبد الملك : " لله درك يا فقيه العراقيين ، قد شفيت وكفيت " .
ومثل هذا قليل ، ومنه قول الله تعالي : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما . فإن بغت احداهما علي الأخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفئ إلي أمر الله } . ( ٣ )
وقوله تعالي : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ( ٤ ) ولم يقل " يديهما " مع أن هذا هو المقصود ، لأن السارق لا تقطع له في سرقة واحدة إلا يد واحدة .
وقوله تعالي في خطاب زوجتين من زوجات الرسول صلي الله عليه وسلم : { إن تتوبا إلي الله فقد صغت قلوبكما } ( ٥ ) أي مالت ، ولم يقل " قلباكما " ولكل منهما قلب واحد ، إذ : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ( ٦ ) ولا لامرأة .
وتذكر كتب السيرة ، قصة هجرة النبي صلي الله عليه وسلم مع صاحبه ومولاه عامر بن فهيرة ، وفي الطريق إلي المدينة نزلوا خيمة أم معبد فاستضافتهم ، ولما عاد زوجها أخبرته بقصة ضيوفها ، فقالت في وصف بارع للنبي وصحبه : " غصن بين غصنين ، فهو أنضر الثلاثة ، له رفقاء يحفون به ، إن قال أنصتوا لقوله ، وإن أمر تبادروا إلي أمره " فقال زوجها : " هذا صاحب قريش " .. فهي بعد قولها : " غصن بين غصنين ، فهو أنضر الثلاثة " لم تقل : " له رفيقان يحفان به ، إن قال أنصتا لقوله ، وإن أمر تبادرا إلي أمره " .
معاملة المثني كالمفرد :
وقد يعامل المثني في العربية معاملة المفرد ، إذا كان الإثنان يقومان بعمل واحد .. كالعينين والأذنين واليدين ، فنقول : عيناي أبصرت شبحا ، وأذناي سمعت غناء ، ويداي أمسكت كتابا .
وقريب من ذلك أن يذكر شيئان ؛ ثم يعاد الضمير علي أحدهما ، مع أن المقصود هو الشيئان ، ومن ذلك قول الله تعالي { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا اليها وتركوك قائما } ( ٧ ) ، فعاد الضمير إلي التجارة ، مع أن " اللهو " مقصود أيضا .. ومثل قول الله تعالي { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } ( ٨ ) ، والمقصود الذهب والفضة .. ومثل قوله تعالي : { والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } ( ٩ ) ، والمقصود " أن يرضوهما " .
* * * * *
المصدر :
( أضواء علي لغتنا السمحة )
للأستاذ :
محمد خليفة التونسي
كتاب العربي ( الكويت ) - اكتوبر ١٩٨٥ م .
---------------------------------------------------------------
( ١ ) لا شأن لنا هنا بالخلاف بين النحويين في ألف الأثنين ، هل هي ضمير أو اسم ، أم مجرد علامة للتثنية ، فهي حرف ، وإن كنا نميل إلي أنها حرف في الفعل كما هي في الاسم ، مثل : " العازفان يعزفان " .
( ٢ ) الحج ١٩ .
( ٣ ) الحجرات ٩ .
( ٤ ) المائدة ٣٨ .
( ٥ ) التحريم ٤ .
( ٦ ) الأحزاب ٤ .
( ٧ ) الجمعة ١١ .
( ٨ ) التوبة ٣٤ .
( ٩ ) التوبة ٦٢ .