فلسفة الشاعر
بقلم: الأديب والناقد المصري الأستاذ عبد الله جمعة
1ـ الشاعر المغربي عبد اللطيف غسري
نتناول في هذا الفاصل مجموعة من زوايا الرؤية التي يتخذ منها الشاعر وجهة نظر في مواجهة واقعه الشعري محاولين تطبيق كل فلسفة من خلال نص شعري من شعراء القناديل قدر الإمكان حتى يكون الأمر قريبا من تفاعلنا ...
1 – فلسفة الشكوى :
وهي واحدة من دوائر النضج الفكري الشعري تتولد من الصراع النفسفكري بين الشاعر وواقعه الشعري وفيها يتبنى الشاعر قيم الشكوى وعدم الرضا والسخط المستمر على كل ما يواجهه من مثيرات في هذا الواقع وفي هذه الدائرة يقوم الشاعر بتركيز تصويره على أدق تفاصيل الواقع القبيحة من خلال شكواه المستمرة متهما الواقع المحيط بفعل كل منتقص مفندا نواقص هذا الواقع وهذه الطبيعة الشعرية ترتكز على تضخيم المشكلة التي يتناولها في تجربته وتعد هذه الفلسفة خيطا يمتد عبر أغلب تجاربه على تنوعها وتقلبها ومن ثم يمكن وصف هذا الشاعر بالشاعر الشكّاء ومن هؤلاء الشعراء الذين دخلوا تلك التجربة بقوة وقاموا بملئها الشاعر الكبير ( عبد اللطيف غسري ) وسوف نتحقق من معالم تلك الفلسفة من خلال تعرضنا لبعض من نصوصه محاولين تحقيق معالم تلك الفلسفة من خلال نصوصه .
من قصيدته ( قدر القصيدة ) :
أنينُ الحَرفِ في السَّحَرِ انْشِغالُ
بِـآلامِ القصِـيـدَةِ وَابْتِـهَـالُ
ولِلكلمَاتِ في وَصـفِ اللآلـي
جنوحٌ بالبَيَـانِ لـهُ اشْتغـالُ
فإن صَدَحتْ قرَائحُنا ببَعـضٍ
منَ الأشجانِ يرسُمُهُ الجَمَـالُ
فما كنَّـا علـى وَتـرٍ وقوفًـا
ولا أغرى جوانِحنَـا الـدلالُ
ولكنْ بَهجة ُ الشعراءِ فـي أن
يقولوا ما يَضيقُ بـه المَقـالُ
فكيفَ نُلامُ مِمَّنْ ليسَ تُرْعَـى
لهُ في الشِّعر نُـوقٌ أو جِمـالُ
وكيف يُقالُ ليـسَ لنـا ذِمـامٌ
وكيفَ يُقالُ فُـكَّ لنـا العِقَـالُ
وإنَّـا لا نبَـالـي باعْتـقـادٍ
ولا مَا تستقيـمُ بـه الخِـلالُ
إذا عَنَّتْ لنا بيـضُ القوافـي
على كثبٍ أوِ انْفتَـحَ المَجـالُ
لزرْعِ غيَاهبِ الأوقاتِ بِشْـرًا
فيُصبِحَ للوجـودِ بـهِ اكتمـالُ
وتلـكَ مقالـة ٌ لِلجَهـل فيهَـا
نـزُوعٌ واحتِبَـاءٌ واتِّـصـالُ
قديمًا أبْـرَقَ الجُعْفِـيُّ قـولاً
إلى مَن في مَدَاركِهِ عُضـالُ:
"ومن يكُ ذا فمٍ مُـرٍّ مريـضٍ"
فلا يَحلو لهُ المـاءُ الـزلالُ*
بِزندَقـةٍ قـدِ اتُّهِـمَ المعَـرِّي
ولمْ يكُ فِي الضمير لها احتمالُ
أدِينَ بمِثْلِِها الحَسَنُ بْنُ هانِـي
وقِيلَ لَبِئسَ قَوْلُـكَ والخِصـالُ
وبَعضُ النَّاسِ ليسَ لهُمْ عقـولٌ
فتُدركَ ما يَقولُ بـه الرجـالُ
فكيفَ إذا أتى الشعـراءُ يومًـا
بقولٍ لا يُحيـط بـهِ الخيـالُ
ترَاهمْ يَنظرونَ إلـى قُشـورٍ
لهَا عَن زُبْدَةِ المَعنى انْفصـالُ
ويَنتبذونَ عَـن عَمْـدٍ مكانًـا
قَصِيًّا في الجَهالـة لا يُطـالُ
فَذا قدَرُ القصِيدَةِ ليتَ شعـري:
عروسٌ لا يَطيبُ لهَا الوصالُ
الشاعر في هذه القصيدة يحاول أن يرسم لنا ما آل إليه قدر القصيدة من هوان على يد من لا يرعون للشعر حرمة ولا يقيمون لرحم الشعر وزنا حيث يسيطر بعض من لا يملكون حسا نقديا أو دعما معرفيا على دائرة الشعر فيطلقون أحكاما لا علاقة لها بالإبداع بل تنم عن جهلهم في تحويل مسار القصيدة بعيدا عما خلقت له وهذا هو الواقع الذي يتصادم معه الشاعر ومن ثم فقد أعد عدته وجهز أسلحة الشكوى التي يمتلكها ودخل دائرته الفلسفية التي تمثل وجهة نظره وبدأ في عرض تفاصيل تلك الشكوى الممثلة في :
أولا : مدى المعاناة التي يعيشها الشاعر في إنتاج الحرف الشعري وآلام المخاض الشعري العسر حيث يبدأ الأمر بالانشغال بأنين الحرف وتوجعه وكأن آلام الطلق الشعري قد بدأت تعلن عن ميلاد تجربة ولكي يعد تمهيدا منطقيا للشكوى القادمة في الأبيات التالية جعل ذلك الأنين في أكثر الأوقات التي يكون فيها الناس العاديون في حالات الاسترخاء ورفاهية النوم ولكن الشاعر في ذلك الوقت يكون قد بدأ مرحلة المعاناة الشعرية فهو يعيش نقيض ما يعيشه الناس ففي وقت راحتهم هو ساهر على تجربته يعاني من آلامها ووجعها وحين تتحرك دوافعه النفسية راغبة في التفجر باحثة عن ممرات تعبيرية مناسبة يبدأ الانشغال في البحث عن تلك الممرات الممثلة في المركبات البيانية والتي هي تمثل جنوحا من قبل الشاعر عن الواقع ومحاولة منه للالتفاف حول هذه الواقع لإعادة تصويره وبنائه في الحيز الشعري فيتحول الأنين والألم لدى الشاعر إلى جمال تتقبله ذائقة المتلقي فيستمتع هو على الرغم من أن من أنتج هذا الجمال كان يعاني تماما كالأم التي تتألم في المخاض وتعاني أشد المعاناة لتخرج وليدها بهي الطلعة كل من يراه يتعجب من جماله ؛ " أمن الألم تولد هذه الجمال ؟" ولكن من يراهن على جمال الوليد لم ير ولم يستشعر ضراوة الآلام التي مرت بها تلك الأم ( الشاعر ) في ولادة هذا المخلوق الجميل الممتع ... ثم يبدأ الشاعر في تبرير رغبة الشاعر في ممارسة هذا العذاب بكامل إرادته فهو لا يبغي من ورائها ثمنا اللهم إلا رؤية وليده في صورة صحيحة جميلة يعجب الناظرون لرؤيتها ...
ثانيا البدء في عرض تفاصيل الشكوى : حتى الآن الشاعر يمهد لعرض خيوطه النفسية التي ستمثل زاوية رؤيته وهي ( فلسفة الشكوى ) فيبدأ الانطلاق نحو تلك الصبغة التي يصطبغ بها ( عبد اللطيف غسري ) في الكثير من قصائده وهي الرغبة في الشكوى المستمرة من هذا الواقع وتكون إشارة البدء لعرض تلك الفلسفة من أول البيت السادس , حيث يعلن عن تعجبه ممن لا يمتلكون حسا شعريا أو نقديا ويتعرضون باللوم لذلك المنتج وهم لا يدركون مدى معاناة الشاعر في تخريج ذلك الوليد المرهق وقد مرت شكواه في هذا البيت من خلال ثقافة عربية ضاربة بجذورها في التاريخ ممثلة في مثل عربي - تناص معه الشاعر بمهارة وإتقان - حين قال ( فكيف نلام ممن ليس ترعى - - - له في الشعر نوق أو جمال ) فأحال المعنى على الحكمة العربية حيث لا يحق لمن ليس له ناقة ولا جمل في الأمر أن يدلي بدلوه في مضمار ليس له فيه شيء .. [ وهذا ماكنت أعنيه في المحاضرة السابقة من (((الامتلاء الفكري))) ... وهي قدرة الشاعر على استدعاء ما يشاء من رافده المعرفي وقتما يشاء بأي حيثية يشاء ] ثم ينتقل الشاعر بين تفاصيل شكواه ممررا خيطه الفلسفي الشاكي في الأبيات التالية للبيت السادس من خلال الاستفهام التعجبي الذي جعل منه الشاعر صابغا لفلسفة الشكوى التي اصطبغ بها سائلا : فكيف نتهم بأننا ليس لنا ذمام من هذا الأخرق الذي لا يعرف قيمة العمل الشعري وكيف يتهمنا بالعشوائية الفكرية وأننا لسنا من أصحاب الاعتقاد ونحن الذين نكمل النواقص ولا تصبح للدوائر معان إلا بنا لأننا المتممون لتلك الدوائر فنحن بسمة اللذة في الوجود ونحن أمل التائه في صحراء النفس القاحلة , إن من يدعي ذلك علينا إنما هو جاهل موغل في الجهل ثم استدل من خلال ظاهرة التناص مع تراث شعري حيث اتهم من يقول هذا بمرض الفم وخبثه وعدم قدرته على صياغة الجمال أو التلفظ به ... ثم بدأ في استحضار الشعراء الذين يثبتون أن الشعر كائن مقدس ومحراب للزاهدين فجاء بالمعري وأبي نواس " الحسن بن هانئ " ذلك المتهم بالزندقة أليس قد ختم حياته زاهدا من أتقى الزاهدين والعبرة بخواتيم الأعمال وقد سُبِق بتلك التهمة من قبله المعري ... ( إن هذا ما عبرت عنه سالفا من الحديث عن الامتلاء الفكري عند الشاعر فلولا وجود هذا الجانب المعرفي بحياة المعري وأبي نواس في مخزون الشاعر ما استطاع جلب هذا المعنى الخالد الرقيق الشفاف )
وتتجلى هنا فلسفة الشكوى الظاهرة في شعر عبد اللطيف غسري وكأنها عرق رخامي يمر في حائط البناء الشعري للقصيدة واضحا جليا حين يبدأ في إلقاء اللوم على بعض الناس ممن ليست لهم عقول فيستقبلون قول ذلك الناقد المريض على علاته ويصدقونه فيكون هذا الناقد المريض قد شوه صورة الشعر دون أن يدري وبجهل مقيت ..
ومن عيب هؤلا النقاد أنهم غير قادرين على الغوص في أعماق المعنى وإدراك ما وراء الكلمات فيشغلون أنفسهم بالقشور دون الغوص وراء الدرر الكامنة في قاع القصيدة الشعرية
ثم يختتم بتلك الحكمة الرائعة الهائلة التي جسدت وكثفت هدف التجربة كلها إن القصيدة بين أيدي هؤلاء الأغبياء مثل العروس التي تزوجت ولكنها لم تنل من متعة الزواج شيئا وكأنها ( كالبيت الوقف ) كما يقول المصريون
لم أكن من خلال العرض السابق أعني شرح الفكرة العامة للقصيدة فهي واضحة وضوح الشمس ولكنني مررت من بين افكارها لأبين كيف أن هذا الشاعر قد اتخذ من ( فلسفة الشكوى ) زاوية رؤية فكرية يرى من خلالها الواقع
وسوف أستعرض جزءً أخر من تجارب للشاعر ( عبد اللطيف غسري ) محاولا تحقيق معالم تلك الفلسفة أو زاوية الرؤية أو وجهة النظر في مواجهة واقعه الشعري ومنها قصيدته ( إلى البحر أطوي كل موج ) وهي واحدة من الروائع التي نستدل منها وبها على معالم تلك الفلسفة التي تقوم على الشكوى يقول في مطلعها :
يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِـفُ
وَأنتَ على تشْذِيبِ حُلْمِـكَ عَاكِـفُ
وَأوْراقُـكَ العَـذْراءُ سِفْـرٌ طَوَيْتََـهُ
وَمِنْ شَجَرِ الإحْسَاسِ فِيـهِ قطائِـفُ
وَلِلماءِ أُخْـدودٌ يَقـولُ لـكَ اقْتحِـمْ
عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟
إنه يبدأ بالشكوى إذ يقول ( يخب حصان الشمس والظل واقف ) لقد أحسست أمام هذه الجملة بأن الشاعر يصرخ إلى الداخل تاركا صدى الصوت هو الذي يخرج لنا مرتدا من داخله فإن ترك صراخه منطلقا إلى الخارج لأصبنا بالصمم من شدة صراخ الشكوى ... إن ( الخبب ) هو السير السريع فإذا خب الفرس نقل أيامنه وأياسره جميعا في العدوة الواحدة من سرعة العدو فصور الشمس جوادا ينطلق بسرعة مخيفة ثم مرر خيط الشكوى واللوم في قوله ( والظل واقف ) ويستمر في تفريغ شحنة الشكوى اللاحقة ( وأنت على تشذيب حلمك عاكف ) إن انفجار الشكوى كان مكمنه ( إنك تقوم بتهذيب حلمك الذي لم يعدُ كونه حلما والشمس التي هي رمز للحياة تتحرك بسرعة والظل الذي هو رمز لك مازال واقفا ... والمفارقة الرهيبة في أننا حين نرى الشمس تتحرك يكون المتوقع أن الظل يتحرك معها ولكن الشاعر أبى إلا أن يحقق التناقض في مفارقة غاية في الروعة والابتكار فجعل الظل تاركا الشمس واقفا لا يتحرك فالحياة تسير وأنت واقف ما زلت تسعى بحلمك إلى غاية الاكتمال لم تصل به إلى حيز الوجود بعد ...) إن الشاعر هنا يشكو ولكن ما قضية الشكوى المتفجرة في ذلك المطلع الذي هو بوابة الولوج إلى مضمون وهدف القصيدة ... ؟ إنها الشكوى من سرعة الحياة التي لم يعد المتقن المتأني قادرا على ملاحقتها ولم يعد له دور فيها ومن ثم فمن أراد ملاحقة الحياة عليه أن يخرج أحلامه منقوصة غير تامة أي يقتل ضميره ويسير على مبدأ الغش وتزييف بضاعته حتى يستطيع أن يواكب سرعة تلك الحياة ...
إن الشاعر عبد اللطيف غسري تضج قصائده بالشكوى ولا يكاد يمر بيت علينا من قصيده إلا ولاحظنا تلك المسحة من الشكوى العارمة من كل شيء , كل شيء ...
وتلك هي زاوية الرؤية الأولى التي أحصيتها في المحيط الشعري بعد طول بحث واستقصاء
عبد الله جمعة