دموع في مقبرة المسيح. بقلم م. زياد صيدم
ألو ..سنيور جان كارلو..نعم .. سنيور قرأت إعلان عن وجود غرف خالية للإيجار عندكم فهل ما زالت ؟ نعم تستطيع الحضور لرؤيتها ..هل تعطيني العنوان من فضلك ... نعم إليك هو ولن تجد صعوبة فهو في منطقة الجامعة .. شكرا لكم ، سأحضر حالا.......
كانت مكالمة قصيرة ولكنها موفقة تحركْتُ سريعا من بيت صديق لي كنت في ضيافته لخمسة أيام لم أذق خلالها طعم للراحة ولا للمقلوبة التى أمطرني بها يوميا فقد عمل كمية تكفى لعشرة مدعوين على شرفي لم يحضر أحدا منهم في ذاك اليوم ؟ حيث حالت مباراة لكرة القدم بين فريق المدينة وفريق آخر لا أذكره لعدم شغفي في الكرة دون حراك أحد من بيته.. فقد وطئت قدامى أرض مدينة التجارة و البز نز ، مدينة الأزياء والموضة ،مدينة بغايا الليل والشواذ والجنس الثالث ،مدينة العلم والعلوم فمن هندسة العمارة إلى هندسة الطائرة وعلوم الفضاء والذرة والأدب والقانون والاجتماع ، مدينة الحب والجمال والغلاء والصخب، مدينة الرياضة وكرة القدم فلها فريقان عريقان يتصدران الدوري الأسبوعي..إنها ميلانو في منتصف الربع الشمالي من دولة أخذت شكل جزمه شتوية لسيدة تزهو بها بين سيدات المجتمع داخل البحر المتوسط كشبه جزيرة ،مدينة منبسطة تحيط بها جبال خضراء تتراءى عبر الأفق البعيد لناظر يمتاز ببصر قوى ثاقب..
مضت نصف ساعة كنت قد وصلت منتصف الشارع المكتوب في العنوان، كان مخرج محطة المترو الأرضي قد قادني إلى حيث وجدت يافطة نحاسية عفا عليها الزمن ولكن الكتابة بالأسود كانت واضحة تماما باسم الشارع فور صعودي إلى سطح الأرض، فلم يستدعيني التكلف بالسؤال عنه ،فاتجهت صوب العمارة وضغط إبهامي على زر كتب عليه اسم جان كارلو فرد على مرحبا ونطق كلمتين فقط :الدور الثالث ، دخلت متجها صوب الدرج فالدور الثالث لا يستدعى استخدام المصعد الكهربائي لشاب في الثانية والعشرين من عمره ،كان يرقب باب المصعد عندما فاجأته من الخلف ناطقا باسمه، فالتفت مرتبكا فقد فاجأته حيث لم يتوقع ..رحب بى وقادني إلى داخل الشقة وبدأ في استعراض مكوناتها ومدللا على الغرف المهيأة للسكن وكانت غرفتا نوم وضع في كل منهما سريران وكانت الغرفة الثالثة لوالدته الختيارة سنيوره لينا، ما تزال عفية البنية مبتسمة الوجه خفيفة الروح من شكلها الذي دل عليها ومن الوهلة الأولى كان تقييمى لها من بشاشة وجهها الذي يقفز منه نور غريب !! قبل أن نكتشف بأنها أكثر من رائعة ثم الصالون والمطبخ وحمام وحيد ولكنه كان متكامل ومتسع. بعد اقتناعي بالأجرة الشهرية، ورخصها مقارنة بالشقق الأخرى ومكانها القريب من الجامعة فهي تبعد خطوات لا تتعدى خمس دقائق مشيا على الأقدام ،المواصلات الميسرة السريعة المحيطة بالمكان حتى أن إحدى محطات القطار الفرعية كانت على بعد خطوات أيضا ، فقلت وهل من تليفون سيدي فقال نعم وتستطيعون استخدامه فقد وضعت عداد حتى يسجل المتحدث مكالماته فلا يحدث مشاكل بينكما وهذه الفكرة اهتديت لها عن تجارب سابقة..! فابتسمت له قائلا سأجرى مكالمتين الآن وان لم نوفق بالسكن هذا فعلى من نسجلها ؟؟ فقهقه طويلا وخرجت من قلبه الضحكات وربت على كتفي قائلا من زمن لم اضحك هكذا أيها الشاب طبعا سأوقعها باسمي جان كارلو وقهقه ثانية فاستبشرت خيرا من تلك الوجوه الطيبة المبتسمة فحتى أن سنيوره لينا شاركتنا الضحكات دون أن تعلم عن ماذا نتحدث ، وللحقيقة ما أن علم من حديثا ونحن ما نزال واقفين بعد باني فلسطيني حتى كاد وجه أن ينطق بلوعة وحنين إلى بيت لحم حيث مهد المسيح عليه السلام ، فظهر واضحا بأنه من الأسر المحافظة ، فقمت بالاتصال سريعا لصديقين يبحثان عن سكن مثلى فهي فرصة وتوفيق من الله فوافقا على الفور وخولاني بالتصرف، وفعلا تم حجز الغرف بعربون دفعته لجان كارلو حتى الغد لاستقدام الشباب والأمتعة وما شابه فأعطى لى مفاتيح الشقة والبوابة الكبيرة السفلية للمبنى على أن نلتقي غدا في وقت نتفق عليه ونكون قد جئنا بأمتعتنا ..
في اليوم الثاني كان بانتظارنا وصنعت والدته سنيورة لينا لنا القهوة قائلة قولها المشهور وهو مثل قديم روماني فاصلها من مدينة روما وكان والدها يعمل في سراي ضخم لملك روما آنذاك، قالت: القهوة تشرب ساخنة ونحن جالسين ولا يجب أن نفكر بشيء آخر؟ فقلت لها وهذا يعنى بان لا نتحدث نهائيا ونحن في نشرب القهوة احتراما لها فقالت نعم وكانت جادة ومصرة على قولها المأثور فعلمت بأنها فعلا تنحدر من جيل آخر وما تزال تحافظ عليه، تماما كما يفعل كبار السن في بلادنا.. كانت سيدة فاضلة في الثمانينيات من عمرها وهى لا تعترف بسنها وتحاول أن تختصر سنوات كثيرة شأنها شأن جميع النساء في العالم، فهذه سبحان الله ميزة نساء الأرض وستلاحقهن في السماء إن لم أكن مبالغا لولا خلود البشر هناك لأقنعتكم بهذا ...؟؟!!
كانت تلك الجلسة الأولى بداية ومدخلا للتفاهم على كثير من الأمور الهامة مثل حريتنا في التحرك والتصرف وهنا تدخل ابنها محاولا الظهور بان تلك الأمور لا تعنيه قائلا :كان قبلكم عمال عرب لم أرى في وجوههم هذه البسمة والثقة في حديثكم فقلنا جميعا هناك فوارق يا سيدي ما بين الطلاب والعمال فنحن غير منتجين ونعرف كبرجوازية صغيرة وهم يشقون ويكدون وينتجون لهذا تجدهم عابسي الوجوه آخر النهار..قطعت حديثنا الختيارة وهو الاسم الذي شاع بيننا على مدار سنتان تقريبا متجه بالقول إلى ابنها لو كان ابنك ما يزال حيا لكان في أعمارهم وبدأت في البكاء العنيف لم نرى مثله أبدا أو أننا لم نعتقد بأن هذا العالم المادي قد يبكى ويحزن مثلنا ونحن الذين نعطى للروح والمعنويات كل حياتنا.. واتفقنا على أننا أحرار بالتصرف وباستخدام المطبخ واستقدام الأصدقاء من كل لون !! على أن نحترم خصوصية الختيارة فلا نفتعل الضجيج أو نزعجها في غرفتها بعد العشرة ليلا حيث اكتشفنا لاحقا بأن شخيرها كان يسبق العاشرة دوما..فزدناه القول وهذا من اجل الجيران أيضا فنحن نعلم القوانين ونحترمها فلا عليكم بهذا.. وهكذا يوما بعد يوم بدأنا في التأقلم مع وجود تلك الختياره في غرفتها فهي لا تخرج منها إلا لقضاء حاجتها أو المكوث لوقت قليل في المطبخ وتبقى أمام التلفاز الذي ما زال أبيض واسود، كان يأتي لها ابنها ثلاث مرات أسبوعيا قبل أن نريحه من مشوارين على الأقل فاكتفى بالقدوم مرة واحدة لاحقا.. وأحيانا يعتذر منا لانشغاله فنغطى له الأسبوع كاملا عن طيبة قلب وخاطر ، تدفعنا إليها حاجتنا الغريبة واستئناسنا بتلك الختياره، وشعورنا بنوع من أجواء الأسرة المفقودة.. فكنا نتسابق على تقديم السباغيتى وأحيانا بعض من قطع البستيك من لحم البقر حتى أننا وجدنا في كثير من الأحيان في ثلاجتها الصغيرة الموجودة في ركن قرب النافذة في غرفتها، قد تكدس الطعام فهي قليلة الأكل وحريصة جدا على صحتها، فكان طعامها اللبن والجبن وما نقدمه من سباغيتى ساخن تفرح به كثيرا..
اعتاد جان كارلو الحضور في الفترة الصباحية محضرا لها الفاكهة والطعام الذي لا يأخذ وقتا في التجهيز ويجالسها نصف ساعة و يمضى خارجا.. وهى تحضر بنفسها غذائها منتصف النهار تماما كما هي عادة أهل البلاد ، فلا نراها في المطبخ أبدا لاختلاف المواعيد بيننا..وللحقيقة شعرنا وكأنها جدة لنا جميعا وفى يوم الأحد حيث العطلة الأسبوعية نستمتع مع ابنها بالحديث والاستشارات المختلفة، فلم يبخل علينا بشيء حتى في بعض خصوصياتنا وأسرارنا الشخصية ومغامراتنا كان لنا الناصح والمستشار، بحكم خبرته وسنه ودرايته، فأصبح لنا صديقا عولنا عليه كثيرا في بعض القضايا الهامة على المستوى الشخصي والعاطفي تحديدا ،كان رجلا وصديقا بمعنى الكلمة..كان جان كارلو قد قارب على الثامنة والخمسين من عمره، يهتم بصحته وخصوصا بشعره حيث كان يضع الجل فيبدو لامعا، وبتسريحة دائمة قد اعتاد عليها تظهره في نهاية الأربعينيات من عمره.
تعرف على أصدقائنا ومعارفنا الذين كانوا صدفة ينامون عندنا.. ففي الصباح حيث يصادف وجوده يوم الأحد كان يعمل القهوة لنا بنفسه، ونجلس معا نتحدث بأمورنا، ومشاكلنا الدراسية وبقصص من مغامرات الأصدقاء مع الحسناوات فهذا قد فشل في تعليق واحدة من أسبوع يرمى بغزله دون فائدة.. وآخر سيذهب اليوم لمقابلة حسناء قد يبدءا مشوارهما معا.. وآخر مازال على العهد مع صديقته الشقراء لا ينطق إلا بالقليل عنها وهكذا.. نتحدث دوما بالسياسة ففي كل مرة يأتي بصحيفة الكورييرا دلا سيرا حيث الصفحة الخارجية، وبعناوين عن فلسطين أو العراق أو لبنان ونذكر جيدا عندما زار الراحل عرفات روما ، واستقبله البابا لم يستطيع جان كارلو النوم حتى يعلمنا بذلك عبر التليفون وصوته يرقص طربا وفرحا..كان مناصرا لقضايانا بحزم وقناعة..تعرف على صديقاتنا وزميلاتنا في مناسبات متعددة فكان يروج لنا كثيرا وعن قناعته مازحا معهن بأنهن محظوظات فعلا عن ربيباتهن من الأخريات ..!! ،كنا ندعوه بيننا وفى أعياد الميلاد المسيحية كنا نقيم حفلة صغيرة لسنيورة لينا احتراما وتكريما لها ،ندعوه بيننا ثم نذهب نحن ويمكث هو مع والدته منشرحين ،فرحين،كأننا أسرة واحدة، كان منفصل عن زوجته منذ خمسة عشرة سنة وفاقد لولده الوحيد بحادث سير مروع ، نجا هو وزوجته السابقة بأعجوبة،كان يقيم وحدة في شقته الصغيرة في القسم الآخر من المدينة..
جاء صيف حار وعلى ما اذكر كان في عام 1986 تأثرت به الختيارة كثيرا وبدأت في الظهور عليها علامات التعب والإرهاق، ونوع من الدوخة وعدم القدرة على المشي مما أضرها للمكوث على السرير ولم يمض وقت طويل حتى توفاها الله ، وقد اكتشفنا ذلك صباحا..ماتت بهدوء لم تتعذب في مرضها، فقد كانت حتى الأمس تتكئ على عكاز أحضرناها لها في الآونة الأخيرة لأن الدوخة كانت تصيبها في أي لحظة ..وقمنا بإعلام ابنها على الفور.. الذي بدأ فورا بعمل الإجراءات اللازمة من بلدية ومقبرة ونحن في ذهول من الأمر.. فقد عز علينا فراقها كثيرا وقمنا بمرافقة الختياره (رحمها الله) إلى مقبرة المدينة البعيدة حيث إست قلينا سيارتين من سيارات أصدقائنا، وسرنا خلف عربة البلدية المخصصة للموتى حيث ركب ابنها معنا وجاء آخرين من معارفه وأصدقائه ولكنه فضل أن يكون معنا.. ونحن وللحقيقة قد فضلنا أن يركب جوارنا وهناك بعد أن انهوا الصلاة عليها في كنيسة صغيرة بنيت خصيصا لهذا الغرض كنا ثلاثتنا ورابعنا جان كارلو ،فقد تنحى جانبا أصغرنا سنا ، لإفساح المجال لجان كارلو أن يأخذ مكان له لنمسك جميعنا بأطراف أربعة لحبال غليظة ، تمسك تابوت خشبي من جهتيه الأمامية والخلقية يحتضن بداخله الختياره لينا، التى كانت على مدار سنتين بمثابة جدة للجميع وأكثر !! وبدأنا في إنزاله رويدا ..رويدا حتى لامس أرضية القبر الذي حفر مسبقا وسحبنا الحبال وبدأت جرافة صغيرة جدا بإزاحة الرمل عليه حتى امتلأت الحفرة فأخذنا المعاول وبدأنا في تهيئة الرمل وتسويته ورش قليل من الماء طلبناه نحن لهذا الغرض، وغرسنا نبات أخضر عليه ونثرنا بعض الورود ..كان المشهد حزينا والوقت يمر ثقيلا، وانسكبت منا الدموع الصادقة وامتزجت بالماء المرشوش على قبرها.. فكأننا ندفن جدتنا التى لم نراها في حياتنا أو لم نتمكن من المشاركة في جنازتها وطقوس الدفن والعزاء فقد توفيت جداتنا جميعا ونحن في الغربة، فقمنا بكل واجبنا تماما والألم يعتصر قلوبنا فقد كانت لنا أكثر من أم صديق لنا..فشعرنا كأننا في طقوس جنازة في بلادنا.. وبعدها أخذنا تعازي جان كارلو ودعوناه للبيت فورا وهناك عملنا القهوة السادة وتقبلنا التعازي من المعارف والأصحاب على مدار 3 أيام ..كان خلالها جان كارلو بيننا والدموع لم تجف من عينيه حتى أصبحتا كالجمر وقبل أن يودعنا قال جملته التى لا تنسى: لم أتوقع أن أرى بعيني ولا بحياتي ملائكة على شكل إنسان..فانتم تستحقون الحياة لا الموت الحاصل لكم، والقهر الواقع عليكم ..فما فعلتموه لا وصف له عندي ولا اعتقد أن أجد وصفا من آخرين هنا يوفيكم حقكم.. كان يتحدث وعيناه المحمرتان قد اغرورقا بدموع كانت تحمل أكثر من معنى؟ وأكثر من ثناء..؟؟
وفى اليوم الثاني كنا قد قررنا جميعا دون استثناء ترك الشقة نهائيا، فلم نتعود هنا أن نعيش بدون جدتنا !!فالمكان أصبح موحشا والهواء ثقيلا والفرحة قد اختفت ومضت إلى غير رجعة.. واستمرت علاقتنا لاحقا بالرجل الكريم والصديق الوفي الرائع عبر التليفون ، وأحيانا في مكان نتناول فيه فنجان قهوة لنستأنس برأي أو مشورة في أمر يتطلب دراية وحكمة .. و هو لا يدخر قولا وتعريفا بنا إلى معارفه وشعبه فيقدمنا كملائكة تمشى على الأرض، هكذا كانت كلماته.. وما يعنينا من الأمر سوى ردة الفعل من شعب نعيش بينه ونأخذ من علومه وعلمه بأن يزداد حبا ونصرة لقضيتنا فنشعر بشعور لا يوصف من الفخر وبأمل يدفعنا نحو الرجاء والنصر..لقد دفنا سنيورة لينا هناك منذ اثنا وعشرون عاما وما تزال ذكرى الدموع في المقبرة خير شاهد .
إلى اللقاء.