المشاهد اللونية في شعر يوسف أبي سالم
الأخوات والأخوة الأفاضل .. أسرة أسواق المربد..
أرجو أن تعذروا حساً مغرما بالألوان والأنغام.. تحدو به تراتيل متباينة التناسق.. لا يستطيع أن يقف أمام الجمال أخرس اللسان..
فما مرت عيني على قصيدة ملونة متناغمة إلا وقفت عندها أتأمل روعة الصياغة وجمال البيان..
والحق أن منتدى المربد ممتلئ بهذا الجمال.. زاخر بدرر سنية وضاءة.. لم تعهدها عيني على الشبكة..
ولربما كان الشاعر القدير يوسف أبو سالم أحد الذين أتحفوا هذا الحس كثيراً بصورهم، وتفاجأت عيني بمشاهد قصائدهم الملفتة.. فاسمحوا لحسي البسيط أن يعرب عن جمال المفاجأة..
لاشك أن الشاعر حين يبدأ في نظم قصيدته يختار لها أولا قبل كل شيء نغما رتيبا، يسميه الخليل بحرا، يدندنه بكلمات قد لا تكون مفهومة أو متراكبة. غير أن هذه الدندنة لا تشير إلى القصيدة وموضوعها بقدر ما تشير إلى موسيقاها واستقرار مستوى ركوز الإيقاع في ذهن الشاعر، ثم تأتي المعاني بعد ذلك.. ويبدأ ميلاد القصيدة.
ومثل هذا التنغيم يسمى نظما، لكنه لا يتجاوز هذا المعنى إلى الشعر، وإنما تتشكل الصور تباعا لتكوّن ذلك الكائن العزيز.. الشعر.
والشاعر يوسف أبو سالم- كغيره من الشعراء- تمر قصائده بمراحل التنغيم، ورسم الخطوط الأولى لقصيدته الوليدة.. وتظهر تلك الخطوط غالبا في مطالع قصائده.. فيبدأ تكوين المشهد الأوليّ للقصيدة بهدوء سماء الصيف..
فحين بدأ- مثلا- قصيدته ترويدة للقدس بدأها بمشهد حزين لنشيج اليمامة، وهديل القصيدة الحزين..
هديلٌ وقافيةٌ
من نشيج اليمامِ
على ضِفّةِ القُدسِ ينتحبانِ.!!؟
مشهد هادئ يرسم خطوطا بسيطة باللون الرمادي الحزين، كلون قلم الرصاص، يستهل الإيقاع فيه متكاسلا، كأن المشهد الفعلي لم يبدأ بعد.
ومثله منظر بسيط الملامح آخر في مطلع قصيدته حكاية حب حين يقول:
تعالي نعيد الحكاية
فترتسم أمامنا صورة أولى باهتة الخطوط تشكل رجلاً وامرأة كبناء أوليّ لموضوع القصيدة وغايتها..
لا تتحدد الألوان في صور يوسف الشعرية غالبا، فأنت تراها ممتزجة بشكل تجريدي مميز تستشف من خلاله ملامح الصورة وإضاءاتها، هذا التمازج المتتابع في المجردات يجعلك تقف متأملاً شكل المشهد التعبيري لوهلة قصيرة قبل أن تبدي رأيك..
ولو أنك تأملت صورة كهذه:
أراودُ لونَ حدسي
عن صدى شطآني الأولى
وعن رمل المواويل
الذي قد بات مغلولا
فتمتشق المدى نفسي
وأشربني....فأصحو في لظى كأسي
فلسوف ترى تداخلا ملونا لطيفا بين زرقة البحر وصفرة الشاطئ ورمله، حتى اتقدت الصفرة وتوهجت فأخذت تدرجا قاتما استحال إلى لون أحمر هو لظى الكأس..
وكأنما اللون الأصفر فاصل لوني بين الزرقة والحمرة وتمهيدا لتباينهما..
وهذا التركيز على تمازج الأوان وتداخلها نجد الشاعر يأوي إليه كثيرا، ليعبر عن صورة ما، لا يحس أنها تنجلي بغير ألوانها المصورة تصويرا دقيقا، ومنها صورة الخوف والوحشة حين يقول:
إذا طوَّقَ الخوفُ
مرجاً من العشبِ
لا تلعبُ الشمسُ فيهِ
على قُرْبِها……!
كلنا- دون شك- يألف منظر المرج الأخضر النضير الممتد بمساحته البهية وتبتهج عينه لها، لكن.. لو أن هذا المرج مظلم، لا شمس تضيئ معالمه النضرة فكيف سيكون؟
لو جرب المرء أن يمشي في غابة مظلمة سيعلم مدى الوحشة والغموض المخيف الذي يكتنفها.. من أين أتى هذا الغموض؟ من اللون الأخضر شديد الخضرة المتحول إلى لون شبيه بالسواد..
وهذا التعبير اللوني الجميل لتحول اللون الأخضر للسواد وصف به الله سبحانه وتعالى جنان الخلد بقوله: (ومن دونهما جنتان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، مدهامّتان) أي سوداوان لكثرة الري بالماء. فأتى تعبير الشاعر عن الخوف بشدة اخضرار العشب ملائما جدا للمعنى المقصود.
الفنان التشكيلي عادة يستخدم نفس الألوان التي يستخدمها فنان آخر، لكن توزيع اللون هو الميزان الدقيق المعبر عن دواخل ومشاعر الفنان، فتأتي اللوحة انعكاسا مثاليا لتلك المشاعر، ونلمس مثل تلك اللوحة في قصيدة يوسف - مقامات ملحونة إلى عروس الروح
هنا في لونِ عُشبِـكِ
قد وجدتُ الدارَ والجيرانَ
والأهْلا
هنا في حَقلكِ الرّيـانِ
ضَمَّتْ أحرفِي الرَّيْحَانَ والفُـلاَّ
هنا وعلى عُذوقِ نخيلكِ العالي
غدوتُ مراهقاً طِفلا
وجازتْ بي مَداراتي
فرائدَ عِقْدِكِ الأغلى
وأُوشِكُ أن تُطَوّقُني اللآلىء
والحَلا فيها ولا أَحْلَى
هكذا نراه يوزع اللون الأبيض البهيج للريحان والفل وبريق لآلئ فتاته على خلفية خضراء واسعة من عشبها النضير ونخيلها السامقة بدرجات اللون الأخضر بشكل ملفت جميل..
أو حين يقول في جواد من صهيل الشام
أنمو في أمطار سمائك
أنمو ..في خارطة شرودك
في فصل الصيف المتبادل
بين الثغر وبين ورودك
في زمزم ناعورة مائك
تلك المارشقتني يوما
بفراتٍ من سندس ضوئك
فهذه اللوحة وحدها عكست زرقة سمائها على صفحة ذاك الزمزم الفرات، كثّف فيها الشاعر صلات الألوان ببعضها البعض، فجعل بياض الثغر على تورد الخد يبدو أكثر نصوعا وجلاء، ثم أراد أن يزيد من تورده فجعل حرارة الصيف حوارا متبادلا ليشف عن خد حيي مرتبك.
في دائرة الألوان تقترب الألوان المتناغمة دائما فنجد الأحمر قريبا من البرتقالي ثم الأصفر وهكذا.. وهذا التناغم وجدته جليا في قول شاعرنا:
يا موكب همس ٍ موصول ٍ
يا أسراباً من بتلات ٍ
يهجعن على صفحات الورد الجوريّ
يطهّرن بلون الحناء
دمائي
اختار درجات اللون الأحمر في صفرة الحناء البرتقالية إلى بتلات الجوري القانية فحمرة الدم الداكنة..
كما أن البعدين (الشكل واللون) كان لهما حظ في صوره اشعرية، فلابد لتكتمل اللوحة بشكلها الخالب من بعد ثالث هو الفراغ، والشاعر أبو سالم يحب - كما يظهر جليا في شعره- أن يرسم مشاهده الملونة على خلفيات محددة ليجعلنا نحس بالفراغ الذي يتركه دون ألوان.. فتارة يرسم اللوحة على صفحة بيضاء، وتارة على بساط أخضر، وأحيانا أخرى على سواد حالك غامض، فخلفياته غالبا بياض نهار مضيء أو سكون ليل معتم.
وبعد.. فلا أستبعد أن نجد للضوء والظلال وحركتهما وانسجامهما نصيب في قصائد لم تصلنا بعد لهذا الشاعر الفنان..
لكم ودي