بمطالعة كتابات المستشرقين عن الحضارة الإسلامية، وتناولهم لموضوعاتها ومباحثها؛ نستطيع أن نعلم مقدار الإضافة أو النيل أو الموضوعية التي تمتاز بها أي دراسة علمية من المفترض أنها تنطلق من رؤية تجعل الغرب/أوروبا محور دراسة تاريخ العالم!
الصلاة في القاهرة 1856
فالدكتور فاروق عمر مؤرخ العراق الكبير، أن النظرة الجادة لكتابات المستشرقين تؤكد أنهم «لم يكونوا على رأسٍ واحد وتفسير واحد للظاهرة التاريخية، بل تنوعت آراؤهم وتضاربت تفسيراتهم، وانتقد بعضهم البعض الآخر؛ فالبروفيسور جب Gibb حين يتكلم عن أعمال وكتابات المبشرين من المستشرقين يقول منتقداً بشدة: لقد قامت في صفوفهم في السنوات الأخيرة محاولة إيجابية تحاول النفاذ بصدق إلى أعماق الفكر الإسلامي بدل السطحية الفاضحة التي صبغت دراساتهم السابقة، ولكن ورغم ذلك فإن التأثر بالأحكام القديمة عن الإسلام ما زال قوياً في دراساتهم، ولا يمكن إغفالها»[1].
وكما كانت الغايات متفاوتة؛ فكذلك كانت أعمالهم؛ فالعناصر الإيجابية تتمثل على سبيل المثال في العناية بالمخطوطات العربية، وفهرستها وتحقيق العشرات منها، والقيام بالعديد من الدراسات اللغوية المفيدة والموسوعات النافعة. والعناصر السلبية؛ فتتمثل في العديد من الدراسات التي تناولت القرآن والسنة والسيرة؛ فالكثير من هذه الأخطاء يشتمل على أخطاء شنيعة لا تخفى على الباحث ذي العقلية الواعية[2].
هذه العناصر الإيجابية والسلبية لأعمال المستشرقين لها تأثيراتها القوية في الفكر الإسلامي الحديث إيجابًا وسلبًا كذلك، ومن ثم فإن دراسة الظاهرة الاستشراقية وتتبعها والرد على أخطائها والاستفادة من مآثرها هو أمر مهم لكل من يبغي تصحيح مسار المشروع الإسلامي العالمي.
لقد دأب المحتلون في إرسال طلاب العلم لنيل الدراسات العليا في المجالات الإسلامية المختلفة في بلدان المحتل، خاصة بريطانيا وفرنسا، ثم ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وروسيا، فظهرت في بداية القرن العشرين ظاهرة التشبع والاقتناع الكامل بما كتبه المستشرقون، حتى وجدنا بعض المشكلات العلمية الكبيرة آنئذ، ولعل أبرزها ما تناوله طه حسين في كتابه (في الأدب الجاهلي) وهو متأثر بما كتبه شيخه مرجليوث، ثم ما كتبه الشيخ علي عبد الرازق في (الإسلام وأصول الحكم) وهو متأثر بما كتبه شاخت وما أصدرته حكومة أتاتورك العلمانية من منشورات حينها، وكلا الكتابيْن ظهرا في العقد الثاني من القرن العشرين، وكان مشبّعًا بالرؤية الاستشراقية المعادية لحضارة الإسلام.
بهذه الدراسات التي أخرجها أبناء الإسلام عن قناعة، نستطيع أن نقرر أن هذه هي الذروة التاريخية التي وصلت فيها الدراسات الاستشراقية إلى اللحظة التي جعلت طلاب العلم المسلمين ينبهرون بما كتبه الغرب عنهم، لكن لحسن الحظ أن الإسلام وعلومه أقوى من هذه الفقاعات التي لا تبقى في سماء العلوم والتاريخ إلا قليلًا، ولكن ستزول بعد قليل دهشتنا مما كتبه كلٌّ من طه حسين، وعلي عبد الرازق، وإسماعيل أدهم، وسلامة موسى، وغيرهم؛ نظرًا لكمّ الدراسات والمعارف الاستشراقية التي أحاطت بمثقفي الأمة حينئذ، وهي دراسات يغلب عليها الجدّة والعمل الشاق، وإن لم تخلُ من أحكامٍ وقناعاتٍ ونتائجَ منبتة عن حقيقة الحضارة الإسلامية.
لقد بدأ المستشرقون يطرقون مجال النظم والمؤسسات الإسلامية منذ عام 1915م، عندما كتب الألماني كارل بيكر عن مؤسسة الخلافة، ثم أتبعها بكتابه (دراسات محمدية) عن تاريخ النظم الاجتماعية والاقتصادية في الإسلام عام 1924م، وكتب ميور الأسكتلندي عن مؤسسة الخلافة وظهورها وتدهورها، وتلاه أرنولد عن الموضوع نفسه سنة 1924م، ثم مارجليوث وهاملتون جب. وهناك من تناول هذه النظم في زمن دولةٍ بعينها، مثل ما كتبه كلٌّ من جويتن وسورديل اللذيْن كتبا عن (الوزارة العباسية).
والكثير من هذه الدراسات كان يتجه صوب التجنّي على الحضارة الإسلامية ونظمها، فمثلاً لم يرَ الألمانيّ روزنثال وجودًا لفلسفةٍ سياسيةٍ إسلامية؛ لأن الفقهاء – في زعمه – لم يسألوا: ماذا لو كان؟ ولماذا أن يكون؟ بل اهتموا بتطبيق الشريعة على الأمة[3].
وفي عام 1954م أصدر ليفي كتابه (التركيب الاجتماعي في الإسلام) وقد كان الألماني آدم متز أخرج كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)، وهو كتاب مهم تناول فيه العديد من نظم الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والمالية، والإدارية، مع وقوعه في أخطاء كثيرة، خاصة في حكمه على نظم الحكم والأوضاع الاجتماعية؛ نظرًا لضعف المادة العلمية، وجهله بالوضع الثقافي والتربوي للحضارة الإسلامية.
وقد تناول كل من بولياك وكاهين نظام الإقطاع في الإسلام، وتناول كل من لوكهارت ودينت الضرائب، وكتب فارمر كتابًا مهمًّا عن الموسيقى الإسلامية سنة 1929م، وكروزويل عن العمارة الإسلامية سنة 1932م. وظهرت الموسوعات كأهم مرجع غربيّ لدراسة النظم والمؤسسات الإسلامية، لعلّ من أهمها الموسوعة الإسلامية في لندن، ودائرة المعارف الفرنسية، والموسوعة البريطانية.
وعن الكتب المرجعية يقول الدكتور فاروق عمر: ’’والكتب المرجعية Reference Books (للمستشرقين) في التاريخ العام فهي عديدة وتتناول الإسلام تاريخًا وحضارة ضمن تاريخ البشرية العام. وهذه الكتب تتوجه عامة إلى المثقفين بالإضافة إلى الباحثين المختصين؛ ولهذا كان أثرها أكبر في التأثير على الرأي العام الأوروبي، وتتسم هذه المراجع بصفتين؛ الأولى: أنها بصورة عامة تنظر إلى الإسلام من خلال مفاهيم ومعايير وقيم الحضارة الأوروبية، وبعضها يحكم على الإسلام بقيم الكنيسة المسيحية وهي بذلك لا تخلو من تشويه واضح خاصة عند الكلام عن الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن. الثانية: أنها تنظر إلى الإسلام من منظور التاريخ الأوروبي ولذلك يحشر تاريخ الإسلام ضمن تاريخ العصور الأوروبية الوسيطة باعتباره مكملاً أو مقابلاً لها. ويُلاحظ التأكيد على الحروب الصليبية وحركة الاسترداد النصرانية في الأندلس والفعاليات الأوربية في آسيا وأفريقيا (الاستعمار) حيث يسرد تاريخ هذه المناطق عرضًا، وبمساحة صغيرة بالقياس إلى التواريخ الأخرى في العالم»[4].
ومن أهم هذه الكتب المرجعية (تاريخ العالم) الذي شارك في كتابته عددٌ كبيرٌ من المستشرقين وعلى رأسهم نولدكه وفلهاوزن وجولد تسهير، ويضم 25 مجلدًا، ويعد كتاب (موجز تاريخ العالم) لمؤلفه هـ.ج. ويلز من أشهر كتب المرجعية الأوروبية «التي تطرقت إلى الإسلام، ويعد ويلز نموذجًا للمؤرخ والمثقف الأوروبي المتأثر بالكتابات الاستشراقية وبتراكمات الصورة المشوّهة للإسلام في الغرب، فوجهات نظره عن الرسول صلى الله عليه وسلم معادية، لكن آراءه لا تخلو من تقدير للدين الإسلامي»[5].
وهناك نوع آخر من الكتب المرجعية شديدة التخصص، من أشهرها «تراث الإسلام» الذي نشر طبعته كل من جليوم و أرنولد في عام 1947م، ثم أكمله ونقّحه كل من شاخت و بوزوورث في عام 1973م، ومثله كتاب (تاريخ الإسلام لكمبردج) أشرف على تحريره المستشرق الشهير برنارد لويس و بيتر هولت و آن لامبتون، ومقدمته لا تخلو من تقدير وقبول للإسلام وحضارته، مع تحفظنا على وجهة برنارد لويس العامة في مناوئته لحضارة الإسلام.
وبعد هذا العرض السريع لأهم المؤلفات التي كتبها المستشرقون وأنواعها للنظم الإسلامية عمومًا، يجب أن نتوقف مع أحد الآراء التي خرجت بنتيجة غير صحيحة عن نظم الحكم في الإسلام، إنه رأي المستشرق الإنجليزي توماس أرنولد (ت1930م) في بحثه عن (نظرية الخلافة في الإسلام).
لقد ادعى أرنولد عدة دعاوى في بحثه ذلك؛ فرأى أن علماء المسلمين الذين أثبتوا بالأدلة النقلية والعقلية على شرعية الخلافة قد سبقهم إلى ذلك رجال الدين المسيحيين في العصور الوسطى، بل رأى أن فقهاء المسلمين يستعينون دائمًا بالأحاديث النبوية التي تضفي الشرعية على تصرفات الخلفاء والحكام في شتى العصور وقد كان بعضها موضوعًا كما يقول، ثم يرى أنهم أوردوا كل الأحاديث التي تقول بوجوب إطاعة الحاكم سواء كان عادلاً أم جائرًا، فإن كان عادلاً فله أجره وثواب عدله، وإن كان على الوزر فإن حسابه على ربه وللرعية ثواب الطاعة.
وقد خلص إلى أمرين؛ الأول: أن الخلافة بناءًا على ما سبق كانت تمثل حكمًا مستبدًا يضع في يد الحاكم سلطة مطلقة بلا قيد، تجب على كل الرعية الطاعة لها بلا تردد. الثاني: أن النظرية السياسية للخلافة تبدو بصفتها المعلنة هي إلهية المصدر، وعلى الرعية الطاعة أيًا كان الحكم[6].
ويتضح من رأي أرنولد أنه قاصر ولم يكن صحيحًا على الإطلاق، وقد رد عليه أكثر من باحث إسلامي في القديم والحديث.
لكن ما ذكره الدكتور العاني في كتابه القيم (الاستشراق والدراسات الإسلامية)، يتعدى مجرد الرد لمعرفة الأسباب الموضوعية التي جعلت أرنولد يخطئ في حكمه ذلك، فهو يرى أن أرنولد “بدأ من تصور غير صحيح للمضمون الاصطلاحي لعبارة النظرية السياسية مما أدى به إلى الخلط بين تاريخ واقع الخلافة الإسلامية، وبين الخلافة الإسلامية كنظام سياسي، ثم لعدم تصوره للمضمون الدقيق للفظتي “الاستبداد” و “التحكم” قد فوّت على القارئ إدراك حقيقة نظام الخلافة بانتسابه إلى الإسلام في خاصته الكبرى المتمثلة في التزامه الصارم بمبدأ المشروعية المتمثل في التزام الخليفة بأحكام الشريعة فسلطته مقيدة بالقرآن والسنة، والتزام الرعية بالطاعة ما لم يؤمروا بمعصية «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق..»[7].
ولعل بطوافنا السريع في هذا المقال قد أشرنا بصورة موجزة إلى أهم الدراسات الاستشراقية في مجال النظم الإسلامية.