رد : أدب الرحـــــــلة ...

ويعترف الأكاديمي الفرنسي جان ماري كاريه في بحث يعتبره الكثيرون البحث العماد لأدب الرحلات، بأن العرب كانوا سباقين في هذا الفرع من فروع الأدب، وأن اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي، جعل للعرب الفضل الأول في نشأة أدب الرحلة بالمعنى الذي تعارف عليه الغرب –فيما بعد- عبر كتابات ورحلات ماركو بولو ودانيال ديفو ولورانس ستيرن وسواهم، كما أن شخصية "السندباد العربي" المتخيلة هي التي ألهمت كبار الرحالة الأوربيين في عصر النهضة ومنهم فاسكو دى جاما وماجلان وكولمبوس، ويقال إن هذا الأخير كان مغرماً "بالسندباد" وابن ماجد الرحالة العربي العماني الشهير الذي قاد الأوربيين إلى الشرق الأقصى.
أما الناقد د. مجدي وهبة فيرى في دراسته حول "أدب الرحلات بين الشرق والغرب" أن هذا الأدب هو أحد الفنون المكتوبة التي تترك لمؤلفها قسطاً كبيراً من الحرية في اختيار الشكل والمضمون، ففيه شيء من السيرة الذاتية، وشيء من فن القص، وشيء من تيار الوعي والشعور المسترسل والذي لا يخضع لقاعدة سوى وحي الساعة وتداعي المعاني.
والحقيقة أن المرونة النسبية في هذا الفن لا تعني أنه لا يخضع لأي معيار أو قاعدة نقدية، فملاحظات الرحالة لابد أن ترمي إلى دلالات معينة في نفوس القراء إذا أرادت أن ترتقي إلى مرتبة الأدب، فليس كل من يسجل "انطباعاته" عن رحلة ما أديباً !
ومع أنه من المسلم به أن الحبكة القصصية ليست من ضرورات أدب الرحلات، لأن الرحلة الأدبية غالباً ما تسير في خط مستقيم، إلا أن عنصر التشويق دعامة أساسية من دعامات نجاح هذا اللون من الأدب، وأهم عناصر الجذب والتشويق في هذا الصدد هو رصد الغريب والمثير في مكان الرحلة، سواء العادات والتقاليد أو الحكايات الخرافية أو غرائب الأشياء، ومن هذا المنطلق كان المشرق العربي مقصداً للرحالة والأدباء والباحثين عن المغامرة، وظلت كتب الرحلات إلى الشرق هي الأكثر إمتاعاً للقارئ الأوروبي منذ مئات السنين، إلى حد أن بعضهم وصف هذه الرحلات بأنها "الوجه المبتسم للاستعمار".
ولكن المتعة الحقيقية في تقدير د. مجدي وهبه لأدب الرحلات هي كشف "بشرية البشر" في كل زمان ومكان، عن طريق التعرض لعادات الناس وتصرفاتهم أينما كانوا، فكلنا - في عرف الأديب الرحالة - لآدم، وآدم من تراب، وإذا كان حب المغامرة والاستطلاع هو الدافع الأول، فإن الهدف الأخير هو الاقتناع بأن البشر.. بشر!
ومن جانبها تقول الناقدة الإماراتية د. فاطمة الصائغ: إن أدب الرحلات من الآداب الراقية التي تعكس الأوضاع الثقافية والفكرية السائدة في المجتمعات الإنسانية، وليس الوضع المجتمعي للأفراد فحسب ولكن أنجح كتب الرحلات هي التي يصف مؤلفها بلاداً وشعوباً قلما تتاح للقارئ الفرصة لزيارتها أو التجوال فيها، لذلك كانت الكتب التي تتناول المشرق العربي هي الأكثر رواجاً، ومنها رحلات جيرار دى نرفال وهيرمان هيسه وغيرهم من ألمع كتاب وأدباء العالم في مطلع القرن العشرين.
وفى هذا الصدد يحكى أن الأديب الألماني الكبير هيرمان هيسه سئل ذات يوم عن السبب وراء رحلته إلى الشرق، فأجاب إجابة مبهمة مفادها أنه يرغب في "رؤية الأميرة فاطمة والظفر بحبها إن أمكن"!
وما لا يعرفه الكثيرون أن هذه الأميرة "فاطمة" التي ظنها البعض أميرة متخيلة، ما هي إلا الأميرة فاطمة طوسون التي حاول الملك أن يوقعها في حبه عام 1942م، وعرض عليها الزواج منه لكنها فضلت أن تتزوج رجلاً من عامة الشعب أحبته وهاجرت معه إلى البرازيل هرباً من الملك، والطريف أنه كتب عن هذه الرحلة كتاباً صغيراً يعد من أمتع كتب الرحلات على الإطلاق.
وأخيراً يقول الكاتب الصحفي الكبير محمود السعدني وهو صاحب العديد من الكتب التي تدخل في عداد أدب الرحلات ومنها "رحلات ابن عطوطة" و"الولد الشقي في المنفى" وغيرها: إذا كان المسرح "أبو الفنون" حقاً فإن أدب الرحلات هو "أبو الآداب" ذلك أن في الأسفار –كما يقولون- سبع فوائد، مع العلم أن جيلنا كله من المثقفين نكتب عليه "لعط" في البلاد وداخ فيها دوخة الأرملة فكان لابد أن يكون العبد لله "ابن عطوطة"!
ورحم الله عمنا الكبير ابن بطوطة الذي كان دقيق الملاحظة شديد الاهتمام بالناس، شديد الشوق للبلاد والعباد، وعندما بدأ ابن بطوطة رحلته الميمونة على صهوة بغل، كان الوطن العربي يسترخي في هدوء والحدود سداح مداح والبساط أحمدي، وكان أمير المؤمنين يعطس في القاهرة فيقول له من في الدار البيضاء "يرحمكم الله" فلا جمارك ولا مكوس ولا حدود و.. لا يحزنون!
وماذا عن أدب الرحلات العربي في عصرنا الراهن؟
- في زمن العبد لله لا حول ولا قوة إلا بالله، الجمارك في كل مكان من بلاد العرب لا تنقض إلا على العربي، ولا تفتش إلا من يبدو من سحنته أنه من نسل عدنان أو قحطان، ورجل الشرطة في بلاد العرب الجديدة لا يقتفي إلا أثر الأعراب "الأغراب"!
ولهذا تدهور أدب الرحلات العربي تدهوراً لا مثيل له، ولم يعد في مقدور الكاتب أن يزور بلداً عربياً شقيقاً إلا ويخضع للمساءلة أو المراقبة على أقل تقدير، ناهيك عن أن زيارة الكاتب العربي لأي بلد أجنبي في أوربا أو أمريكا معناه أن يتهموه مسبقاً "بالإرهاب" والكباب في هذا الزمن الهباب!
أدب الرحلات
"السندباد" مكتشف أمريكا!

*****
إذا كان "حب الاستطلاع" هو الذي أخرج آدم وحواء من الجنة، فإن لهذا النوع من التشوق الإنساني إلى المعرفة فضيلة واحدة –على الأقل- هي أنه كان السبب الأول وراء ظهور نوع فريد من الأدب العالمي يعتبر جسراً للتواصل الحضاري هو "أدب الرحلات"!
وقديماً قال الرحالة العربي المعروف أبو الحسن المسعودي: "ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما لديه من الأخبار كمن وهب عمره لقطع الأمصار، فاستخرج كل دقيق من معدنه، واستجلى كل نفيس من مكمنه".
ولهذا السبب كان أدب الرحلات حتى عهد قريب وقبل عصر الفضائيات والكمبيوتر والإنترنت، فرعاً مزدهراً من فروع الأدب ومصدراً مهماً من مصادر المعرفة الإنسانية يسجل طرائق حياة الشعوب وغرائب المجتمعات، حتى إن كتاب الصحفي الكبير أنيس منصور بعنوان "أغرب الرحلات في التاريخ" ظل –على ضخامته- يتصدر أعلى الكتب مبيعاً منذ صدوره عام 1982م وحتى عام 2002م أي على مدى 20 عاماً تقريباً.
ولكن لماذا تراجع أدب الرحلات العربي في أيامنا الحالية، رغم أن العرب هم أول من ابتدع هذا الجنس الأدبي عبر رحلات الإدريسي والمسعودي وابن بطوطة وغيرهم من الرحالة العرب العظام، الذين جابوا مشارق الأرض ومغاربها وقدموا للمكتبة العربية كتابات أصبحت بمثابة مراجع في مضمارها.. ولماذا لم يعد هناك "أدباء رحالة" مثل أنيس منصور ود. حسين فوزي في عصرنا الراهن؟ أسئلة عديدة سنحاول الإجابة عليها في السطور التالية.المعقول واللامعقول
يقول د. صلاح الدين الشامي أستاذ الجغرافيا بجامعة صنعاء إن أدب الرحلات العربي ازدهر قديماً على أيدي الجغرافيين والمستكشفين الذين اهتموا بتسجيل كل ما وقعت عليه عيونهم أو وصل إلى آذانهم، حتى لو كان خارج نطاق المعقول ويدخل في باب الخرافة، ولكن الرحلة سواء في البر أو البحر ظلت –على الدوام- هي العين المبصرة التي قادت الاجتهاد الجغرافي على مر العصور.ويعترف الأكاديمي الفرنسي جان ماري كاريه في بحث يعتبره الكثيرون البحث العماد لأدب الرحلات، بأن العرب كانوا سباقين في هذا الفرع من فروع الأدب، وأن اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية في العصرين الأموي والعباسي، جعل للعرب الفضل الأول في نشأة أدب الرحلة بالمعنى الذي تعارف عليه الغرب –فيما بعد- عبر كتابات ورحلات ماركو بولو ودانيال ديفو ولورانس ستيرن وسواهم، كما أن شخصية "السندباد العربي" المتخيلة هي التي ألهمت كبار الرحالة الأوربيين في عصر النهضة ومنهم فاسكو دى جاما وماجلان وكولمبوس، ويقال إن هذا الأخير كان مغرماً "بالسندباد" وابن ماجد الرحالة العربي العماني الشهير الذي قاد الأوربيين إلى الشرق الأقصى.
البشر.. بشر

والحقيقة أن المرونة النسبية في هذا الفن لا تعني أنه لا يخضع لأي معيار أو قاعدة نقدية، فملاحظات الرحالة لابد أن ترمي إلى دلالات معينة في نفوس القراء إذا أرادت أن ترتقي إلى مرتبة الأدب، فليس كل من يسجل "انطباعاته" عن رحلة ما أديباً !
ومع أنه من المسلم به أن الحبكة القصصية ليست من ضرورات أدب الرحلات، لأن الرحلة الأدبية غالباً ما تسير في خط مستقيم، إلا أن عنصر التشويق دعامة أساسية من دعامات نجاح هذا اللون من الأدب، وأهم عناصر الجذب والتشويق في هذا الصدد هو رصد الغريب والمثير في مكان الرحلة، سواء العادات والتقاليد أو الحكايات الخرافية أو غرائب الأشياء، ومن هذا المنطلق كان المشرق العربي مقصداً للرحالة والأدباء والباحثين عن المغامرة، وظلت كتب الرحلات إلى الشرق هي الأكثر إمتاعاً للقارئ الأوروبي منذ مئات السنين، إلى حد أن بعضهم وصف هذه الرحلات بأنها "الوجه المبتسم للاستعمار".
ولكن المتعة الحقيقية في تقدير د. مجدي وهبه لأدب الرحلات هي كشف "بشرية البشر" في كل زمان ومكان، عن طريق التعرض لعادات الناس وتصرفاتهم أينما كانوا، فكلنا - في عرف الأديب الرحالة - لآدم، وآدم من تراب، وإذا كان حب المغامرة والاستطلاع هو الدافع الأول، فإن الهدف الأخير هو الاقتناع بأن البشر.. بشر!
رحلة الأميرة فاطمة

وفى هذا الصدد يحكى أن الأديب الألماني الكبير هيرمان هيسه سئل ذات يوم عن السبب وراء رحلته إلى الشرق، فأجاب إجابة مبهمة مفادها أنه يرغب في "رؤية الأميرة فاطمة والظفر بحبها إن أمكن"!
وما لا يعرفه الكثيرون أن هذه الأميرة "فاطمة" التي ظنها البعض أميرة متخيلة، ما هي إلا الأميرة فاطمة طوسون التي حاول الملك أن يوقعها في حبه عام 1942م، وعرض عليها الزواج منه لكنها فضلت أن تتزوج رجلاً من عامة الشعب أحبته وهاجرت معه إلى البرازيل هرباً من الملك، والطريف أنه كتب عن هذه الرحلة كتاباً صغيراً يعد من أمتع كتب الرحلات على الإطلاق.
رحلات "ابن عطوطة"!

ورحم الله عمنا الكبير ابن بطوطة الذي كان دقيق الملاحظة شديد الاهتمام بالناس، شديد الشوق للبلاد والعباد، وعندما بدأ ابن بطوطة رحلته الميمونة على صهوة بغل، كان الوطن العربي يسترخي في هدوء والحدود سداح مداح والبساط أحمدي، وكان أمير المؤمنين يعطس في القاهرة فيقول له من في الدار البيضاء "يرحمكم الله" فلا جمارك ولا مكوس ولا حدود و.. لا يحزنون!

- في زمن العبد لله لا حول ولا قوة إلا بالله، الجمارك في كل مكان من بلاد العرب لا تنقض إلا على العربي، ولا تفتش إلا من يبدو من سحنته أنه من نسل عدنان أو قحطان، ورجل الشرطة في بلاد العرب الجديدة لا يقتفي إلا أثر الأعراب "الأغراب"!

(إعداد: طايع الديب)
*****
د. أبو شامة المغربي
تعليق