التلاعب بميزان الطبيعة
كاظم فنجان الحمامي
وأخيرا تغلغلت مياه البحر المالحة في شط العرب حتى اجتازت الفاو, وتخطت (أم الرصاص), وطغت على تربة (العجيراوية), وعبرت (الخورة), و(السرّاجي). وانعطفت باتجاه (كرمة علي), وربما ستقتحم (قلعة صالح), أو تتسرب إلى (الجبايش) ومنها إلى (سوق الشيوخ). فقد عبث الجيران بميزان الطبيعة, وتلاعبوا بأنظمتها النهرية, واحتكروا منابع المياه العذبة, فأقاموا السدود, وشيدوا الخزانات العملاقة, وجففوا روافد دجلة والفرات, وحوّلوا مجرى (الكارون) نحو ترعة (بهمنشير). وتلاعبوا بتصريف نهر (الوند), ونهر (سيروان), فانخفض منسوب نهر (ديالى), وجفت منابع نهر (الكرخة), وأصيب نهر (السويب) بكولسترول الأطيان, فتصلبت شرايينه, ومات بالسكتة النهرية. واجتاحت موجات العطش بساتين (المخراق), و(السيبة), وربوع (الفداغية), و(الزيادية), و(أبو الخصيب), و(حمدان), و(باب سليمان), وفقدت الماشية نعمة البصر. واستفحلت الموجات المدية القادمة من البحر, وصارت تصول وتجول في جداول وتفرعات شط العرب, الذي فقد قدرته على الصمود بوجهها, ولم يعد قادرا على كبح جماحها. وفشل في إرجاع عقارب ميزان التصريف النهري إلى قراءاتها الطبيعية السابقة. فقد كانت مياه شط العرب المتدفقة نحو البحر, تتمتع بقوة طبيعية مستمدة من محصلة قوة التصريف النهري لدجلة والفرات والروافد الكثيرة المرتبطة بهما, فتتشكل في القرنة المحصلة العامة للعناصر المكونة لقوة شط العرب, وهي العناصر التي كانت تمنحه الصلابة والفتوة والحيوية اللازمة لإيقاف تغلغل الموجة المدية, ومقاومتها وعدم السماح لها باجتياز حدود (رأس البيشة), كان شط العرب يخوض صراعا يوميا, بمعدل مرتين في اليوم مع الموجة المدية, وكان قادرا على إخماد الموجات القادمة من جهة البحر, والتغلب عليها في الفترات التي تشتد فيها ضراوتها, وبخاصة في بداية ومنتصف الأشهر القمرية, وعند هبوب الرياح الجنوبية الشرقية المشبعة بالرطوبة. كان صراعا طبيعيا يتراوح بين شد وجذب, وبين اقتحام واندحار, ومد وجزر, وكانت مهمة شط العرب الرئيسة تتركز في الوقوف بوجه الموجة المدية القادمة من جهة الخليج العربي.
وصار شط العرب مستودعا لمياه البحر الشديدة الملوحة
أما الآن فقد انهارت تلك القوة, وتبددت عناصرها, ولم تعد إلى سابق عهدها, وخسر شط العرب الجزء الأكبر من عناصر قوته. في حين راح (شط البصرة) يتدفق خلسة نحو البحر (خور الزبير), ويتسلل عبر بوابات الناظم المهجور, ساحبا معه أفواجا لا يستهان بها من العناصر, التي يمكن الاستفادة منها في تعزيز قوة شط العرب. ومساهما في الإخلال بميزان الطبيعة, وحاملا معه كميات كبيرة من مياه البزل, التي ينبغي أن تضاف الآن إلى شط العرب, لكي تعزز من قدرات قواته المتصدية للموجة المدية المستفحلة.
البوابة الملاحية في الناظم مازالت مفتوحة منذ عام 2003
فمياه البزل أرحم بكثير من مياه البحر, إذن نحن في أمس الحاجة اليوم إلى توحيد قوة التصريف النهري في منطقة المصب, وتوجيهها باتجاه واحد, لكي تجتمع وتتدفق في شط العرب, وتحد من غارات الموجات المدية, ويتعين علينا الإسراع بغلق ناظم شط البصرة, وإزالة السدة الترابية المقامة شمال شط البصرة, فيتحول مجرى (المصب العام) تلقائيا نحو (كرمة علي), ومنه إلى شط العرب,
ضياع أهم العناصر المعززة لقوة شط العرب عبر بوابات ناظم شط البصرة
وأكاد اجزم إنّّ هذا الإجراء البسيط كفيل باستعادة بعض عناصر قوة الصد التي يحتاجها شط العرب, وتوظيفها في مصلحة البصرة وبساتينها التي ستقتلها الملوحة المتصاعدة, ومازالت بوابات ناظم شط البصرة مفتوحة على مصراعيها للمياه المهدورة في البحر وبكميات هائلة, ومن دون الاستفادة منها, إذن لابد من التفكير في كيفية تسخيرها في الاتجاه الذي يعود علينا بالنفع والفائدة, ولابد من البحث عن طوق النجاة الذي سينقذ البصرة وضواحيها من الحملة الكاسحة, التي تشنها عليها الموجات المدية العاتية, والتي لم تجد من يقف بوجهها, ويحد من طغيانها, ويضع حدا لجبروتها. لقد سبق لي أن تناولت هذا الموضوع في أكثر مناسبة, وكتبت عنه البحوث والمقالات المعمقة, لكنني كنت كمن يؤذن في صحراء الربع الخالي, وأرجو أن لا أكون وجماعة الموارد المائية كما قال أخو هوازن (دريد بن الصمة), حين حذر قومه:
أمرتكم أمري بمنعرج اللوى
فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد