للدكتور/ مسعود صحراوي
قراءة: محمود طلحة(1)
نشرت دار الطليعة للطباعة والنشر، ببيروت/لبنان، مطلع شهر أوت 2005، الطبعة الأولى من كتاب التداولية عند العلماء العرب...، للدكتور مسعود صحراوي، أستاذ علم اللغة بجامعة الأغواط (الجزائر)، ويتكون من 240 صفحة من الحجم المتوسط، و هذا من المؤلفات الأكاديمية القليلة-المؤلفة باللغة العربية- والتي تعالج هذا المجال المعرفي الجديد حيث تستفيد الدراسة من المفاهيم التداولية الحديثة لتوظفها في قراءة الإنتاج العالمي لعلمائنا ومفكرينا القدامى، وتستثمرها في رصد الخصائص التواصلية للغة العربية وتفسير بعض من ظواهرها الإبلاغية الخطابية.
التداولية علم جديد للتواصل الإنساني يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال ويتعرف على القدرات الإنسانية للتواصل اللغوي ومن هنا تكون جديرة بأن تسمى: علم الاستعمال اللغوي.
والتداولية كما يذكر المؤلف: "ليست علما لغويا محضا، علما يكتفي بوصف وتفسير البنى اللغوية ويقف عند حدودها وأشكالها الظاهرة، بل هي علم جديد للتواصل الإنساني يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال ويتعرف على القدرات الإنسانية للتواصل اللغوي ومن هنا تكون جديرة بأن تسمى: علم الاستعمال اللغوي". ويرى المؤلف أن ظاهرة الأفعال الكلامية (speech acts)- باعتبارها من أهم القضايا التي تهتم بها التداولية- قد جرى بحثها في تراثنا اللغوي ضمن "نظرية الخبر والإنشاء"، تلك النظرية التي كانت حقلا مشتركا بين تخصصات علمية متعددة، فقد اشتغل يحثها الفلاسفة والبلاغيون، والمناطقة والنحاة والأصوليون... فصار متعينا -من ثمَّ- على من يدرسها أن يتتبع فروعها وتطبيقاتها في مؤلفات عدد من علمائنا الأجلاء الذين أسسوا لهذه النظرية في تراثنا أو عمَّقوا دراستها من أمثال: عبد القاهر الجرجاني، وأبي نصر الفارابي، وأبي علي ابن سينا، والقاضي عبد الجبار المعتزلي، ونجم الدين الكاتبي القزويني، وأبي يعقوب السكاكي، وسيف الدين الآمدي، وشهاب الدين القرافي، وفخر الدين الرازي، وأبي إسحاق الشاطبي، والإستراباذي، وابن الحاجب، وابن يعقوب المغربي، وسعد الدين التفتازاني، وغيرهم... ومهما تعددت التخصصات العلمية لهؤلاء العلماء الأجلاء فإنهم يلتقون على صعيد إجرائي واضح، ولا سيما المتأخرين منهم، وهو أنهم استعملوا أدوات التحليل المنطقية والتداولية في تحليل الظواهر الأسلوبية وتطبيقها على أصناف من الخطاب العربي في الطبقات المقامية المتباينة.
مبررات البحث:
يعالج المؤلف ظاهرة الأفعال الكلامية، ويسعى في كتابه إلى إثبات وجود الظاهرة في اللغة العربية، وإلى تأسيس تداولية عربية من خلال نصوص التراث اللغوي ثانيا، انطلاقا من موقف واع يتصدى لمحاولات التشكيك في علمية النتاج اللغوي العربي يندرج الكتاب ضمن المؤلفات الأكاديمية المتخصصة لذلك فهو يتوجه إلى طلاب اللسانيات، والمهتمين بالتراث اللغوي خصوصا، وهو-إضافة إلى ذلك- يعالج قضية تخصصية حيوية استقطبت اهتمام كثير من اللسانيين المعاصرين الغربيين والعرب، وهي ظاهرة الأفعال الكلامية، وعليه فإن المؤلف يسعى في كتابه إلى إثبات وجود الظاهرة في اللغة العربية، وإلى تأسيس تداولية عربية من خلال نصوص التراث اللغوي ثانيا، انطلاقا من موقف واع يتصدى لمحاولات التشكيك في علمية النتاج اللغوي العربي، سواء في هذه الظاهرة أو غيرها من الظواهر اللسانية، ويُعدُّ هذا الموقف من أقوى مبررات بحثه، على أنه بهذه القضية يتجاوز الاعتساف في القراءة والانفعال في الشعور، ليجسّد مبدأ هاما لا نجده إلا في دراساتنا الحديثة القيمة، وهو محاولة قراءة التراث قراءة معاصرة تتسلح بالمفاهيم اللسانية والتداولية الحديثة، مع مراعاة استقلالية التراث العربي الإسلامي بخصائصه الإبستيمولوجية والمنهجية، والتي تجعل منه منظومة مستقلة ومتميزة ومتكاملة، ومن هنا تأتي شرعية قراءة التراث الواعية والمتصلة بالمفاهيم الحديثة ليكون هدفها البناء على القديم وتطوير مفاهيمه ورصد مضامينه، ولا سيما إذا توفرت، لتلك المفاهيم الحداثية، الكفاية العلمية (Adéquation): الوصفية والتفسيرية المناسبة لدراسة البعد التواصلي الإبلاغي للظواهر الخِطابية التواصلية (Phénomènes discursifs) للغة العربية.
ومن المبررات التي دعته إلى البحث في الموضوع أن الظاهرة تشكّل الأساس المعرفي لنظريات لسانية معاصرة منبثقة عنها أو متأثرة بها في الأسس المعرفية، لعل من أبرزها نظرية "النحو الوظيفي" لـ"سيمون ديك Simon DICK" وغيرها من النظريات الوظيفية المعاصرة... ولهذا يعد البحث في هذه الظاهرة ضروريا من أجل التعريف بالأساس المعرفي الذي قامت عليه أحدث النظريات الوظيفية في اللسانيات المعاصرة. ومن دواعي البحث، كما يرى المؤلف، قصور التيارين: البنيوي والتوليدي التحويلي، عن استيفاء قضايا جوهرية في الظاهرة اللغوية... ومن مبرراته أيضا هذا الفراغ الكبير الذي تعاني منه المكتبة العربية من الكتب والدراسات التي تخصصت في بحث ظاهرة الأفعال الكلامية من وجهة نظر لسانية، ويدعم هذه المبررات ذلك الكم الهائل من المصادر والمراجع سواء في التراث العربي أم في الفكر اللساني الغربي الذي استعان به المؤلف لإنجاز كتابه.
أهداف البحث:
يرجو المؤلف من نشر الكتاب- المكون من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة وثبت للمصادر والمراجع- أن يُوضِح لطلاب اللسانيات خصوصا وللقراء عموما، كيفية استثمار مفهوم "الفعل الكلامي"، أو جزئه الجوهري، وهو ما يعرف بـ"القوة المتضمّنة في القول"، في قراءة الموروث اللساني العربي عبر حقول معرفية متعددة كعلم البلاغة وعلم أصول الفقه والمنطق والنحو...
ولذلك فهو يقوم بتأصيل الظاهرة وإثراء الرؤية الغربية المعاصرة فيها وتعميقها عبر لسكناه ذلك الجهد الذي بذله أسلافنا القدامى، متوخيا ثلاثة أهداف على الخصوص كما يذكر المؤلف:
• إثبات احتواء التراث العربي على مباحث وأفكار ذات توجهات وإجراءات تداولية، أي الكشف عن الوجه الآخر للتفكير اللساني العربي، ومن ثَمَّ تكون "التداولية" مدخلا مناسبا من مداخل فهم هذا التراث العظيم، وأداة من أدوات قراءته.
• الإسهام في تعريف القراء عموما، وطلبة اللغويات خصوصا، بنسق لغوي حديث لا يتاح لهم أن يعرفوه بلغتهم العربية، بالنظر إلى خلو الساحة اللسانية العربية من الكتب المتخصصة التي تعرّف بهذا البحث اللساني المعاصر، إذا ما استثنينا بعض الكتب النادرة أو المقالات القليلة في المنطق والفلسفة.
• الإسهام بجهد متواضع ينضم إلى الجهود القليلة التي تهدف إلى قراءة هذه النظرية قراءة جديدة تحاول أن تعيد إليها هُويتها اللغوية بعد أن صبغت بالصبغة الفلسفية تارة والمنطقية تارة أخرى، فهذا الحقل المعرفي هو نقطة التقاء مركّزة (Interdisciplinarité focalisée) بين العديد من العلوم كاللسانيات والسيميائيات والمنطق والفلسفة وعلم النفس المعرفي.
مضامين البحث:
في الفصل الأول قام المؤلف بعض الجهاز المفاهيمي للدرس التداولي المعاصر مركزا على إبراز مفهوم التداولية. والحديثُ عن التداولية، كما يقول المؤلف، وعن شبكتها المفاهيمية "يقتضي الإشارة إلى العلاقات القائمة بينها وبين بقية الحقول المعرفية المتصلة بها، حيث تمثل التداولية حلقة وصل بين هامة بين حقول معرفية عديدة"، وعليه فقد سعى إلى بيان المصادر المعرفية للدرس التداولي المعاصر، وعلى رأسها "الفلسفة التحليلية" التي يعتبرها المؤلف السبب الأساسي في ولادة "التداولية المعاصرة"، مشيرا إلى أهم إسهامات روادها في نطاق البحث اللغوي كالفيلسوف الألماني غوتلوب فريجه (Gottlob frégé)، والنمساوي لودفيغ فيتغنشتاين (L.Wittgenstein). ويميز ، هنا، بين ثلاثة توجهات في الفلسفة التحليلية هي: الوضعانية المنطقية والظاهراتية اللغوية وفلسفة اللغة العادية، ليخلص إلى أن هذا التوجه الأخير هو الذي نشأت في رحمه "ظاهرة الأفعال الكلامية". ويعرض، في الفصل الأول دائما، لبعض التصورات الخاطئة عن التداولية، التي تنم عن قصور أو اضطراب في فهم هذا العلم التواصلي الجديد، ويوضّح جوهر مفهوم هذا العلم مقارنا بينه وبين اللسانيات البنيوية حتى تتضح الفوارق بين العلمين، ثم يستعرض أهم "المفاهيم الإجرائية" للتداولية، كمتضمَّنات القول، والاسلتزام الحواري، ونظرية الملاءمة، والفعل الكلامي.
أما الفصل الثاني المعنون بـ: معايير التمييز بين الخبر والإنشاء في التراث العربي، فقد خصَّصه المؤلف لبحث معايير التمييز بين الظاهرتين الأسلوبيتين في تراثنا اللغوي، ومهد له بالأسس المعرفية التي تشكل الإطار الإبتستيمولوجي للظاهرة في التراث العربي مركزا على أبعادها التداولية.
أما الفصل الثالث فقد عالج فيه المؤلف تقسيمات العلماء العرب المسلمين للخبر والإنشاء من خلال التقسيم الإجمالي، ثم التقسيم التفصيلي، ففي التقسيم الأول عرَّفنا فيه على آراء كلٍّ من الفارابي وابن سينا والجاحظ والمبرّد وإبراهيم النظّام، وفي الثاني أسهب في ذكر أقسام الخبر والإنشاء وما انتهت إليه في تراثنا.
وخصص الفصل الرابع لبحث "طاهرة الأفعال الكلامية عند الأصوليين"، فقسمها إلى نوعين أساسيين: أفعال كلامية منبثقة عن الخبر، وأفعال كلامية منبثقة عن الإنشاء، مع إلحاحه على تداولية ظواهر أسلوبية كثيرة بحثها الأصوليون والفقهاء مثل ألفاظ العقود والمعاهدات باعتبارها "أفعالا كلامية" تتحقق فيها الحمولة الإنجازية.
وفي الفصل الخامس بحث المؤلف "الأفعال الكلامية عند النحاة" فأشار إلى أن النحاة العرب لم يغفلوا عن دراسة المعاني والأساليب، والأغراض والمقاصد، من خلال بحثهم في الإسناد وعلاقته بالظواهر الأسلوبية، مما أثر على التحليل النحوي، وعرّفنا بأهم المبادئ التداولية في تحليل النحاة، مثل مبدأ "الإفادة" وعلاقته بظواهر التعيين والإثبات والنفي، والتقديم والتأخير، ومبدأ "الغرض والقصد"، ودرس الأقعال الكلامية في الأساليب النحوية كالتأكيد والقسَم والإغراء والتحذير والدعاء والاسغاثة والندبة، ثم عرض للأفعال الكلامية في حروف المعاني. والخلاصة أن الكتاب جديد في مجاله، جاء ليسد ثغرة في المكتبة اللغوية العربية المعاصرة -كما قلنا- يمكن أن يفيد منه الطلبة والباحثون في العلوم اللغوية خصوصا، ثم عموم القراء والمثقفين، في التعرف إلى للدرس التداولي المعاصر والاستفادة من مقارباته مع التراث العربي، وقراءته قراءة جديدة، وفي رصد الخصائص التواصلية الخِطابية للغة العربية، بشرط يلحّ عليه صاحبه دائما ويرى استيفاءه واجبا، وهو "اختبـَار كفاية" الجهاز المفاهيمي للدرس التداولي الغربي لمعرفة مدى ملاءمته لدراسة ظواهر اللغة العربية، من الزاويتين الإبستيمولوجية والمنهجية.