ليست من نسج الخيال ..
ولا تحتاج إلى بحث عن أسانيدها في كتب الرجال ..
إنها قصة أنا من عاش وقائعها .. ورأى مشاهدها ..
إنها قصة شيخ صالح عابد .. عاشرته عشر سنوات تقريباً (خطيبا في القرية التي كنت أخطب فيها من 1412-1422)تقريباً .
توفي ـ رحمه الله ـ قبل خمس سنوات ،وقد نيّف على التسعين ..
كان هذا الشيخ رأساً في عشيرته من جهة الوجاهة ،ومن جهة الديانة ـ أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً ـ ..
مثل هذا الشيخ نادر ، بل هو غريب في عشيرته ..
هو من طراز العباد الذين كنا نسمع عنهم ـ ولقينا بعضهم ـ من أهل القرن السابق ،الذين يطلق عليهم اصطلاحا ـ عندنا في نجد ـ (الاخوان) ..
هذا الرجل من أكثر من رأيت تلاوة للقرآن ،مع كونه معدوداً من المحبين للعلم والصالحين ،وهو إلى العوام أقرب ـ في علمه ـ وإلى العلماء أقرب في عمله .. وهل يراد من العلم إلا هذا ؟!
كان يختم كلّ ثلاث .. وله دويٌّ إذا تلى القرآن .. بل ربما يسمعه من يدخل سور المسجد ـ أحياناً ـ لأنه يرفع صوته لثقل سمعه ..
يقسم لي بالله ـ وهو صادق فيما أحسب ـ أن أحب المجالس إليه تلك المجالس التي يغشاه فيها الدعاة أو طلبة العلم ..
فتلك المجالس كأنها عرس بالنسبة له .. يلحظ ذلك على وجهه كلُّ من رآه .. فالسرور يلوح على وجهه ،ومحياه يطفح بالبشر ..
كان سريع الدمعة ..
وإذا أردت أن تبكيه فاذكر له شيئا من أخبار الصالحين ..
أو حدثه عن نعيم الجنة ،أو عذاب النار ..
أو إن شئت فحدثه عن سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ..
ابتلي في آخر عمره ـ رحمه الله ـ بعدة أمور .. منها : وفاة زوجته قبله بعشرين سنة .. ومنها : آلالام كانت تعاوده قبل وفاته بسنوات ،كانت لا تجعله ينام كثيراً ..
ومن أعوص ما مرّ به ماء غشى عينيه ،حتى استحكم ،فحال بينه وبين قراءة كتاب الله ..
دخلتُ عليه ـ غفر الله له ـ بعد أن استحكم الماء على عينيه ، فبكى .. حتى أبكى ..
فقلت : ما الخطب أبا عبدالله ؟!
قال : الماء غطى عيوني (أزريت = عجزت) أقرأ قرآن .. هكذا نطق بها بلهجة عامية تعبر عن حرقة .. وأسى ..
ثم واصل حديثه قائلاً : (والله يا بو عبدالله ما عندي بها الدنيا غير هالقرآن يوسع صدري ،فإذا راح شوفي (يعني بصري) وش أبي بها الدنيا ؟! ) يقولها والدموع تتقاطر على لحيته ..
قلت له : يا أبا عبدالله ! أبشر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال ـ كما في حديث أبي موسى في البخاري ـ : (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيماً) .. أبشر فأجر قراءتك الذي منعته بسبب الماء الذي حال بينك وبين قراءة القرآن = ثابت بإذن الله ،وثقة بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فقاطعني بصوته المتهدج ،وبلهجة صادقة اختلطت بدموعه الحارة : ( لكن ما معي إلا كم جزء حافظهن قديم عند الشيخ ابن سالم الله يرحمه .. وأنا ودّي أختم .. ما أدري متى أموت !! ) ..
فقلت له : أدع الله يا أبا عبدالله أن الله يزيل عنك هذ الماء ،وأبشر ..
(وأصدقكم القول ـ أيها الإخوة ـ أنني قلتها بغير يقين .. لا شكاً في قدرة الله ـ حاشا ـ ولكن هو ضعف إيماني ويقيني تلك اللحظة ) ..
انصرفتُ من عنده ،وهو يتمتم بالحوقلة ،ويسترجع ..
إنا الله وإنا إليه راجعون .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
مضت مدة من الزمن ـ لا أدري هل شهر أو أكثر ـ فدخلت عليه كعادتي الأسبوعية بعد خطبة الجمعة ، فإذا وجهه يتهلل فرحاً .. وكلماته تتسابق إلى فمه ليبشرني بقوله : (أبشرك يا بو عبدالله .. أبشرك يا بو عبدالله .. راح الماء عن عيوني .. استجاب الله دعاي ) ..
قالها لي وكأن كنوز الدنيا كلهـــــــــــــــــــــا وضعت بين يديه ..
هنا .. وهنا بالذات .. مرت أمام خاطري معان لا أستطيع التعبير عنها الآن ..
أأتعجب من قوة يقين هذا الموحد ؟!
أم من إجابة الله دعاءه ـ كما عجبت زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام ـ ؟!
أم أبكي على ضعف إيماني ،ويقيني ..
لقد لقنني هذا الرجل الموحد .. وهذا الموقف دروساً لا أجدني آخذها من بعض العلماء ـ سواء في كتبهم أو ممن استفدنا من علمهم ـ رحهمهم الله أجمعين ..
ولم أملك إلا أن شاركته الفرحة بصدق ـ لأنني أحبته حبّ الولد لوالده ـ ..
بقي على هذه الحال من التعبد ،والاجتهاد في الطاعة حتى لقي ربه ..
رحم الله ذلك الشيخ العابد ، صادق اللهجة ،وجمعني به وبكم في الفردوس الأعلى ..
ويرحم الله عبداً قال : آمينا